جدّدلو ولا تفزع…


2014-10-15    |   

جدّدلو ولا تفزع…

تهكم شاعر الشعب الشهير عمر الزعني على رئيس الجمهورية بشارة الخوري سنة 1949 عندما عدل هذا الأخير الدستور وجدد لنفسه، فنظم الزعني قصيدة شعبية لاقت رواجا كبيرا لدى الجمهور تقول:

جدّدلو ولا تفزع …….خليه قاعد ومربع
وجه عرفناه وجربناه ……وعرفنا غايتو ومبداه
ووافق هوانا هواه ……قدام خصمو يا محلاه
ما دام ظهرت نواياه ……ما عاد في مانع يمنع
لا تخاف إلا من الطفران ……الطفران غلب السلطان
أما المليان والشبعان ……من لقمة زغيري بيشبع
ما عاد في منو خطر ……ما عاد إلو ولا مطمع

وبعد أكثر من ستين سنة على هذه الواقعة،ها هو مجلس النواب اللبناني الممدد لنفسه أصلا يعد العدة لاقرار قانون يمدد بموجبه ولايته لفترة إضافية أخرى، متذرعا بحجج ينطبق عليها المثل " كاد المريب أن يقول خذوني". ولا بد لنا من تفنيد بعض تلك الحجج الواهية التي يحاول البعض التستر بها كي يبرر تهرب السلطة السياسية من كل المبادئ والقيم الديمقراطية التي من المفترض أن يقوم عليها النظام اللبناني.

كرس المجلس الدستوري في قراره رقم 1/97 مبدأ الدورية في ممارسة الناخبين لحقهم في الاقتراع، وأكد بشكل واضح أن المشترع لا "يستطيع أن يعدل في مدة الوكالة الجارية إلا لأسباب مستمدة من ضرورات قصوى وفي حدود المدة التي تستدعيها هذه الضرورات، أي في حال وجود ظروف استتثنائية". ولا شك أن الطبقة السياسية الحاكمة التي تجيد دائما الهروب إلى الأمام وتتقن جيدا فن المراوغة، تستطيع أن تجد في الظروف الاستثنائية، هذه النظرية العصية على كل فهم قانوني دقيق، وسيلة لتبرير مآربها.

لكن الخطير والمستجد اليوم هو بروز خطاب يبرر للتمديد وفقا لمنطق أقل ما يقال فيه أنه ينسف كل مقومات الدولة المدنية ويسمح للأحزاب السياسية بالتلاعب بأهم المثل التي يقوم عليها أي نظام يدعي الديمقراطية واحترام حقوق المواطنين. فنظرية الظرف الاستثنائي، رغم عدم تحقق شروطها اليوم، تظل من الناحية القانونية اقرارا بفداحة أي تمديد لولاية مجلس النواب وهي تقوم على اعتراف صريح بحق المواطن على ممارسة حقه بالاقتراع بشكل دوري بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.

فقد طالعنا رئيس مجلس النواب بنظرية مبتكرة تجمع بين الغريب والخطير مع بعض من الطرافة المعهودة في ظروف كهذه في لبنان. فما أن أعلن رئيس تيار المستقبل نيته في مقاطعة الانتخابات حتى خرج رئيس المجلس ليعلن جهرا بعدم جواز اجراء الانتخابات التشريعية في ظل مقاطعة مكون أساسي لها. والأمر ينطوي على تناقض عجيب كونه يسلم حكما بأن هذا المكون الأساسي (الطائفة السنية في هذه الحالة) سوف يختار تيار المستقبل مجددا لتمثيله. فمن قال لرئيس المجلس بأن الطائفة السنية (ونحن نتنزل هنا ونستخدم هذا المصطلح جدلا) سوف تختار سعد الحريري وتياره من جديد؟ فهذا القول فيه مصادرة ليس فقط لحق المواطن بالتعبير عن رأيه من خلال توقع نتيجة الانتخابات قبل حصولها، بل أيضا يسمح لأي جهة طائفية لا تريد اجراء الانتخابات خدمة لمصالحها السياسية بالتهديد بالمقاطعة ما يفقد العملية الانتخابية "ميثاقيتها" ويهدد شرعيتها من المنظور الطائفي.

