تَقترب السنة الدراسية 2022- 2023 من نهايتها في ظل حالة من الاحتقان والضبابية حول مصيرها. أغلب فئات المُدرّسين في مختلف المراحل التعليمية منخرطة منذ بداية الموسم الدراسي في حركات احتجاجية متعددة الأشكال والمطالب. سنة دراسية مهتزة تزداد إلى قائمة السنوات العجاف المتتالية، وأزمات صغيرة تتناسل من رحم الأزمة الكبرى: مدرسة عمومية منهكة ومنفّرة. أزمة لا يمكن الخروج منها بمجرد تغيير وزير التربية والتعليم، ومن الصعب أيضا تعليق آمال كبيرة على المبادرات الرئاسية الضبابية على أهميتها من حيث المبدأ.
سنة دراسيّة بدايتها مضطربة ونهايتها “غامضة”
مع العودة المدرسية، عادت الحركات الاحتجاجية التي ينظّمها مدرّسو التعليم الابتدائي والثانوي بقوة. كانت البداية في أواخر شهر سبتمبر الفائت مع التحركات المشتركة بين المعلمين المنتدبين من بين خريجي “شعبة علوم التربية” لسنة 2021 والمعلّمين “النواب” (المعوضين) الذين تمّ انتدابهم بشكل رسمي. وقد جاءت هذه الحركات احتجاجا على صيغة العقود التي اقترحتها عليهم وزارة التربية تحت مسمّى “عون مكلف بالتدريس” والتي تكتسي طابعا مؤقتا ولا تضمن لهم نفس الأجور والحقوق الاجتماعية التي يتمتع بها زملاؤهم المرسّمون (مثبتون بصفة دائمة). خرّيجو “علوم التربية” (دفعة سنة 2022) الذين تأخر تعيينهم في المؤسسات التربوية وكذلك المعلمّون والأساتذة النواب الذين لم تشملهم اتفاقيات تسوية الوضعيات مثل اتفاق 16 سبتمبر 2016 واتفاق 19 سبتمبر 2017 واتفاق 8 ماي 2018، نظموا هم أيضا جملة من الاحتجاجات منذ مطلع السنة الدراسية.
لم تتوقّف الأمور عند هذا الحدّ. خلال الثلاثي الأول، أضرب المعلمون “النواب” والمتعاقدون لمدة طويلة مما أجبر الوزارة على اتخاذ قرار، في 21 نوفمبر 2022، بتأجيل الامتحانات إلى بداية الثلاثي الثاني واقتصارها على “المواد الأساسية” والدخول في مفاوضات جدية مع المضربين. تأجيل الامتحانات إلى ما بعد العطلة تسبّب في إزعاج كبير للأولياء والتلاميذ، كما قضَمَ بضعة أيام دراسة من الثلاثي الثاني وزادَ في ضغط الوقت على الإطار التدريسي. المعلّمون والأساتذة المرسّمُون دَخلُوا على الخطّ أيضا، ففي بداية ديسمبر 2022 قرّرت نقابات التعليم الأساسي والثانوي -بسبب المماطلة في تطبيق اتفاقيات قديمة وتعطّل المفاوضات حول الزيادات في الأجور وبعض المِنَح وفتح الترقيات- حجب أعداد الامتحانات عن إدارات المؤسسات التربوية، ممّا يعطل إصدار دفاتر وبطاقات الأعداد.
حُجبَت أعداد امتحانات الثلاثيتين الأولى والثانية، وما زال القرار قائمًا مع اقتراب امتحانات الثلاثي الأخير ومناظرات الباكالوريا ومناظرات الدخول إلى الإعداديات والمعاهد النموذجية (“النوفيام” و”السيزيام”). عدم تحرّك وزارة التربية لإنهاء أزمة “حجب الأعداد” يعني بكلّ بساطة عدم القدرة على احتساب معدّلات كل تلميذ واتخاذ قرار بنجاحه أو رسوبه، أي “سنة بيضاء” أو “ارتقاء آلي” وتعطّل الامتحانات الوطنية. يبقَى هذا السيناريو “المتشائم” مستبعدًا لكنه غير مستحيل. وفي كل الحالات أصبح عامل التوقيت ضاغطا جدا وعلى وزارة التربية أن لا تستمر في المناورة وتتخذ قرارات حاسمة.
