“
في تطور لافت، قضت محكمة جنح الدقي مؤخراً بحبس الفنان (أ.ع.م) ثلاثة أشهر، وكفالة 200 جنيه لإيقاف التنفيذ، في اتهامه بضرب زوجته الفنانة (س.ن). كانت الزوجة قد تقدمت ببلاغ، اتهمت فيه زوجها بالتعدي عليها بالضرب في 26-10-2018، وأحالت النيابة العامة الواقعة إلى محكمة الجنح، التي نظرت في بلاغ الزوجة، وأصدرت حكمها بإدانة الزوج.
ونظراً لأهمية هذا الحكم، باعتباره قد يكون بداية لتطور قضائي حديث نحو إعادة إحياء أحكام قديمة، قضت فيها محكمة النقض المصرية بأنه لا يوجد في القانون ما يسقط عقوبة الزوج عن ضرب زوجته[1]، وإن لم يتجاوز في ضربها حدود حق التأديب، وبالتالي لا يجوز الطعن على الحكم بدعوى أن الزوج لم يتجاوزحدود التأديب. ومقتضى هذا القضاء القديم، الذي يحاول الحكم محل التعليق إحياءه، أنه لا وجود للتأديب بالضرب من الوجهة القانونية، أياً كانت درجة جسامته، وأياً كان الأساس الذي يستند إليه الزوج في ضرب زوجته.
وحتى نبين وجه الحق في هذه القضية الشائكة، التي تختلط فيها الجوانب القانونية بالاعتبارات الدينية، نبدأ بتحديد ماهية حق التأديب المقرر للزوج، ثم نبين الأساس القانوني لتجريم ضرب الزوجة في ظل النصوص النافذة في قانون العقوبات المصري، لنخلص إلى دلالة الحكم القضائي الصادر الأسبوع الماضي.
سلطة تأديب الزوجة في القانون المصري
التأديب سلطة مقررة للزوج وفقاً لأحكام التشريع الإسلامي، وهي سلطة يعترف بها قانون العقوبات المصري في مادته السابعة، التى تقرر أنه “لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء”.
النص السابق كان وارداً في المادة الأولى من قانون العقوبات المصري الصادر سنة 1883، ونقل إلى قانون العقوبات الحالي الصادر سنة 1937. وقد ثار الخلاف الفقهي حول عبارة “الحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء”. فذهب بعض الفقه إلى القول بأن هذه العبارة تشمل حق التأديب المقرر للزوج أو للولي، كما تشمل حق ولي الدم في الدية. لكن بعض الفقهاء ذهبوا إلى أنها تقرر حق ولي الدم في القصاص والدية معاً.
وما نراه أن عبارة “الحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء” يقتصر نطاقها على الحقوق التي تقررها الشريعة الإسلامية، فيما تسري فيه أحكامها، باعتبارها جزءاً من النظام القانوني الوضعى المصري. لذلك لا علاقة لهذه العبارة بالعقوبات الشرعية التي تقرر حقوقاً للمجني عليه أو أولياء الدم، مثل الحق في القصاص أو الدية، فالتنظيم القانوني للعقوبات، في القانون الوضعى المصري، لا يترك مجالاً لتطبيق العقوبات الشرعية المقررة لهذه الحقوق. ومن ثم يقتصر نطاق المادة السابعة من قانون العقوبات المصري على الحقوق المستمدة من الشريعة الإسلامية، في المجالات التي تعتبر فيها الشريعة قانوناً- وفقاً للنظام القانوني المصري-، وأهم هذه المجالات أحكام الأحوال الشخصية، ومنها الحق في تأديب الزوجة والصغار، وذلك في إطار المبادئ القانونية العامة التي تحكم نظام التجريم والعقاب في القانون المصري، وليس في ظل المفهوم السلطوي للعرف السائد، المبنى على تفسيرات متشددة للنصوص الشرعية، والذى يعترف للرجل بحقوق مطلقة، يترتب عليها التعسف وسوء الاستغلال.
