الدمار بعد الغارة على مبنى بيضون من شارع المأمون في البسطة الفوقا
عند الساعة الرابعة فجر السبت 23 تشرين الثاني 2024، استيقظ سكّان بيروت – ممّن استطاعوا إلى النوم سبيلًا – على أصوات انفجارات هائلة، بعدما كانوا غفوا إثر توقّف أصوات الغارات على الضاحية الجنوبية. ومن لم يكونوا نيامًا كانوا يحاولون معاندة الأرق. المراسلون في منازلهم، لا أحد “على السمع” ليخبرنا ما الذي حصل وأين. الرسائل هي نفسها على هواتف الجميع “سمعتوا؟ وين؟ يمكن حدّي! ضربة قوية”، والخوف نفسه لدى الجميع، من ركضوا مسرعين إلى أسرّة أطفالهم، من احتضن زوجته، من احتضنت والدتها ومن ركضوا يصرخون في الشوارع، ومن كانوا يتهيّأون للموت في أيّ لحظة. وبعد ما يقارب العشرين دقيقة، جاء الخبر: “غارة على شارع المأمون في البسطة الفوقا”.
أسبوعان مرّا على الغارة والمجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في حق المدنيين هناك. أسبوعان والمأساة تنتصب هناك في قلب العاصمة بيروت من دون أن يخفّف من ثقلها إعلان وقف إطلاق النار. ثقل زاده وجود مفقودين تحت الأنقاض.
أسبوعان وإحسان شحيمي وهو من قرية دبّين ينتظر العثور على جثمان شقيقته مَيْ التي كانت في المبنى ليلة الغارة والتي سبق أن عثر على جثماني زوجها أحمد عبد العلي صالح وابنهما وسيم من قرية شوكين. انتظار انتهى أمس الإثنين بالعثور على جثمانها بعد 16 يومًا من الغارة، بعد أن حفر عناصر الدفاع المدني على عمق 10 أمتار.
اليوم اطمأنّ إحسان أنّ بإمكانه إكرام شقيقته بدفنها، ليستطيع بدء حداده الذي سيطول كثيرًا.
كان إحسان على ثقة بأنّ شقيقته وزوجها وابنها بأمان في قلب بيروت ولم يعرف أنّ مَي التي نزحت هربًا من وحشية إسرائيل ستكون واحدة من المدنيين الذين سيُقتلون “ويروحوا ظلم بظلم”، كما يقول.
وقبل ميْ بيومين، انتشل الدفاع المدني جثامين 4 مفقودين سوريين، هم الناطور حمادي الحمّادي، وزوجته أمل موسى إسماعيل، وطفليهما يوسف (10 سنوات) ويحيى (12 سنة) من ريف حلب. ومع انتشال المفقودين، تصبح حصيلة الشهداء 34، لكنّها لا تزال حصيلة غير نهائية إذ تبيّن أمس فقط أنّه لا يزال هناك سيّدة مفقودة في المجزرة، بحسب مخفر البسطة الذي تواصلنا معه والذي رفض التصريح عن الاسم.
ونظرًا إلى أنّ الغارة دمّرت المبنى بالكامل، فقد كان بين الشهداء عائلات كاملة كعائلة مَي والناطور حمادي وأفراد من عائلة واحدة، كما هي حال 11 من عائلة الجد محمد حوراني بينهم 4 أطفال، من قرية شقرا، وزوجته هناء من الجنسية المصرية، وابنتهم فيروز حوراني وزوجها حسين عودة وطفليهما نانسي وعلي من الخضر بعلبك، وهبة حوراني وولديها محمد علي فقيه (8 سنوات) وفاطمة فقيه (15 سنة) من قرية صريفا، وأماني حوراني وابنتها فاطمة سلمان (10 سنوات) من الهرمل.