سنة دراسية أخرى متشنّجة ومَبتورة تنضمّ إلى سنوات عجاف متشابهة تتالت في العشرية الأخيرة. وفي كل سنة يخسر التلاميذ أياما من التعليم والرعاية، وتحتقن الأجواء أكثر بين الأولياء والإطار التدريسي، في حين تستمر وزارة التربية في سياسة “التفاوض من أجل التفاوض” والحلول الترقيعية وترحيل الأزمات إلى السنة الدراسية الموالية. يذهب وزير ويأتي آخر دون تغيير جدّي ومحسوس.
وزراء للمفاوضات وآخرون للحرب
لم تحظَ وزارة التربية والتعليم بتغطية إعلامية واهتمام بعد الثورة يضاهيان ما حظيَت به وزارة الداخلية التي أصبحت أخبارها مادة شبه يومية. مرّت على البلاد عدة حكومات، وأغلب الوزارات تعاقب عليها خليط من السياسيين والتكنوقراط وكبار الإداريين و”الفتيان الذهبيين”، بعضهم لا تربطه أية علاقة سابقة بالوزارة التي يمسكها. وزارة التربية شكّلت الاستثناء الوحيد تقريبا: من جملة 10 وزراء كلفوا بحقيبة التربية والتعليم منذ جانفي 2011 نجد ثمانية أساتذة تعليم عالي وأستاذ تعليم ثانوي. كما أن جلّ الوزراء المتعاقبين لديهم انتماءات سياسية أو نقابية معلنة: الطيب البكوش (أمين عام سابق للاتحاد العام التونسي للشغل وحقوقي وأحد مؤسسي حزب نداء تونس)، عبد اللطيف عبيد (حقوقي ومناضل في حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)، سالم لبيض (أستاذ تعليم عال منتمي إلى التيار العروبي الناصري)، ناجي جلول (أستاذ تعليم عال ويساري مقرب من “الوطنيين الديمقراطيين” ثم “حداثي” في الحزب الجمهوري وبعده حزب “نداء تونس” قبل أن يؤسس حزب الائتلاف الوطني التونسي)، حاتم بن سالم (عضو في اللجنة المركزية لحزب بن علي “التجمع الدستوري الديمقراطي”)، محمد الحامدي (نقابي وعضو سابق في الحزب الديمقراطي التقدمي ثم حزب التيار الديمقراطي)، محمد علي البوغديري (قيادي في نقابة التعليم الثانوي وأمين عام مساعد سابق في الاتحاد العام التونسي للشغل).
وزارة التربية مُسيّسة بامتياز وتُعهد في أغلب الأحيَان إلى شخصيات لها تاريخ نقابي أو علاقة جيدة بالنقابات والتيارات السياسية المؤثرة فيها كاليسار والقوميين. أحيانا تُكسَر هذه القاعدة ويتم الاستنجاد بوزير “متشدد” بهدف “كبح” النقابات، مثلما حدث عندما استنجد يوسف الشاهد بحاتم بن سالم -آخر وزير تربية في عهد بن علي- في 2017 ليعيّنه على رأس الوزارة انتقاما من النقابات التي أجبرته على إقالة وزير التربية السابق ناجي جلول. أما الوزراء “المستقلون” فعادة ما يلجأ لهم في “زمن السلم” و”الفترات الانتقالية” التي تقودها حكومات “تكنوقراط”. وهذا ما حدث مثلا مع الوزير فتحي الجراي الذي تولى وزارة التربية في الفترة الفاصلة بين المصادقة على دستور جانفي 2014 وتشكيل الحكومة المنبثقة عن انتخابات أكتوبر 2014، والوزير سليم خلبوص الذي أشرف على الوزارة بالوكالة في الفترة الفاصلة بين إقالة ناجي جلول وتعيين حاتم بن سالم خلفا له، وكذلك الوزير فتحي السلاوتي الذي كُلّف بنفس الوزارة في الفترة الفاصلة بين إسقاط حكومة الياس الفخفاخ في صيف 2020 وانتخاب البرلمان الجديد سنة 2023.
إقالة فتحي السلاوتي في 30 جانفي 2023 وتعيين محمّد علي البوغديري خلفًا له لم تخرج عن تقاليد ومعايير اختيار وزير التربية بعد ثورة 2011. يعزُو بعض المحلّلين اختيار البوغديري، وهو أمين عام مساعد سابق في المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، إلى كونه من “الأقلية” التي عارَضت تنقيح الفصل 20 من النظام الداخلي لاتحاد الشغل (القاضي بتحديد عضوية المكتب التنفيذي للمنظمة بمرتين فقط) بهدف تمكين الأمين العام الحالي نور الدين الطبوبي من الترشح لعضوية المكتب للمرة الثالثة على التوالي (مرة كأمين عام مساعد ومرتين كأمين عام). وبغض النظر عن دوافع البوغديري في معارضة التمديد -هل هي ردة فعل على عدم إدراج اسمه في قائمة الطبّوبي أم انتصار للديمقراطية النقابية- فلقد اعتبرَ تعيين هذا “المنشقّ” بمثابة رسالة غير ودية إلى قيادة اتحاد الشغل و”رَدّا” سلبيّا غير مباشر على مبادرة الحوار الوطني التي أطلقتهَا المنظمة مطلع سنة 2023. ويُذكَر هنا أن نقابة التعليم الثانوي كانت النقابة القطاعيّة الوحيدة التي أعلَنَت رسميّا رفضها تنقيح الفصل 20، وأنّ كاتبهَا العام الأسعد اليعقوبي تجمَعه صداقة قديمة بالبوغديري، ويرَى البعض أن هذا العامل الذاتي قد يكون لعب دورا في اختيار اسم وزير التربية الجديد. لكن هناك عوامل أخرى مهمّة لا يجب إغفالها. إذ أنّ البوغديري عمل لسنوات كأستاذ تعليم ثانوي ونشِطَ صلب الجامعة العامة لنقابة التعليم الثانوي، كما أنه كان ولا يزال من كبار المساندين للرئيس قيس سعيّد ولما يُسمّى بـ”مسار 25 جويلية”. ربّما كان جمع البوغديري لكل هذه “المميزات” هو المعيَار الذي جعل رئيس الجمهورية يختاره وزيرا للتربية والتعليم.
لكن الأمر الوحيد الذي أثبته البوغديري إلى حدّ الآن هو ولاؤه لرئيس الجمهورية، ولم يظهر بعد قدراته كمفاوض جدّي، بل يبدو كمُناور يسعى بكلّ الوسائل إلى كسب الوقت وتمطيط جلسات التفاوض. فبعد قرابة ثلاثة أشهر من تولّيه الوزارة، لم يسجّل أي اختراق حقيقي في الأزمة القائمة مع نقابات التعليم الأساسي والثانوي. ولا زلنا ننتظر إظهار جوانب أخرى من “شخصيته” المركبة، مثلا الأستاذ الذي عايش وخبر واقع التعليم في تونس و/أو المناضل النقابي الذي سعى إلى تغيير هذا الواقع. ومهمَا كان اسم الوزير ومدَى صدق نواياه في التغيير فلا يجب أن ننسى أنه يبقى رهين “التوازنات المالية” للبلاد والقرار السياسي للحاكم الفعلي.
أزمة متشعّبة
لو كانت أزمة التعليم في تونس تقتصر على المطالب المادية لموظفي وزارة التربية والتعليم بمختلف قطاعاتهم لكان الأمر هيّنا. إذ يُمكن الوصول إلى اتفاقيات مالية شبه مُرضية إذا تحلّت مختلف الأطراف المتفاوضة بـ”التّفهم” و”المرونة”. لكن ماذا عن البُنَى التحتية والتجهيزات والمستلزمات اليومية؟ أغلب المؤسسات التربوية تجد صعوبات كبيرة في توفير أوراق لطباعة الدروس والتمارين والامتحانات. بعضها يعجز حتى عن توفير الصابون وبقية المواد اللازمة لتنظيف قاعات الدرس ودورات المياه.. هذا إذا كانت أصلا مرتبطة بشبكات توزيع المياه الحضرية والريفية. في كل سنة دراسية، تتكرّر الحوادث الناجمة عن تردّي حالة المباني التي يعود تاريخ بناء بعضها إلى زمن الاستعمار الفرنسي وفترة “بناء الدولة الوطنية”. ولن نتحدّث عن الأبواب والنّوافذ التي لا تقي من حرّ ولا من برد، وتقادم التجهيزات المتوفّرة في مخابر العلوم وقاعات التقنية والإعلامية وغيرها. حتى السبّورات التي تُستعمل فيها الأقلام بدلاً عن الطبشور تُعتبر ترفًا في كثير من المؤسسات التربوية، فما بالك بأجهزة عرض البيانات (Data Show) وغيرها. وفي الوقت الذي تتزايد فيه حوادث العنف في الوسط المدرسي نجد أن عددا هاما من مؤسسات التعليم الإعدادي والثانوي لا تتوفر فيها “قاعات مراجعة”. يمكن للتلاميذ المكوث فيها خلال “الساعات الجوفاء” أو في صورة طردهم من حصة ما أو غياب أستاذ، مما يعني إلقاءهم ببساطة في الشارع. وأحيانا تتوفّر القاعات لكن لا توجد موارد بشرية للإشراف عليها ومراقبتها بسبب النقص الكبير في عدد القيّمين الذي تشكو منه جلّ المؤسسات التربوية. هذا غيض من فيض، وكلّه يتعلق بالاعتمادات المالية، ويمكن اعتباره قمة جبل الجليد. هناك مظاهر أخرى أكثر صعوبة في معالجتها وتتطلّب إصلاحا جذريّا لا حلولا ترقيعية[1]. لا يتّسع المجال هنا لتحليلها بشكل معمّق لكن يمكن أن نذكر أبرزها:
- التّفاوت التنموي بين المناطق في تونس له انعكاساته على التّعليم كذلك من حيث عدد المؤسسات التربوية وتجهيزاتها، ومستوى الموارد البشرية، ومتوسّط المسافة التي يقطعها التلميذ كل يوم لمزاولة دراسته، والرعاية ما قبل المدرسية، وحتى قدرة المواطنين على دعم المدارس والمعاهد بالتبرعات العينية والمالية.
- التفاوت في “السرعة” والجودة: مقولات التعليم المجاني والتساوي في الحظوظ تكاد تصبح مجرد “ذكريات” أو شعارات فارغة. فاليوم يعيش التعليم انقساما ما انفكّ يترسّخ بين “نخبة” من التلاميذ متفوقة علميا أو ميسورة ماديا تتوزع على الإعداديات والمعاهد النموذجية العمومية والمؤسسات التربوية الخاصة وتتوفّر لها ظروف الدراسة المريحة وآفاق أرحب في التوجيه المدرسي والجامعي، و”أغلبية” من متوسطي الحال والفقراء يذهبون كل يوم إلى مؤسسات مكتظة تتردّى أحوالها أكثر فأكثر مع آفاق ضيقة وضبابية حولَ المستقبل.
- الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية للتلاميذ: العنف في الوسط المدرسي، صعوبات التعلّم، الأمراض النفسية والعصبية، التنمّر، التحرش، المخدّرات، تردّي الأوضاع الاقتصادية لقطاعات واسعة من التونسيين، تأثير منصّات التواصل الاجتماعي. هذه وغيرها من الظواهر والمشاكل التي تمسّ جزءًا مهمّا من التلاميذ صارت واقعا يوميا في المؤسسات التعليمية وسط عجز من الأسرة التربوية عن التعامل معها بسبب ضعف التكوين المستمر والتأهيل والنقص الحادّ في الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين التابعين لوزارة التربية والتعليم.
- عدد ساعات الدراسة يوميّا وأسبوعيا وتقسيم الزمن المدرسي على حصتين ونسق الامتحانات وحتى عدد سنوات الدراسة في كل مرحلة، كلّها أمور تحتاج إلى مراجعة بشكل يركّز على النوعي أكثر من الكمي، ويراعي حاجة التلميذ إلى وقتٍ كافٍ للراحة والترفيه وممارسة أنشطة فنية ورياضية واجتماعية.
- لغات التدريس ومكانة كل واحدة منها ومحتوى البرامج التعليمية ليست مقدسات لا يمكن المسّ بها. طبعا هناك حساسيّات أيديولوجية وحسابات سياسية وحتى علاقات دولية “تاريخية” على المحكّ لكن لا مفرّ من فتح باب النقاش حول هذه المسائل.
- القطع مع سياسات التشغيل الهشّ والعشوائي: الإغلاق النهائي لملف المعلّمين والأساتذة النواب، والتفكير في صيغَة جديدة للتعاقد الوقتي عند الحاجة إلى المعوّضين (مع فرض معايير شفافة وعادلة عند اختيارهم). والسّير أكثر نحو “مَهنَنة” التعليم أي الاعتماد على خريجي “شعبة علوم التربية” لانتداب معلمين وأساتذة جُدد بشكل كلي أو على الأقل جنبا إلى جنب مع مناظرات وطنية تكون الكفاءة معيارها الأساسي والوحيد.
- الرقمنة: على الرغم من أنّ الحديث عن التكنولوجيا وتقنيات التواصل والتدريس عن بعد قد يبدو قفزا على واقع مؤسسات تربوية لا تتوفر بها دورات مياه صالحة للاستعمال البشري، فإن رقمَنَة المحتوى الدراسي والاستثمار في بنية تحتية تواصلية لم يعد ترفًا يمكن الاستغناء عنه أو تأجيله كثيرا.