ويثور الجدل بخصوص تأديب الزوجة، هل يعتبر حقاً للزوج أو هو سلطة يمارسها وفق ضوابط شرعية وقانونية؟ أو هي ولاية التأديب كما يذهب إلى ذلك بعض فقهاء الشريعة؟([2]).
وأياً كان الرأي في هذا الخلاف اللفظي، فإن الحق أياً كان مصدره يجب أن يستعمل استعمالاً مشروعاً، وبالوسائل التي يبيحها القانون المنشئ للحق وهو قانون العقوبات، وتحقيقاً للغاية التي يستهدفها القانون المقرر لهذا الحق. وإذا انتهينا إلى أن التأديب سلطة، فإنها يجب أن تمارس وفق الضوابط التي يقررها القانون، وأهمها ألا تمارس بوسيلة يعتبرها قانون العقوبات جريمة.
وتأديب الزوجة الذي تقرره الشريعة الإسلامية، ويعترف به قانون العقوبات المصري في مادته السابعة، يستند إلى نص قرآني يساء تفسيره عن قصد.
ودون الدخول في الضوابط الفقهية لحق التأديب المقرر في الشريعة الإسلامية، نقرر أن النص القرآني تدرج في وسائل التأديب، فجعلها الوعظ بالرق واللين، ثم الهجر في المضجع وليس هجر المضجع ذاته، وأخيراً الضرب. ولا يجوز للزوج أن يخالف هذا التدرج، بمعنى أنه إذا لجأ إلى الضرب مباشرة، كان فعله غير مشروع ويعاقب عليه القانون، بوصفه يشكل جريمة الضرب المعاقب عليها.
والضرب يشترط فيه – كما يقول الفقهاء – أن يكون غير مبرح أي غير شديد كي لا يؤذي الزوجة أو يؤلمها إيلاماً شديداً. ولا يجوز ضرب الوجه لما فيه من الإهانة والإذلال وترك أثر يظهر للناس. يضاف إلى ذلك أنه قد ورد في الحديث النهي عن ضرب النساء مطلقاً. وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار “فإن اكتفي بالتهديد ونحوه كان أفضل. وإذا وصل إلى الغرض بالإيهام أي الوعيد، فلا يعدل إلى الضرب، لما في ذلك من حصول النفرة المضادة لحسن العشرة المطلوبة في الزوجية”.
ويذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم جواز اللجوء للضرب مطلقاً كوسيلة لتأديب الزوجة من أجل الحفاظ على المودة بين الزوجين. كما أن حسن المعاشرة بالمعروف، التي هي عماد نظام الزواج، تعد مبدأ عاماً من المبادئ الشرعية التي ينبغي أن يلتزم بها الزوجان في علاقتهما.
تجريم ضرب الزوجة في التشريع المصري:
ما تقدم يتعلق بضرب الزوجة استعمالاً لحق التأديب المقرر للزوج شرعاً. فماذا عن موقف القانون المصري من ضرب الزوجة؟
نقرر من دون تردد أن الضرب إذا وقع من الزوج على زوجته تحت ستار حق التأديب، فإنه يشكل جريمة ضرب تستوجب عقاب الزوج قانوناً بالعقوبات المقررة لجريمة الضرب، حسب النتيجة التي يسفر عنها الضرب، أي حسب كونه ضرباً بسيطاً ( م 242 ع) أو ضرباً نشأ عنه مرض أو عجز عن الأشغال الشخصية مدة تزيد على عشرين يوماً (م 241 ع) أو ضرباً نشأت عنه عاهة مستديمة يستحيل برؤها (م 240 ع)، أو ضرباً أفضى إلى الموت (م 236 ع). فضرب الزوجة ولو وقع من زوجها، وأياً كانت درجة جسامته، يشكل جريمة ضرب في ظل النصوص العقابية السارية في التشريع الجنائي المصري.
وحجتنا في ذلك أن الضرب ليس حقاً للزوج على زوجته حتى يباح له طبقاً لنص المادة السابعة من قانون العقوبات. فحق الزوج هو في تأديب زوجته، وهو حق يعترف به القانون. لكن وسائل استعمال هذا الحق يجب أن تتقيد بالنصوص الواردة في قانون العقوبات المصري، فلا يجوز أن يكون استعمال الحق المعترف به قانوناً بوسيلة يعتبرها قانون العقوبات جريمة، مثل الضرب أو غيره من صور الإيذاء كالسب أو القذف.
وبناء عليه نقرر أنه إذا كان قانون العقوبات المصري يجرم الضرب، فلا يجوز استعمال الضرب كوسيلة لممارسة أحد الحقوق التي يعترف بها القانون. ولا يكون الضرب كوسيلة لاستعمال الحق مباحاً إلا إذا استثنى القانون من الضرب المعاقب عليه حالة ضرب الزوج لزوجته تأديباً لها. فلا يكفي لإباحة ضرب الزوجة قانوناً بحجة تأديبها أن يوجد نص شرعي أو اتفاق فقهي أو عرف مستقر يبيح ضرب الزوجة، ولو كان المتهم بالضرب زوجاً لها.
وفي ظل نظام قانوني وضعي لا يعتمد أحكام الشريعة الإسلامية في التجريم والعقاب وأسباب الإباحة، لا يجوز إباحة ضرب الزوجة قانوناً إلا بنص خاص في قانون العقوبات يستثنى هذه الصورة من الضرب من مجال التجريم. فمن المسلم به أن مصدر التجريم يجب أن يكون هو ذاته مصدر الإباحة. فإذا جرم قانون العقوبات سلوكاً ما، لزم لإباحة بعض صور السلوك المجرم أن يوجد نص من ذات الدرجة في قانون العقوبات ذاته لإمكان إباحة هذا السلوك. فالعرف مهما طال أمده لا يستطيع إلغاء نص التجريم، ونص التجريم مهما طالت مدة عدم تطبيقه على وقائع معينة تدخل في إطار النص يظل ساري المفعول، كما أن تهاون السلطات العامة في تطبيق النص أو التغاضي عن تطبيقه لاعتبارات معينة لا يشكك في وجوده وقوته وصلاحيته للتطبيق في أي وقت على ما يدخل في نطاقه من وقائع مستوجبة للعقاب.
يضاف إلى ذلك أنه إذا سلمناً جدلاً بأن ضرب الزوجة هو تأديب لها على معصية لا توجد لها عقوبة مقررة، أو هو عقوبة على نشوزها وعدم طاعتها لزوجها، فإن هذه العقوبة لا يمكن إقرارها في ظل النظام القانوني الوضعي المصري، الذي يعتمد مبدأ شرعية التجريم وقضائية العقاب كضمانة دستورية وقانونية لتجريم الأفعال والعقاب عليها، ومقتضى هذا المبدأ الذي تقرره المادة 95 من الدستور المصري أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي … كما تنص المادة 96 من الدستور على أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قضائية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. والتسليم بأن ضرب الزوج لزوجته يعد عقابا لها على نشوزها يخلق جريمة من دون نص قانوني، كما أنه ينشئ عقوبة توقع على الزوجة من دون محاكمة، وهو ما يخالف نصوصاً دستورية، ومواثيق دولية صدقت عليها مصر تتعلق بحماية حقوق الإنسان، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة حسب ما تقرره المادة 93 من الدستور. وقد حددت نصوص المواد 9 وما بعدها من قانون العقوبات الجرائم وجعلتها ثلاثة أنواع هي: الجنايات والجنح والمخالفات، ولا يوجد من بينها جريمة نشوز الزوجة، كما حددت العقوبات المقررة لهذه الجرائم، ولا تتضمن عقوبة الضرب.
لذلك يكون ضرب الزوجة ولو تحت ستار حق التأديب المقرر شرعاً للزوج جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات المصري. ولا سبيل لإخراج ضرب الزوجة من مجال التجريم القانوني إلا بنص خاص في قانون العقوبات يرفع صفة التجريم عن الضرب الواقع من الزوج على زوجته استعمالاً لحق التأديب، ونأمل ألا ينزلق المشرع لإصدار هذا النص.