كذلك حال الشهداء فاطمة إبراهيم من بيروت وابنها من المروانية، ومحمد الصفح من بيروت ووالده عماد الصفح وجدّته فريدة خالد، والشقيقان نبيل ونادية دقيق من قرية مركبا، بالإضافة إلى شاب من التابعية السودانية لم نتمكّن من معرفة اسمه.
القبور تواسينا بعد الفقدان
بعد الإنذار الأوّل الذي وجّهته إسرائيل لمنطقة الشياح، في 14 تشرين الثاني الماضي، قرّرت مَيْ شحيمي (64 عامًا) أن تترك منزلها هناك وتتوجّه مع زوجها المُقعد وابنها إلى منطقة البسطة الفوقا، “هون أمان أكتر”، ينقل عنها شقيقها إحسان شحيمي. ورغم استهداف البسطة في 10 تشرين الأوّل، ظنّت مَي وعائلتها أنّ “اللي صار صار وما بقى في حدا يستهدفوه”، يقول إحسان، إلى أن وقعت الغارة على مبنى بيضون الذي يسكنون فيه. “عند الساعة 5:15 تقريبًا تلقّيت اتصالًا من ابن أختي الذي قال لي: الضربة على بناية ماما”. هرع إحسان من البترون حيث نزح مع عائلته، إلى بيروت، وصل إلى مكان الغارة، انتُشلت جثّتا زوج ميْ أحمد صالح وابنها وسيم، ولكن لا أثر لشقيقته مَي.
توقّفت عمليات البحث من قبل الدفاع المدني في 26 تشرين الثاني، على اعتبار أنّه قد تمّ انتشال جميع الجثث والأشلاء من الموقع، ولكنّ العناصر بقيوا متواجدين على الأرض، بحسب إحسان، بانتظار فحوصات الـ DNA للأشلاء في المستشفيات. وبعدما جاءت نتيجة الفحوصات سلبية، طلب إحسان من الدفاع المدني متابعة عمليات البحث، لكنّهم أكّدوا له تعذّر ذلك لـ “عدم توفّر آليات كافية”، يقول إحسان لـ”المفكرة”، ويتابع “حكيت كتير أشخاص حتى رجعت عمليات البحث، من وسائل إعلامية وصولًا إلى نوّاب ووزراء، بهالبلد ما في شي بيصير بالسّهل”. منذ تلك الليلة المشؤومة لم يغمض له جفنٌ، إلى أن استؤنفت عمليات رفع الأنقاض يوم الثلاثاء الماضي في الثاني من الشهر الجاري بعد تأمين الآليات اللازمة من قبل إحدى الجهات التي تواصل معها إحسان. ومع استئناف البحث، استأنف إحسان الانتظار، انتظار أيّ خبر عن أثر من “ريحة الحنونة”، كما يصف شقيقته.
كانت مَيْ تعمل مشرفة اجتماعية وأعالت عائلتها وكانت سندًا لزوجها بعدما أُصيبَ بشلل، وعاشت معه ومع ابنها وسيم الذي لطالما رفض فكرة السفر لكي يبقى إلى جانب والديه، ورحل معهما إلى الأبد. “اعتادت شقيقتي طيلة فترة نزوحها على الاستيقاظ فجرًا على توقيت كهرباء الدولة لتجهيز وطحن الطعام لزوجها بالخلّاط الكهربائيّ، لذلك من المرجّح أنّها كانت في المطبخ أثناء وقوع الغارة”، يقول إحسان، في محاولة منه لفهم عدم العثور على جثمان مَي مع جثمانَي زوجها وابنها.
يوم أمس الإثنين 9 كانون الأوّل 2024، عثر أخيرًا على جثمان مَي، وتمّ التعرّف عليها من خلال خاتمها الذي لا تنزعه من يدها. الآن أصبح بمقدور إحسان أن يدفن شقيقته ويرفع على قبرها شاهدة تحمل اسمها مسبوقًا بلقبها الجديد: الشهيدة مَي شحيمي.. ويذهب لزيارتها كلّما تسنّى له الوقت، فـ “القبور تواسي بعد الفقدان” يقول لسان حال كلّ من ينتظر مفقودًا.
صالح إسماعيل، أيضًا انتظر طويلًا العثور على جثمان شقيقته أمل إسماعيل وزوجها حمادي وطفليها يوسف ويحيى. يصف ليلة الغارة بأنّها “كانت أشبه بليلة القيامة”، إذ استيقظ في منزله الكائن في منطقة بربور على أصوات انفجارات هائلة كما باقي سكان بيروت، وظنّ كما الجميع أنّ الغارة وقعت بالقرب منه، ليتلقّى اتصالًا بعدها من شقيقه يقول: “إلحق أختك راحت”. توجّه صالح فورًا إلى منزل شقيقته، فوجد المبنى على الأرض وحفرة كبيرة ودمارًا هائلًا في المباني المحيطة. عرِفَ حينها أنّ “ما حدا رح يطلع عايش”. من بين الرّكام وجد صالح ساعة ومنديلًا لشقيقته، أبقى عليهما بحوزته لأنّ هذه المقتنيات “من ريحتها”، وجملة واحدة تدور في باله “شي ما بيتخيّلوا العقل، مش معقول كيف راحوا هيك!”.
قبل ثلاثة أيام بردت حرقة قلبه بعد انتشال جثامين شقيقته وعائلتها، بعد أسبوعين من الانتظار. “كان بدّي بس ادفنها لإرتاح، لإقدر زور القبر وواسيها، وإسقي الزرع جنب القبر كأنّ بعدها معنا”، يقول صالح في اتصال مع “المفكرة”. أمل كانت تعرّفت على حمادي بعد لجوئهما إلى لبنان في العام 2011، تزوّجا وانتقلا قبل قرابة سبع سنوات ليسكنا الطابق الأرضي في مبنى بيضون، حيث عمل حمادي كناطور. لم يبحث الزوجان إلّا عن حياة كريمة بعيدًا عن الحرب في بلادهما، فكان “هاد نصيبُن”، يقول صالح.
11 شهيدًا من عائلة واحدة بينهم 4 أطفال
منذ اللّحظات الأولى لوقوع الغارة على مبنى بيضون في شارع المأمون، حجزت آية سليمان مكانًا لها بالقرب من ركام المبنى الذي سُوّي أرضًا. جلست يومين في الشارع على كرسيّ بلاستيكيّ، ألقت عليه جسدها المُنهك، منتظرة أن يتمّ انتشال جثّتَي زوجة أخيها أماني حوراني وابنة أخيها فاطمة سليمان (10 سنة). واكبت عمليات رفع الأنقاض بصمت وتمعّن، فيما كانت تسأل زوجها بين الحين والآخر “قوم شوف معقول طلّعوا حدا؟ اسألن… اسأل هيداك الشاب”. آية التي استيقظت على أصوات الصواريخ ليلتها، لم تتوقّع أن يكون هذا الكابوس قد أصاب عائلتها، لتحمل مع زوجها ألم الفقدان. تنقّلت في الساعات الأولى للغارة من مستشفى إلى آخر بحثًا عن زوجة أخيها وابنته، إلى أن فقدت الأمل، وشهدت على انتشال جثّتيهما بعد يومين. أماني وابنتها، هما من ضمن العائلات التي نزحت هربًا من الموت وطلبًا للأمان، ومع تواجد زوجها خارج لبنان، نزحت أماني برفقة ابنتها مع والديها وأخواتها وأطفالهنّ من منطقة حيّ السلم إلى إحدى المناطق في الجبل، ومنها إلى منطقة البسطة حيث استأجروا منزلًا في مبنى بيضون. وبالرّغم من أنّ أماني كانت رافضة كليًا لفكرة ترك منزلها في الضاحية الجنوبية، إلّا أنّها اضطرّت إلى مغادرته مع اشتداد الغارات الإسرائيلية وإصرار عائلتها على انتقالها إلى مكان “آمن”.
“ما كانوا بدّن يتركوا بيتهن، بس هربوا من الأصوات”، تقول آية متحدّثة عن زوجة شقيقها وابنتهما، تتأمّل الدمار المحيط بها في شارع المأمون والصدمة تعلو وجهها “طلعت بيروت أصعب من الضاحية”، تقول، في إشارة إلى أنّ الغارة لم تكن متوقّعة، فيما اعتاد الجميع على الإنذارات التي تسبق الغارات على الضاحية الجنوبية في بيروت. تعود إلى صمتها ويكمل زوجها “هنا في قلب بيروت نتفاجأ بالموت، وهذا دليل على أنّ إسرائيل تتعمّد الأذى من خلال قصف المدنيين”. هكذا استشهدت أماني، وهي ابنة قرية شقرا الجنوبية، مع ابنتها وأفراد من عائلتها، قبل أن يعرفوا شيئًا حتى عن بيتهم هناك، تاركين جرحًا للعمر لا يلتئم.
الحال لا يختلف بالنسبة لعلي فقيه، الذي فقد زوجة ابنه، هبة حوراني (شقيقة أماني)، وحفيديه الاثنين محمد علي فقيه (8 سنوات) وفاطمة فقيه (15 سنة). “دمعتي مش عم تهدا”، يقول الجدّ علي في اتصال مع “المفكرة”، مختزلًا بهذه الجملة كمّ القهر الذي نزل عليه بعد استشهاد حفيديه ووالدتهما. “شفتن آخر مرة من أسبوعين قبل الغارة، كان بالي مطمّن عليهن وإنّن مع إمّن ببيت جدّهن الثاني. يا ريت كان فيي خليهن معي واحميهن”، يقول الجدّ الذي لم ترحمه الحرب ولم يتمكّن من احتضان حفيديه بسبب تنقلّه من مكان إلى آخر، ويعلّق “متل كل هالعيل بالحرب، رحنا كل حدا بديرة”.
لا يزال الجدّ عالقًا بفكرة الخسارة، غير قادر على تقبّل أنّه لن يسمع بعد اليوم صوت محمد علي وهو يركض باتّجاهه قائلًا “جدّو يا جدّو”، ويضيف “هول أطفال صغار ما بيعرفوا شي. نحنا كبار ومنخاف، كيف هنّي؟ كانوا يخافوا كتير وهلأ راحوا”.
والد الطفلين أيضًا لم يتمكّن من توديعهما مرة أخيرة لتواجده خارج لبنان. وكان قد اتصل بهما مساء، قبل ساعات من الغارة، معبّرًا عن اشتياقه لهما، ووعدهما أنّه سيأتي قريبًا، “قلّهن: أنا جايي ورح شوفكن”، تقول قريبة الحفيدين في حديث مع “المفكرة”، وتتابع “بس فلّوا قبل ما يشوفهن”.
محمد الصفح العائد من تحت الرّكام
بعد مضيّ أسبوعين على الغارة الإسرائيلية في شارع المأمون، لا يزال محمد الصفح (22 سنة)، يعيش مع مشاهد لا تفارقه في كلّ ليلة، هي لحظات النجاة من الموت التي كانت أشبه بمعجزة بالنسبة له ومعها مشهد والده وجدّته اللذين خسرهما في الغارة. محمد، وهو ابن منطقة البسطة، لم يترك منزله، رغم الخوف الكبير الذي أصاب عائلته بعد غارة سابقة على البسطة في 10 تشرين الأوّل. وما عزّز هذا الخوف كان الإنذارات التي تلقّاها بعض سكان المنطقة عبر هواتفهم قبل أقلّ من 24 ساعة على الغارة التي أودت بحياة أحبّائه. فور علمهم بورود هذه الاتصالات ذهبت والدة محمد مع شقيقته وأولادها إلى منزل أخيه في برج حمّود، فيما أصرّ هو على البقاء في منزلهم في البسطة الفوقا مع والده وجدّته، قائلًا “أنا ما رح روح مع حدا، رح ضلّني بالبيت”.
فجر السبت 23 تشرين الثاني، سمع محمد صوت انفجار قوي أثناء نومه في غرفته، حاول أن يستجمع قدرته لينهض ويتّجه إلى غرفة الجلوس حيث والده وجدّته، ولكنه لم يكد ينهض حتى تتالت الصواريخ وانهار البيت ليجد نفسه فجأة تحت الرّكام. حاول محمد أن يزيل الرّدم عنه، كلّ ما يحصل حوله مسموع وليس هناك من يسمع صراخه هوَ، وحدها يده اليمنى حُرّة، وبدأ يحاول الوصول إلى هاتفه، “إذا طلعت رح تكون معجزة، هيك قلت لحالي”، يقول محمد في اتصال مع “المفكرة”. وفعلًا كانت المعجزة حيث تلقّى اتصالًا من والدته تسأله فيه وقدّ جنّ جنونها “وينك؟ وين الضربة؟”، ليردّ عليها “أنا تحت الأنقاض، ما عارف شي!”. توجّهت والدة محمد مباشرة إلى مكان الغارة، ملامح الحيّ أصبحت غريبة عليها فجأة، حاولت بالتعاون مع أصدقائه البقاء على اتصال معه عبر الهاتف، حتى تمكّنت فرق الدفاع المدني من الوصول إليه وإنقاذه بصعوبة، “زوّدوني بالأوكسيجين واستخدم أحد شبان الدفاع المدنيّ جسده كجسر عبور لكيّ يتمّ انتشالي من حيث أنا”، يقول.
“يا ريت كل اللّي صار ما صار”، يقول محمد مستذكرًا والده عماد الصفح: “هو الدّنيا كلّها أفنى حياته لأجلنا نحنا أولاده. كان عمود البيت”. أما جدّته فريدة خالد، التي كانت تسكن في منطقة الأوزاعي سابقًا ونزحت لتعيش معهم قبل أسبوع من وقوع الغارة، فلم تكد أن تعتاد على المنطقة وتنعم بالأمان حتى قتلتها إسرائيل.
شهادات من شارع المأمون
عند زاوية المبنى الذي كان يقطنه في البسطة، جلس محمد قبلان ابن قرية ميس الجبل، مراقبًا عمليات رفع الأنقاض في الأيام الأولى، وكأنّما كان يحاول التأكّد بأمّ العين أنّ ما حصل ليلة الغارة على شارع المأمون كان حقيقة أيقظته من نومه وليست حلمًا. نزح محمد مع عائلته مع توسّع العدوان من منزلهم الذي يقع بالقرب من الجامعة اللبنانية في الضاحية، إلى مبنى بيضون الثاني الملاصق للمبنى المستهدف، ومعه نزحت أربع عائلات من أقاربه، “اخترنا البسطة لأنّ أخي يملك شققًا هنا، وفضّلنا أن نبقى قريبين من بعضنا البعض”، يقول محمد لـ “المفكرة”، لتشتّتهم الغارة بعدها كلّ في ميل. “كنا نايمين ليلتها، ثمّ سمعنا صوت الصاروخ الأوّل، وبعده ضربات متتالية، رأينا وهج الضربة من النافذة وتصاعد الدخان. الأبواب تخلّعت وكذلك النوافذ. كلّ شيء حصل في لمح البصر”، يقول محمد، الذي خرج مع عائلته من المنزل الذي أصبح بدون باب، مفتوحًا على الشقة المقابلة لشقّتهم والتي تهدّمت جدرانها. الحائط اختفى تمامًا، فأصبحت تطلّ على اللاشيء، على الفراغ، فالمبنى المجاور سُويّ بالأرض، وحده الدّخان والنار يخيّمان على المشهد. “بقيت بالمنزل دقائق معدودة، خرجت إلى الشرفة ورأيت كلّ شيء يحترق من حولي، وكأنّما هي نهاية العالم”، يقول محمد، ويتابع “بالوقت اللّي العالم ناطرة اسم مين المستهدف، العالم هون تشرّدت أو خسرت أحبابها”.
