يأتي صوت سمر (اسم مستعار)، جارة شهداء مجزرة أيطو، قضاء زغرتا، مخنوقًا عبر الهاتف. بعد ثلاث جمل من حديثنا، تقفل الخط بيني وبينها، لترسل لي صورة صحن سمك مشوي. ما إن أفتح الصورة حتى تعاود الاتصال “هودي السمكات بعتلنا إياهم أبو علي حجازي، قبل دقايق من تدمير البيت فوق راسهم”. وأبو علي هو كبير العائلة التي استهدفها الطيران الحربي الإسرائيلي في منزل قديم استأجرته في أيطو، واستشهد مع 22 فردًا من عائلته وأقاربه وجيرانه، بينهم طفلتان و13 امرأة، فيما لا يزال 4 آخرون يتلقّون العلاج في المستشفى. والشهداء من عائلات حجازي وفقيه ومراد وعيسى.
مجزرة دفعت بمفوضيّة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، يوم الثلاثاء 15 تشرين الأوّل، في اليوم التالي للمجزرة بالدعوة إلى إجراء التحقيق في الغارة التي استهدفت مبنى سكنيًا. وقال المتحدث باسم المفوضية جيريمي لورانس في مؤتمر صحافي إنّ المفوضيّة تلقّت تقارير تفيد بأنّ أغلب الشهداء الذين سقطوا في الغارة كانوا من النساء والأطفال. وأضاف: “مع وضع هذه العوامل في الاعتبار، فإنّ لدينا مخاوف حقيقية فيما يتعلّق بالالتزام بالقانون الإنساني الدولي وقوانين الحرب ومبادئ التمييز والنسبة والتناسب”.
وفي المؤتمر الصحافي نفسه الذي تحدّث فيه لورانس، قالت ريما جاموس امصيص مديرة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الشرق الأوسط إن “أوامر الإخلاء الإسرائيلية الجديدة لعشرين قرية في جنوب لبنان تعني تأثّر أكثر من ربع البلاد الآن”. وأضافت: “الآن أصبح أكثر من 25 بالمئة من البلاد خاضعًا لأمر إخلاء عسكري إسرائيلي مباشر. والناس يستجيبون لأوامر الإخلاء هذه، ينزحون وهم لا يملكون شيئًا تقريبًا”. هذه الأوامر بالإخلاء لم تنسحب على أيطو، حيث لم يصل إلى الضحايا أي إنذار مسبق من خلال اتصال مباشر أو عبر منشورات الناطق باسم جيش الاحتلال، وكانت العائلة في المبنى المستهدف تتناول الطعام لحظة الغارة، وفق ما تؤكده سمر جارتهم.
من سمر نعرف أنّ العائلة كانت مجتمعة حول سفرة الطعام: “كنّا بعدنا ما أكلنا ولا هنّ أكلوا”، تقول قبل أن تضيف: “هيك بلا إنذار أو تحذير، قصفتهم إسرائيل تلات صواريخ”. ثم تسأل كمن يُحدّث نفسه، وتجيب: “ع شو بدها تحذر؟ أو تأنذر، شو ممكن يكون معه مزارع من عيترون؟ شتلة تبغ؟ أو مسحة قمح؟ أو بقرة ما لحق يبيعها قبل ما يتهجّر؟، تركوا بقراتهم بالضيعة”.
ما يؤلم سمر أيضًا أنّ العائلة لم تكن قد استوعبت بعد استشهاد أربعة من أفرادها إثر استهدافها في محطة نزوحها الأوّل في صريفا: “قصفوهم هونيك ليطلّعوهم من كل الجنوب، وهونيك خسروا 4 منهم، وفكروا إنه أيطو آمنة وبعيدة، ساقوا 200 كلم من عيترون، وما نجوا”. في صريفا، دفنت العائلة شهداءها الأربعة وديعة “كان أبو علي يقول إنّه بدو ياخد الجثامين معه هو وطالع ع عيترون، ويردّهم ع ترابها قبل ما يرجع ع بيته”، وفق سمر. “واليوم صار في 23 وديعة جديدة ببلدة بحبوش بالكورة ناطرين مين يرجّعهم ع عيترون”.