- هوية المدرسة العمومية وأهدافها الاستراتيجية: لماذا ينقطع عشرات آلاف التلاميذ عن الدراسة كل سنة؟ لماذا تتّجه آلاف العائلات نحو التعليم الخاص؟ ماهي المهارات والمعارف التي يتوجّب على التلميذ اكتسابها في القرن الحادي والعشرين؟ ما هي حاجيات الاقتصاد التونسي؟ الجانب التكويني و”البراغماتي” للعملية التربوية مهم جدا بالطبع، لكن ماذا عن “القيمي” و”المواطني”؟
مبادرات الرئيس لإصلاح التعليم: نوايا وآمال وهواجس
حتى قبلَ وصوله إلى قصر قرطاج في خريف 2019 ثم سيطرته على كل السلطات تقريبًا في صيف 2021، أظهر الرئيس قيس سعيّد اهتماما بالمسألة التعليمية وعَبّرَ في عدة مرات عن ضرورة إصلاح التعليم وإيلائه القيمة التي يستحقّها. في جانفي 2013 وعندما كان المجلس التأسيسي يناقش الفصل 38 المتعلّق بالتعليم، دعا سعيّد إلى عدم الإغراق في التفاصيل والابتعاد عن الصراعات الأيديولوجية حول “هوية” المدرسة العمومية والسعي بدلا من ذلك إلى تنظيم مؤتمر وطني حول النظام التعليمي. وخلال حفل التكريم الذي أقيم على شرفه بمناسبة تقاعده من التدريس الجامعي في سنة 2018 خاطب الطلبة قائلا: “أنتم درع المستقبل، أنتم سيف الدولة المسلول”. وعلى الرغم من خلو “حملته الانتخابية” في رئاسيات 2019 من وعود دقيقة وتفضيله تقديم نفسه كمنفّذ للإرادة الشعبية لا كوصي عليها، فإنه قدّم مقترحيْن ملموسيْن: “مؤسّسة فداء للإحاطة بضحايا الاعتداءات الإرهابية من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي والديوانة وبأولّي الحق من شهداء الثورة”، و”المجلس الأعلى للتربية والتعليم”. وفي أول إشراف له كرئيس جمهورية على موكب الاحتفال بـ”يوم العلم” -5 سبتمبر 2020- تحدّث سعيّد مطوّلاً عن ضرورة إصلاح التعليم، مشيرًا في البداية إلى ضرورة المساواة والعدل في التعليم باعتباره حقّا يجب على المجموعة الوطنية أن تضمنه من دون أي تمييز بين التونسيين. وشدد على فكرة أن “ثروة” تونس الحقيقية هي عقول أبنائها (بما يذكّرنا بكلام بورقيبة عن “المادة الشخمة” و”التعليم هي الثروة الوحيدة للتونسيين”).
المؤسسة الأولى التي وعدَ بها الرئيس في انتخابات 2019، مؤسسة “فداء”، تمّ إحداثها بمقتضى المرسوم عدد 20 لسنة 2022. أما الثانية، أي المجلس الأعلى للتعليم والتربية، فلم تَرَ النّور بعد على الرغم من إدراجها في دستور 25 جويلية 2022 وإفرادها بالباب التاسع منه الذي يحتوي فصلا يتيما (135): “يتولّى المجلس الأعلى للتّربية والتّعليم إبداء الرّأي في الخطط الوطنيّة الكبرى في مجال التّربـية والتّعليم والبحث العلميّ والتّكوين المهنيّ وآفاق التّشغيل. يضبط القانون تركيبة هذا المجلس واختصاصاته وطرق سيره”.
