نامت رقيّة حلاوي في سريرها ليل الخميس الجمعة، ارتاح جسدها الخمسينيّ بعد أن أضناه نهار طويل من الأعمال المنزليّة. كانت رقيّة التي تسكن مع أولادها في بيروت خلال أيّام دراستهم وعملهم هناك، قد قدّمت زيارتها الأسبوعيّة لقضاء عيد الأضحى في منزل العائلة في العديسة، حيث يعيش زوجها السبعينيّ خليل الحاموش. لعلّ رقيّة أحسّت على زوجها يتقدّم منها موجّهًا بارودة صيد إلى وجهها، ولعلّها لم تشعر. لنأمل أنّها قضت من دون أن ترى فوهة بندقية زوجها موجّهة إلى رأسها، تبقى الثواني الأخيرة من حياتها سرًّا بينها وبينه.
وقعت الجريمة عند الساعة الواحدة من فجر يوم الجمعة 30 حزيران 2023. وسلّم الزوج نفسه صباحًا إلى القوى الأمنية في مخفر العديسة. وإن كانت جرائم قتل النساء تتكرّر في لبنان وسط “حمّام الدم” المستمر بحقّهنّ، إلّا أنّ لكلّ ضحيّة اسمها وقصّتها، ووجه يبقى يحدّق من خلف صورة التقطت لسبب أو لآخر قبل ساعات من الجريمة.
قصّة رقيّة تلخّصها إحدى جاراتها بكلمات قليلة: “امرأة محترمة، حنونة ومعطاءة، أمّ لشابّين و5 شابّات، لم تقصّر يومًا مع أولادها ولا مع قاتلها”. وتضيف: “كانت بنت ضيعة بكل ما للكلمة من معنى، بيتها وأولادها كلّ اهتمامها”. تتحدّث الجارة خلود الحاموش عن عقود من التعنيف قضتها الضحيّة مع زوجها: “كان يصلنا صوت التعنيف والضرب، لكنّ المجتمع هنا يتعامل مع هذه الأمور على أنّها عاديّة. عاديّ أن يضربها، عاديّ أن يعنّفها وأن يصرخ عليها، عاديّ أن يشكّك بها، كلّه عادي”. تقول خلود إنّ الضحيّة “فكّرت في الطلاق مرات عدّة، لكن رأي عائلتها ومجتمعها كان خلافًا لإرادتها: وين بدك تروحي؟ إمرأة كبيرة ومطلّقة؟ كلّها يومين وبتموتي.. كل حدا قلّها خلّيكي ببيتك مقهورة ومعذّبة، هلق هي مقهورة ومعذبة.. ومقتولة”.
الابن والشقيق يشتكيان
حتّى اليوم، هناك شكويان قدّمتا في مخفر العديسة ضدّ الزوج، الأولى من ابن الضحيّة الأصغر علي الحاموش، والثانية من شقيقها عباس حلاوي. تقول مصادر أمنيّة لـ “المفكّرة القانونيّة” إنّ الشكويين أحيلتا مع محضر التحقيق من مخفر العديسة إلى النيابة العامّة في صيدا حيث نُقل الزوج الموقوف. ويبدو أنّ المدّعيين لم يعيّنا محامين بعد.
تكشف هذه المصادر أنّ الجريمة تمّت بسلاح صيد من نوع “بومب أكشن”، اشتراه الزوج قبل 15 يومًا من تنفيذه الجريمة بعد أن باع جزءًا من أثاث المنزل لتسديد ثمنها، فالمشتبه بارتكابه الجريمة خليل الحاموش، أستاذ لغة عربيّة متقاعد منذ عام 2002، ومصروفه الشهريّ يحصل عليه من أولاده. يقول جيران المشتبه به ومصادر العائلة إنّه كان قد اقتنى أسلحة صيد مرات عدّة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، وكان أولاده يصادرونها منه في كلّ مرة.
“جريمة مخططّ لها”
عند الساعة الثامنة ليلة وقوع الجريمة، تواصلت الضحيّة مع ابنتها التي كانت لا تزال في بيروت، أخبرتها أنّها خصّصت اليوم بأكمله لتنظيف المنزل وغسل ثياب زوجها كعادتها كلّ أسبوع، وأسرّت لها بقلق أنّها استطاعت الوصول إلى كلّ شيء باستثناء خزانة مقفلة، لم تستطع معرفة ما بداخلها. ألحّت حينها البنت على والدتها بأن تأتي لاصطحابها إلى بيروت “لأن قلبي نئزان”، لكنّ الأم اعتبرت أنّ الوقت متأخّر، واتّفقتا على أن تأتي البنت لاصطحاب أمّها صباح اليوم التالي. صباحٌ لم يأت أبدًا بالنسبة لرقيّة، وحمل فجيعة مقتل الأم على يد الأب، بالنسبة لأولادها.