تخرج ميرنا ناصر، ابنة قرية باريش في قضاء صور، من مدخل المبنى نفسه الذي كان يقطنه محمد، مرتدية قفازات بيديها، وواضعة كمامة، حاملة أغراضًا مغطّاة بالرّماد ومجبولة بالذكريات، تضعها برفق في سيارتها، وتعيد الكرّة على عدة دفعات. “أحاول أن أنقذ ذكرياتنا من منزل الطفولة”، تقول ميرنا لـ “المفكرة”. فالشابة نزحت مع أهلها مع بداية توسّع العدوان، ورغم امتلاكهم منزلًا في شارع المأمون، إلّا أنّهم لم يعتبروا منطقة البسطة آمنة بما فيه الكفاية، ولحسن الحظّ قرّروا استئجار منزل في منطقة الأونيسكو. حسنًا فعلت ميرنا وأهلها، نجوا بأنفسهم، لكنّ البيت أيضًا يحمل جزءًا منّا: “الشخص بيزعل عالذكريات وعلى عمر بين هالحيطان”، وتتوجّه إلى المبنى مجدّدًا لتلملم ما تبقّى داخل المنزل.
الشاب محمّد شري، وهو من سكان زقاق البلاط، يقف إلى جانب أصدقائه من أبناء الحيّ ويستذكر آخر اللحظات “لقد كنت برفقة أصدقائي هنا قبل ساعات قليلة من الغارة، نسهر كعادتنا في القهوة على زاوية المبنى المجاور للمبنى الذي استهدف. لقد قتلوا أجمل لحظاتنا وجزءًا كبيرًا من مرحلة نضوجنا”، يقول محمد في إشارة إلى محلّ الحلّاق ومتجر الشقيقين الشهيدين في الغارة نبيل دقيق ونادية دقيق، الذي عرف لطفهما كلّ من مرّ على هذا الحيّ.
كلّ من سمع صوت الصواريخ في تلك الليلة أحسّ وكأنّ المبنى الذي يقطنه هو المستهدف وأنّ تلك اللحظات هي الأخيرة له على قيد الحياة، وهذا بالفعل كان الشعور الذي راود قاسم شاهين، أحد سكان المباني المجاورة، الذي استيقظ مع زوجته وأهلها على صوت القصف، “احتضنت زوجتي وانتظرنا قليلًا، ظننت أنّ الغارة استهدفت منزلنا أو منزل أهلي في المبنى المجاور، وبعدما توقّف صوت الضّربات، خرجنا من المنزل مسرعين”، يقول قاسم. عائلة قاسم قصدت البحر، فهو الأمان الوحيد في مثل هذه الحالات، توجّهوا إلى هناك بسيارتهم، فيما سارع هو ليساعد في عمليات الإغاثة، “بدأنا مباشرة بمساعدة الناس، وكانت عمليات الإغاثة صعبة جدًا نظرًا لضيق المكان وتوقيت الغارة، فاضطررنا إلى خلع أبواب بعض المنازل لمساعدة الناس على الخروج”. ورغم أنّ قاسم لا زال وعائلته سالمين، إلّا أنّ القهوة التي يملكها شقيقه تدمّرت، وكذلك تضرّر منزله، الذي سلم من احتمالية حصول أضرار كبرى بسبب وجود مبنى لمدرسة قيد الإنشاء شكّلت حاجزًا بينه وبين المبنى الذي أغارت عليه إسرائيل.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.