في 03 مارس 2022 أكّدَ وزير التربية السابق، فتحي السّلاوتي، أنه سيتم قريبًا نشر المرسوم الرئاسي الخاصّ بالمجلس. مرّت أشهر ولم يصدر المرسوم، وعَادَ الوزير ليؤكّدَ في 31 أكتوبر 2022 أن المرسوم جاهز وسيتم إصداره قريبا. أقيل السلاوتي في فيفري 2023 من دون أن يصدر المرسوم. وفي 13 مارس من نفس السنة، انعقدت الجلسة الافتتاحية لمجلس نواب الشعب مما يعني أننا لم نعد نتحدث عن مرسوم رئاسي، بل عن مشروع قانون. الوزير الذي خلَفَ السلاوتي لم يتأخّر كثيرا في طمأنة التونسيين، فأكد يوم 16 مارس الفائت أن “مشروع إحداث المجلس الأعلى للتربية جاهز بكل نصوصه وتركيبته وأنه سيُعرض قريبا على مجلس الوزراء قبل إحالته إلى مجلس نواب الشعب”. ما قاله رئيس الجمهورية يوم 6 أفريل الفائت خلال اجتماع مع جملة من الوزراء خصّص للتعليم وأذن فيه سعيّد بتشكيل لجنة تتولى الإعداد لإطلاق استشارة وطنية إلكترونية حول إصلاح التربية والتعليم زاد من ضبابية الوضع. لم يُوضّح الرئيس في هذا الاجتماع وفي اللقاءات التي تلته هل أن صدور قانون المجلس الأعلى مرتبط بنتائج الاستشارة أم أنّ المسارين منفصلان؟ بعيدا عن هذا التساؤل هناك جملة من الهواجس المشروعة حول “الاستشارة الإلكترونية“ التي أمرَ سعيّد بإطلاقها خاصة وأن التجربة السابقة لا تُطمئن أبدا. ففي بداية سنة 2022 تم تنظيم استشارة الكترونية “شعبية” لم يُشارك فيها إلا نصف مليون تونسي واعتمدت “مخرجاتها” كأساس لـ”حوار وطني” بين مؤيدي الرئيس والمناصرين له انتهى بمسودّة دستور لم يُعرها رئيس الجمهورية اهتمامًا وصاغ نسخة أخرى عرضها على استفتاء شعبي تحوّل إلى مبايعة تسعينية النسبة. من يحق له المشاركة في هذه الاستشارة؟ هل سيشارك مهنيو التعليم والتربية بصفتهم تلك أم باعتبارهم مواطنين عاديين؟ ألا تعدّ هذه الاستشارات مناورات للالتفاف حول ضرورة الحوار مع النقابات ومنظمات المجتمع المدني وحتى القوى السياسية؟ هل ستكون نتائج الاستشارة مُلزمة للرئيس وحكومته؟ من يضمن ألا تكون المحاور والأسئلة الواردة فيها موجّهة بشكل يخدم “رؤية” الرئيس للإصلاح التربوي؟ وماذا عن مشاريع واستراتيجيات إصلاح التعليم التي انطلقت في وزارتيْ التربية والتعليم العالي منذ 2014/2015، هل سنجد لها صدى في الاستشارة وقانون المجلس الأعلى أم أن “التأسيس الجديد” يجبّ ما قبله؟
عَبّرَ سعيّد في عدة مناسبات عن إعجابه ببورقيبة، وهو يعلم جيدا أن أحد أكبر إنجازات العهد البورقيبي هي المدرسة العمومية والتعليم بشكل عامّ. وبما أن رئيس الجمهورية مُولعٌ بالتاريخ ويؤمن بأنه يؤسس لتونس جديدة فقد يكون هو الآخر راغبا في ترك بصمة قوية في أذهان التونسيين عبر بوابة إصلاح التعليم، اعتمادا على “الإرادوية” السياسية لا المشاريع الجماعية التشاركية.
استبشر كثيرون بوصول “أستاذ” إلى رئاسة الجمهورية معتبرين أنها فرصة ذهبية لإنقاذ المدرسة العمومية. وعلى الرغم من كل الهواجس والتجارب غير المطمئنة، يؤمل أن لا يضيع “الأستاذ” هذه الفرصة ويفشل في امتحان نتائجه مصيرية بالنسبة لمستقبل البلاد.
أزمة أو بالأحرى أزمات التعليم العمومي في تونس متشعّبة فيها ما يتعلق حصريا بالقطاع ومنها ما هو عابر للقطاعات والوزارات ويتطلّب قرارا سياسيا وتخطيطًا استراتيجيا مع ما يعنيه ذلك من موارد مالية وبشرية ولوجيستية. من المؤكد أن تكلفة الإصلاح ستكون مرتفعة وأنه لن يُنجز في يوم وليلة وأن ثماره ستُقطف بعد سنوات طويلة لكن كل سنة تأخير تعني سنوات من التردي الذي قد تستحيل معالجته.
[1]للوقوف أكثر حول الأزمة الهيكلية للتعليم في تونس، انظر العدد 18 من مجلة المفكرة القانونية “التعليم قلعة تونس المتصدعة“. (من وضع المحرّر).