ولا تقف تداعيات هذه "البهلوانيات" عند هذه الحد بل هي في جوهرها تصريح مباشر بأن هدف الانتخابات في لبنان ليس تجديد السلطة الحاكمة عبر افساح المجال لدخول تيارات سياسية غير تقليدية إلى مجلس النواب، بل تأمين استمرارية الطبقة الحاكمة عبر وهم تداول السلطة. فالرئيس نبيه بري يقول للمواطنين لا يحق لكم أن تنتخبوا إلا زعيمكم الطائفي وفي حال قرر زعماء الطوائف أن انتخابات ما ستهدد مصالحهم يحق لهم تأجيلها أو منعها بكل بساطة حرصا على الوحدة الوطنية إلى ما هنالك من شعارات فارغة.

ذريعة أخرى يتم تداولها اليوم مفادها عدم جواز اجراء الانتخابات في ظل الشغور في رئاسة الجمهورية. ولا بد لنا أن نعترف أن هذه الحجة فيها من الطرافة ما يقارب الدعابة ومن الخفة ما يجاور الهزل. فمجلس النواب فشل بانتخاب رئيس جديد وهو يتذرع بفشله لتمديد ولايته أي أن الطبقة السياسية هي التي أوجدت الظرف الاستثنائي ومن ثم تتحجج بهذا الظرف كي تسوق للتمديد. ومن المعلوم أن الدساتير تبحث عادة لحسم أي خلاف باسرع طريقة ممكنة. فعند اختلاف الحكومة والبرلمان في النظم البرلمانية ولتفادي أزمة وزارية غالبا ما تسمح الدساتير بحل مجلس النواب والرجوع إلى الشعب. فحل الأزمات لا يكون بتمديد فرصة التسويات السياسية لكن بالعودة إلى مصدر السيادة في الدولة، أي الشعب حسب المفهوم المعاصر. فالسلطة التي تفشل يشكل فشلها سبب الظرف الاستثنائي وحلها هو السبيل الوحيد للخروج من حالة الضرورة. ان اجراء الانتخابات في لبنان هو ضرورة تحديدا بسبب وجود ظروف استنائية. فهذة حجة ضد نواب التمديد وليست معهم.

ولا يجب أن ننسى في النهاية أن هذه الحجة متهافتة أيضا من الناحية الدستورية الصرفة. فالمادة 74 من الدستور تنص صراحة على التالي: "وإذا اتفق حصول خلاء الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلاً تدعى الهيئات الانتخابية دون ابطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الانتخابية·"، أي أن الدستور تنبه لفرضية خلو رئاسة الجمهورية واجراء الانتخابات التشريعية.

قد يسرق الانسان المال، لكن المال يمكن رده، قد يسرق المجوهرات والذهب لكن كل الأشياء المادية يمكن ردها، لكن سرقة الزمن غير قابلة للاسترداد. فمجلس النواب الذي يمدد لنفسه يسرق الزمن من المواطنين، يسرق فرصتهم بالتغيير، يسرق حقهم بالتعبير عن رأيهم، لا بل هو يسرق مواطنتهم. ألم يعتبر المفكر الفرنسي الكبير روسو عندما كان يناقش النظام البريطاني أن المواطن في بريطانيا ليس حرا إلا في نهار الانتخابات عندما يمارس حقه بالاقتراع؟ فالغاء حق الاقتراع هو سرقة موصوفة لحرية المواطنين.

ولا بد لنا في النهاية أن نكرر مع عمر الزعني بحق النائب الممدد : " جدّدلو ولا تفزع / خليه قاعد ومربع، جدّدلو ولا تفزع/ما عاد بقا يبلع". هذا في زمن الأربعينات، أما اليوم فأكيد "رح يضل يبلع".

الصورة منقولة عن موقع lebanonews.net

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني