لن يلحظ زائر العاصمة الليبية طرابلس أيّ مظاهر حرب ولا أي انعكاس لحالة الصراع السياسي والعسكري الدائر في البلاد منذ عشر سنوات، بل على العكس سيجد حركة كبيرة في مدينة مفعمة بالحياة تنتشر فيها الشركات لصيانة ورصف الطرق وتزيين جزر الدوران وإنشاء الحدائق والمنتزهات وصيانة وتجهيز الملاعب الرياضية. كما أن الزائر سيستمتع بمجموعة كبيرة ومتنوعة من المطاعم والمقاهي الممتازة والتي يتزاحم عليها الزوار والمواطنون. أما التسوّق فهناك خيارات متعددة من المحلات والمتاجر التي تتنوع فيها الملابس والسلع من أبرز الماركات التجارية. كما يمكن للزائر أن يتجول ليلا في ساحة الشهداء وشوارع المدينة القديمة وطريق الشطّ ويستمتع بشرب كوب شاي أخضر ساخن باللوز أو يشتري باقة ورد من الباعة المتجولين في وسط العاصمة. لكن هذه المظاهر المبهجة وزخم الحياة في المدينة يخفي وراءه صراعا خفيا بين المجموعات المسلّحة التي تتصارع على السلطة والنفوذ داخل العاصمة. وهو صراع يخرج للعيان من فترة إلى أخرى لنتذكّر هشاشة الوضع الأمني.
وهذا ما حصل في 17 فبراير الماضي، في سياق احتفال ضخم أقامتْه الحكومة بعيْد ذكرى الثورة وحفل فنّي كبير في ميدان الشهداء حضره رئيس الحكومة وأغلب المسؤولين. ولم تمرّ إلا ساعات قلائل ليفجع الليبيون بجريمة مروعة، جرت وقائعها في حي أبو سليم جنوب العاصمة الليبية طرابلس،، راح ضحيتها 10 أشخاص على الأقل، في ظروف غامضة، ووسط تضارب المعلومات.[1] وبحسب مواقع السوشيال ميديا والمواقع الإخبارية، فإن وقائع الجريمة حدثت عند اقتحام مسلّحين مجهولين تجمّعاً لعناصر في إحدى المزارع في منطقة تخضع لنفوذ ميليشيا ما يسمّى «جهاز دعم الاستقرار» الذي يترأسه عبد الغني الككلي الشهير بـ«غنيوة». وقد رجحتْ هذه المواقع أن الضحايا كانوا يحتفلون على مائدة عشاء بعودة زميل لهم، وهو مصعب الضبع المشاي من رحلة علاج خارجية، فداهمهم مسلحون وفتحوا النار عليهم، وأردوهم قتلى.[2] وتعليقا على هذه الأنباء، أصدرت مديرية أمن طرابلس بيانا ذكرت فيه إنه في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليل السبت 18 نوفمبر الجاري ورد بلاغ إلى مركز شرطة بوسليم يفيد بمقتل 10 أشخاص بمنطقة المشروع بالعاصمة طرابلس بعضهم يتبع جهاز “دعم الاستقرار”. وأشارت المديرية أن أسباب الجريمة غير معروفة وأن من قامت بها مجموعة مسلحة مجهولة الهوية.[3] أما بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، فقد اعتبرت أن الحادثة تعيد إلى الأذهان التحذيرات التي ما فتئ الممثّل الخاصّ للأمين العامّ للأمم المتحدة، عبد الله باتيلي، يطلقها مراراً وتكراراً ومفادها أنّ التنافس بين الجهات الأمنية ينطوي على مخاطر جسيمة بالنسبة للوضع الأمنيّ الهشّ في العاصمة طرابلس. وحثّت البعثة السلطات الليبية المعنية على ضمان إجراء تحقيق مستقلّ وسريع وشامل في الواقعة، والعمل على منع أيّ أعمال قد تؤدّي إلى التصعيد والمزيد من العنف.[4] وقد طالب أسامة حماد رئيس الحكومة الموازية مكتب النائب العام بالتحقيق في الواقعة وتقديم المتهمين للعدالة، بينما أكتفى عبد الحميد ادبيبة بالصمت ولم يشِر إلى الحادثة من قريب أو بعيد، مما يعكس حجم الضغوط والحساسيّات داخل العاصمة من قبل المجموعات المسلحة. وإذ أعلن مكتب النائب العام عن إصداره أوامر ضبط وإحضار لمرتكبي مجزرة أبو سليم بعد التعرّف على الجناة من دون الإعلان عن هويتهم، أدلى وزير الداخلية المكلف عماد الطرابلسي بتصريح غير واقعي عن إخلاء العاصمة بعد شهر رمضان من كل المجموعات المسلحة ما عدا الأجهزة التابعة للشرطة .