موقف القضاء المصري من ضرب الزوجة:
في بدايات القرن العشرين تردد القضاء المصري في الاعتراف بحق الزوج في تأديب زوجته بالضرب وأثره في المسؤولية الجنائية عن جريمة الضرب. فبعض أحكام محكمة النقض أنكرت هذا الحق على الزوج، مقررة في هذا الخصوص أنه لا يوجد في القانون ما يسقط عقوبة الزوج عن ضرب زوجته وإن لم يتجاوز في ضربها حدود حق التأديب. لكن أحكاماً أخرى قديمة قضت بعكس ذلك، مقررة براءة الأزواج المتهمين بضرب زوجاتهم، مهما بلغت درجة التعدي، وأياً كان السبب الذي حمل المتهم على ضرب زوجته. وبعض الأحكام اتخذت موقفاً وسطاً، بإقرارها حق التأديب بالضرب الواقع من الزوج على زوجته بالقيود المقررة فقهاً، ومقتضاها إباحة الضرب الذي ينتج عنه الإيذاء الخفيف الذي لا يترك أثراً. فإن تجاوز الزوج هذه القيود، كان خارجاً عن حدود حقه في التأديب، ولو كان الأثر الذي حدث بجسم الزوجة لم يزد عن سحجات بسيطة، ومن باب أولى يسأل الزوج عن ضرب أفضى إلى موت إذا ضرب الزوجة على رأسها ضربة أدت إلى وفاتها.
لذلك يمثل حكم محكمة جنح الدقي تطوراً جديداً في هذه القضية، لأنه أدان الزوج بالحبس لمدة ثلاثة أشهر، وهو ما يعني أن الضرب كان ضرباً بسيطاً، مما تعاقب عليه المادة 242 من قانون العقوبات بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تقل عن عشرة جنيهات ولا تجاوز مائتي جنيه. ودلالة هذا الحكم أنه يؤكد ما انتهينا إليه من أن ضرب الزوجة أياً كانت جسامته يشكل جريمة طبقاً لقانون العقوبات المصري، وقد وقع القاضي عقوبة الحبس، ولم يقنع بعقوبة الغرامة البديلة للحبس. كما يؤكد الحكم تكون القناعة لدى النيابة العامة بتجريم القانون لضرب الزوجة، ووجوب العقاب عليه، بدليل إحالة واقعة الضرب إلى محكمة جنح الدقي بالقاهرة لتوقيع العقاب المقرر لهذه الجريمة.
من المؤكد أن المتهم سوف يطعن على هذا الحكم أمام محكمة الجنح المستأنفة، التي يكون أمامها أن تقبل الاستئناف شكلاً وتقضي في الموضوع إما بتأييد حكم محكمة أول درجة، أو بتخفيف عقوبة الحبس أو إبدال الغرامة بها، أو تبرئة المتهم معتبرة أن ضرب الزوجة ينضوي تحت لواء التأديب، مهما بلغت درجة التعدي، وأياً كان السبب الذي حمل المتهم على ضرب زوجته، كما ذهبت إليه بعض الأحكام القديمة لمحكمة النقض المصرية.
ويحدونا الأمل في أن ينتصر القضاء المصري لحق المرأة في السلامة البدنية، وأن تتواتر الأحكام القضائية وتستقر على ما انتهى إليه حكم محكمة جنح الدقي من تجريم هذه الصورة من صور العنف الأسري التي تنتشر وتزداد حدة في المجتمع المصري، خصوصاً مع استحكام الأزمة الاقتصادية، وتدني مستوى معيشة كثير من الأسر المصرية. فمع هذه الأزمة يزداد الانفعال والتوتر وتتفاقم الخلافات الزوجية، ويكون الاحتكام إلى القوة البدنية هو السبيل الأيسر لتسويتها، في وجود تفسيرات فقهية متشددة تبرر للزوج التعدي على زوجته وأولاده تحت ستار حق التأديب الذي تقرره الشريعة ويعترف به قانون العقوبات.
[1] ( نقض 9 يناير 1897، مجلة القضاء، س4، ص110 ).
([2]) الدكتور/ محمد كمال الدين إمام، أحكام الأسرة في الإسلام، الزواج وآثاره، 2003، ص 239.
“