تعرّفت سمر إلى شهداء أيطو عند وصولهم إلى البلدة “قلت بطِلّ عليهم بشوف شو ناقصهم”. وهناك رأتهم كيف “بيطّوو التياب ويحطوها تحت رؤوسهم مخدات ليناموا، وبلا أغطية، وأيطو الضيعة بترتفع ألف متر عن سطح البحر، باردة”. كانت الأمهات يغطين صغارهنّ بـ “فساتينهنّ الطويلة”. صارت سمر ترافقهم إلى جمعيات وجهات إغاثية علّها تساعدهم على تأمين أدنى الاحتياجات: “ساعدتهم ليؤمّنوا أغطية بتدفّي كمان”، وهذه المساعدة ردّت عائلة حجازي ضعفها: “صار أبو علي كلّما نزل ع طرابلس ليجيب خضرا بالصناديق لأنّه أرخص يجيب لنا معه، صباح المجزرة عبّولنا مي”، تقول، وهي تبكي.
ارتكبت إسرائيل مجزرة أيطو استكمالًا لسياسة استهداف النازحين في مناطق إيوائهم، وتخويف القرى والبلدات المضيفة والحاضنة لهم، وصولًا إلى الامتناع عن استقبالهم، وحتى الطلب منهم إخلاء المنازل المؤجّرة من قبل مالكيها. ومجزرة أيطو هي التاسعة من حيث ترتيب مجازر العدوان الإسرائيلي في حق نازحين، بعد استهداف بعدران (الشوف)، وعين الدلب (شرق صيدا)، ومجزرتيالمعيصرة (قضاء جبيل)، وإبل السقي (قضاء مرجعيون)، ومجزرتي البسطة والنويري ومركز إيواء نازحين في الوردانية (الإقليم)، وصولًا إلى أيطو.
“ناس عزّل نزحوا إلى منطقة اعتبروها آمنة”
يتحدّر غالبية شهداء أيطو من عائلة واحدة تفرّعت إلى أكثر من أسرة، استشهدت معهم جذر الأسرة الجدّة سرية حجازي (87 عامًا)، إضافة إلى جيرانهم من آل فقيه ومراد وعيسى، الذين شاركوهم البيت نفسه بعدما خصّصوا الطابق الأرضي للرجال، والطابق الثاني للنساء والأطفال.
وقد نعت بلدية عيترون الشهداء الـ 23 في اليوم التالي للمجزرة وهم: حسين محمد حجازي، سناء عبد الكريم مرمر، علي حسين حجازي، جنى كامل قاسم، الطفلة إيلين علي حجازي، فؤاد حسين حجازي، عباس حسين حجازي، علاء حسين حجازي، الطفلة رقية حسين عيسى، سكنة علي حجازي، علي حسن حجازي، محمد حسن حجازي، عباس حسن حجازي، سريّة علي عواضة، ليلى حسين حجازي، مريم حسين حجازي، أمال محمد حجازي، أحلام علي مراد، دلال علي مراد، أحمد علي فقيه، منال ناجي حمد، سلمى محمد عبد المنعم ونجية محمود حمد.
بعد أن شكر رئيس بلدية عيترون سليم مراد أهالي الكورة عامّة وفعالياتها، وأهالي بلدة بحبوش خاصّة حيث دُفن شهداء مجزرة أيطو وديعة بانتظار إعادتهم إلى عيترون، نوّه بجهود أهالي قضاء زغرتا وشمال لبنان عامّة في احتضان النازحين، مؤكدًا أنّ “العدو الصهيوني يعتدي على كل لبنان المنتصر دائمًا بوحدته في وجه العدو الصهيوني المجرم”. وشدد مراد على أنّ لا مبرر لهذه الجريمة هم “ناس عزّل، نزحوا إلى منطقة اعتبروها آمنة”.
كلام المختار ورئيس البلدية يؤكّده صاحب المبنى المستهدف في أيطو إيلي علوان “اتصل فيي صديق مغترب من أفريقيا وطلب مني إذا بقدر ساعد بتأمين بيت كبير للعيلة المؤلفة من 28 شخص”، يقول لـ “المفكرة”. وعليه، سكنت العائلة منزل علوان المؤلف من ثلاث طبقات “معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، وأنا بعرفهم، لا ينتمون إلى أي جهة سياسية أو حزبية”.
ويشير علوان إلى يوم وقوع المجزرة الإثنين في 14 تشرين الأوّل، “وصل شخص إلى المبنى في أيطو، آتيًا من البترون، مرّ على بلدة كفرفو ثم عرّج على عائلة حجازي في أيطو بقصد إجراء الإحصاء وتقديم المساعدة لهم”. وبعد دخوله المبنى بدقائق، استهدفته إسرائيل بثلاثة صواريخ دمرته عليهم جميعًا.
وبشهادة أكثر من شخص، تطايرت أموال بالعملتين اللبنانية والأميركية في محيط المنزل “أنا شفت كتير ناس عم تلمّ مصاري” وفق ما أكد أكثر من شخص لـ “لمفكرة” “الرجل كان جايب لهم مساعدات لتأمين احتياجاتهم”. وتقول سمر إنّ العائلة كانت تحتاج إلى 17 ربطة خبز في اليوم “على سبيل المثال، يعني حاجتهم كانت كبيرة نظرًا لعددهم”.
إسرائيل تطارد النازحين
ما إنْ وقعت مجزرة أيطو حتى طلب أصحاب بيوت في البلدة من النازحين إخلاء المنازل المؤجّرة سواء في أيطو أو في بعض محيطها. وهو ما أكده أكثر من مصدر لـ “المفكرة”: “في ناس منحت عائلات نازحة 15 يومًا، أي لغاية نهاية الشهر الجاري”. وتقول إحدى النازحات إلى أيطو لـ “المفكرة” إنّها بادرت إلى إخلاء الشقة التي استأجرتها “عرفت إنه في كتير طلبوا من النازحين ترك البيوت، فقلت ببادر وبفل لحالي، ما بدي إسمع حدا عم يطلب مني أترك البيت”. وتزامنت ردود فعل السكان مع توافق نوّاب المنطقة على “أمنَنة” النزوح.
وأفاد أحد سكان أيطو “المفكرة” أنّ لا وجود لمراكز إيواء نازحين في القرية التي تستقبل حوالي 8 عائلات نازحة إمّا عند معارف لها، أو في بيوت مُستأجرة.
وتشكّل مجزرة أيطو جريمة حرب وفقًا للقانون الدولي الإنساني الذي يحظر توجيه هجمات ضدّ السكان المدنيين أو مهاجمة المساكن التي لا تكون أهدافًا عسكرية. ولا يمكن اعتبار المدنيين الذين يتوّلون مسؤوليات سياسية أو مالية أو إنسانية في منظمة مسلحة مثل حزب الله أهدافًا مشروعة للعمليات العسكرية. كما يحظر القانون أعمال العنف التي يكون الغرض الأساسي منها نشر الرعب بين السكان المدنيين.
عيترون بلدة التبغ وجارة فلسطين
يقول مختار عيترون حسيب فقيه في اتّصال مع “المفكرة” إنّ أفراد عائلتي حجازي وفقيه، كمعظم أهالي عيترون الصامدين في البلدة، يعملون في زراعة التبغ والحبوب والخضار البعلية “هودي ناس كادحين لا ينتمون إلى أي حزب”. أما مَن ترك شغل الأرض من الجيل الجديد، فيعمل، وفق المختار، في قطاع البناء والميكانيك “مثلًا الشهيد فؤاد حسين حجازي عنده محل تغيير زيت سيارات وبيع إطارات ع طريق تبنين السلطانية”.
ويتحدّث المختار عن أبناء بلدته: “متلهم متل مزارعي عيترون، طيبين وخلوقين وسمعتهم متل الدهب وكل الناس بتحبهم”.
يقول رئيس الاتحاد الوطني للعمال والمستخدمين كاسترو عبد الله، ابن بلدة عيترون، إنّ إسرائيل تستهدف النازحين، “فكيف إذا كانوا من عيترون التي يقارب عديد شهدائها منذ بداية عدوان تشرين الأوّل 2023 لغاية المجزرة مئة شهيد وشهيدة؟”
ويعزو عبد الله ذلك إلى أنّ “عيترون تقع على الحدود مع فلسطين المحتلة، وهي قرية مواجهة بالأساس، ونموذجية بأولادها المنتشرين في كلّ أصقاع الأرض وفيها عدد من المثقفين وأساتذة الجامعات والمهن الحرة، والكثير من الألفة والمحبّة بين أبنائها رغم أنهم ينتمون إلى مشارب سياسية متنوعة”. ويرى أنّها تتصدّر لائحة البلدات المنتجة للتبغ، “وهذا دليل ارتباط بالأرض، حتى أنّ المهاجرين حين عودتهم يكون هدفهم الأوّل بناء منازل لهم ولعائلاتهم. ووصل هذا الأمر إلى حد أن معظم هذه المنازل بنيت على الحدود مع فلسطين المحتلة، وهذا ما اعتبرته إسرائيل تحديًا لها. ولعيترون تاريخ مع الاستهدافات الإسرائيلية الإجرامية منذ العام 1948″، مذكّرًا بواحدة من مجازره الإرهابية التي أدت إلى استشهاد 9 أطفال من عيترون في ربيع العام 1975.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.