هذه الجريمة تعكس بشكل واضح الحالة الأمنية في البلاد ومظاهر الاستقرار الهش في ليبيا، نتيجة لانتشار وسيطرة المجموعات المسلحة على الدولة ومفاصل الحكم، بل واندماجها في أجهزة الدولة دون تأهيلها أو فرز عناصرها، إضافة إلى انضمامها إلى مؤسسات الدولة بشكل جماعي، مما أدّى إلى سيطرتها على مفاصل الدولة وتغلغلها داخل مؤسسات الدولة الرسمية. فالمجموعات المسلحة التي تتحكم في العاصمة وتنتشر في المنطقة الغربية تشكّل مراكز نفوذ وقوى اجتماعية واقتصادية، ويتزعمها أمراء حرب يتحكمون في موارد مالية مهمة عبر شبكات تهريب النفط والسلع التموينية والإتجار بالبشر والمضاربة في أسواق العملة والاعتمادات المصرفية وغيرها، بينما من الناحية الأخرى تخضع المنطقتان الشرقية والجنوبية لسلطات قائد الجيش شرق البلاد خليفة حفتر الذي يدير شؤون الحكم في مواطن نفوذه بالشراكة مع أبنائه في إطار أقرب ما يكون إلى حكم الأسرة الواحدة المستندة إلى حمية قبلية وروابط اجتماعية ممتدّة.[5] وقد عقدت كلّ الحكومات المتتالية صفقات مع المجموعات المسلحة سواء في العاصمة أو خارجها لضمان البقاء والحماية في ظلّ ضعف أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، ممّا أدّى إلى تضخيم دورها وتغلغلها في مفاصل الحكم وسلطة القرار. كما أن هذه المجموعات المسلحة تغير ولاءاتها وتبعيتها السياسية بحسب المصالح والظروف مما يجعل المعادلة السياسية في ليبيا خاضعة لتأثير المال السياسي الفاسد الذي يشتري الولاءات ويوفر الغطاء الأمني والعسكري لأصحابه.
فضلا عن ذلك، تأتي هذه الجريمة في ظل أوضاع سياسية متأزمة في البلاد مع فشل محاولات ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لتقريب وجهات النظر بين الأطراف السياسية وإصدار قاعدة دستورية تتمّ على أساسها الانتخابات وتشكيل حكومة للإشراف عليها، يضاف إليها تمسك عبد الحميد ادبيبة بمنصبه وعدم تسليمه إلا لحكومة منتخبة ورفضه تشكيل أي حكومة جديدة. دون أن ننسى الوضع الاقتصادي المتردّي وانهيار العملة المحليّة وارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي مع عجز مصرف ليبيا المركزي عن توفيره عبر منظومته الرقمية وتأخّر صرف المرتبات بالشهر والشهرين ونقص متكرّر في توفّر البنزين والغاز وكل ذلك ينعكس سلبا على المواطن الذي أصبح عاجزا عن الحصول على أبسط الخدمات.
ولعل بيان محافظ مصرف ليبيا المركزي الأخير دقّ ناقوس الخطر عندما أشار إلى أنّ 95% من دخل ليبيا من البترول وأنه لا توجد مصادر دخل بديلة وأن حكومة الوحدة الوطنية لا تراعي هذه العوامل حيث صرفت الحكومة 420 مليار دينار خلال ثلاث سنوات أغلبها موجه للإنفاق الاستهلاكي وليس التنموي. فعلى سبيل المثال بند المرتبات قفز من 33 مليار عام 2021 إلى 65 مليار دينار عام 2023 لتشكل المرتبات 60% من إجمالي الدخل القومي. وأضاف محافظ المصرف المركزي أن الدعم زاد بما يعادل 20 مليار دينار وأن كل ذلك شكل ضغوطا على سعر الصرف أمام الدولار مؤكدا أن سياسية الصرف الحالية تتعارض مع مبدأ الاستدامة المالية مطالبا بالإدارة الرشيدة للمال العام ومحذّرا من الإنفاق الموازي مجهول المصدر في إشارة مبطنة لطبع العملة خارج ليبيا ومن دون رقابة مصرف ليبيا المركزي. كما طالب المركزي بضرورة إصدار ميزانية موحدة.[6]
إن استمرار الأزمة السياسية من دون حلول سريعة ينذر بعواقب وخيمة خاصة في ظل سيطرة كل طرف على جزء من الدولة، يمارس فيه سلطته ونفوذه ويسيطر على موارد الدولة فيه، مما يعزز من فكرة تقسيم البلاد أو على أقل تقدير إقامة نظام فيدرالي بين الأقاليم الثلاثة برقة وطرابلس وفزان. وتظل المعضلة الحقيقية هي انتشار المجموعات المسلحة وسيطرتها على مفاصل الدولة، مما يجعل أيّ حوار بين الأطراف السياسية من دون مشاركة أمراء الحرب والمليشيات بمثابة مضيعة الوقت.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.