وفقًا للمعلومات المتوّفرة حاليًا، يبدو أنّ الزوج ارتكب جريمته مستعملًا بطّانيّات لكتم صوت الطلقات، سدّد رصاصتين من مسافة قريبة على وجه الضحيّة، قبل أن يخرج ليتجوّل في محيط المنزل، ثمّ يعود إليه، حيث بقي حتّى الساعة 7:00 صباحًا قبل أن يسلّم نفسه إلى مخفر القرية الذي يبعد 50 مترًا عن المنزل.
وتنقل مصادر العائلة عن صاحب محطة الوقود في القرية للعائلة بأنّ الزوج توجّه إليه قبل ساعات من الجريمة من أجل التزوّد بالقليل من البنزين، لكن الموظّف رفض لاستغرابه صغر العبوة التي لا تتسع لأكثر من 330 مل، لتخلص إلى أنّه “خطط لجريمته وربّما كان ينوي إحراق الجثة”.
عند الساعة 7:20، اتّصل المخفر بمختار العديسة محمد رمّال بطلب من النيابة العامّة في صيدا، لكي يرافق عناصر الأمن خلال دخولهم إلى المنزل والكشف على الجثمان. يقول المختار: “وصلت إلى المخفر وكانوا لا يزالون يسجّلون أقواله، كان خليل جالسًا بهدوء على كرسيّه، فنهض ليسلّم عليّ بحرارة. سألته ‘خير إن شاء الله يا أستاذ’، فأجابني ‘قتلت رقيّة’، قلت له ‘مش معقول’ فردّ ‘لا معقول مبلا، قوّصتها ضربين وهي حاليًا على تختها، كان في مشاكل يا مختار، أنا تارك ورقة على الطاولة بالبيت، وأنا هلق ارتحت”.
يقول المختار إنّه مع مرافقته للعناصر الأمنيّة إلى المنزل، كانت أبوابه مشرّعة وكان كلّ شيء مرتّبًا في مكانه والكثير من الغسيل على المنشر، الغسيل الذي غسلته رقيّة ونشرته كآخر فعل علنيّ لتعبها في منزلها، “دخلنا إلى غرفة الضحيّة حيث عثرنا على جثمانها بوضعيّة النوم، فيما شوّهت الرصاصات وجهها”.
“الاضطراب العقلي” و”العصبية”
مع وقوع الجريمة، خرجت رواية تشكّك في القدرات العقليّة للزوج بسبب سنّه، وهو ما أورده الأستاذ في الجامعة اللبنانيّة من بلدة العديسة حبيب رمّال الذي كتب عقب الجريمة في منشور على فيسبوك إنّ الزوج “قد أصابه ما يصيب الناس جميعًا من المرض في أرذل العمر”. لكن مختار العديسة محمد رمّال يقول إنّ خليل الحاموش “كان شخصًا مسالمًا وأستاذ مدرسة محترمًا في مجتمعه، وهو كان غير اجتماعيّ ويفضّل قضاء الوقت مع كتبه لكنّه بالعقل عاقل، وتصرّفاته لا تدلّ على أيّ قصور عقليّ”. ويضيف: “هو كان معروف عنه أنّه عصبيّ، وقد كان خلال فترة التعليم عصبيًّا مع تلامذته”.
بدوره يرفض محمد حلاوي، ابن شقيق الضحيّة، فرضيّة الاضطراب العقليّ رفضًا قاطعًا، محذّرًا من “محاولات تبرئة المتهم من جريمته”، ويرى أنّ “مكان القاتل هو السجن وليس مصحًّا عقليًّا”، مؤكّدًا التمسّك بمتابعة المسار القضائيّ حتّى تحقيق العدالة لعمّته.
وكذلك نقل المختار ومصادر العائلة أنّهم وجدوا في مسرح الجريمة، كتابًا مفتوحًا على صفحة بعنوان “أعقل الناس أعذرهم للناس”، حيث سطّر الزوج تحت بعض العبارات منها عبارة: “فإذا سمعت بأمر فظيع ارتكبه بعض الناس فلا تحكم عليه بالخطأ قبل أن تستطلع عذره فيه، ويغلب أن تعود بعد سماعه عاذرًا”.
صباح يوم الخميس، ارتدت رقيّة ثيابًا ملوّنة للمرة الأولى بعد 19 عامًا من لبس الأسود حدادًا على ابنتها التي توفيت عام 2004، احتفل بها أولادها في منزل العائلة وأمام عيون أبيهم، أثنوا على نضارة وجهها وابتسامتها مغدقين عليها عبارات الإطراء “عم تصغري يا أمي”، التقطوا لها الصورة الأخيرة، وغادروا. صباح اليوم التالي، عُثر عليها مضرّجة بدمائها، ورغم الفاجعة، تُصرّ عائلتها اليوم على تحقيق العدالة.