في العديد من القضايا المحالة للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية، تبدو الوقائع الناتجة عن التحقيقات مقلوبة. ففي حين يؤشر التحليل المنطقي للظروف إلى حصول اعتداء من عسكري على مواطن (قد يكون تعرض لتعذيب أو ضرب أو أي اعتداء مشابه)، يتم في الكثير من الحالات، في أثناء التحقيقات الأولية أمام الشرطة العسكرية أو حتى التحقيقات الابتدائية أمام قضاء التحقيق العسكري، إقحام واقعة “شاذة” لا تنسجم مع سياق الأمور، مؤداها ترجيح فرضية أن العسكري كان هو المعتدى عليه، وفي حال دفاع عن النفس. قضية منصور جمال الدين هي من هذه الزاوية أحد نماذج هذا التوجه. وهذا ما أردنا إبرازه في عنوان هذا المقال (المحرر).
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحاً حين التأمت هيئة المحكمة العسكرية برئاسة العميد إبراهيم عبد الله، نهار الثلاثاء 13 تشرين الثاني 2018. في هذا التاريخ، كان الأخوة الثلاثة من آل جمال الدين، المنتمون إلى الحزب الشيوعي، على موعد مواجهة مع الضابط في القوى الأمن الداخلي إيلي أبو رجيلي. وهذا الأخير هو المعني بالإشكال الذي حصل في 1 أيار 2017 على حاجز ضهر البيدر، أثناء عودة الأخوة الثلاثة من تظاهرة عيد العمال التي ينظمها الحزب الشيوعي كل عام. هناك، أصيب منصور جمال الدين إصابة بليغة في رأسه، ما اضطر نقله إلى المستشفى قيد التوقيف، فيما تم إيقاف أخويه لفترة أقصر. وقد اتهم منصور في قرار ظني صادر عن قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا (30 آب 2017) بتهديد وضرب عناصر قوى الأمن أثناء وظيفتهم، وفقاً لمادتي الـ 381 و383 من قانون العقوبات.
وقد سعى الدفاع عن منصور إلى دحض وقوع حادثة الاعتداء على الضابط، وقد نجح بذلك بصدور حكم لصالح منصور يبرئه منه في اليوم نفسه من الجلسة.
علم الحزب الشيوعي استفز العنصر الأمني
حصلت الحادثة في 1 أيار 2017 عندما كان المشاركون في تظاهرة عيد العمال، عائدين إلى قراهم في البقاع في سيارات من نوع فان تحمل أعلام الحزب الشيوعي. ولدى الوصول إلى حاجز الأمن الداخلي عند محلة ضهر البيدر، وصل الفان الأول الذي يستقله محمد وعبد الخالق جمال الدين. طلب منهم العريف على الحاجز إنزال علم الحزب الشيوعي عن الفان، وبرر طلبه بأنه سيرتطم برأسه. وإذ رفض محمد إنزال العلم، طلب إليه العريف أن يركن السيارة يميناً ويسلم هويته. رفض محمد تسليم الهوية وطلب أن يتحدث مع الضابط، إذ أنه لم يجد تبريراً لطلب الهوية. نزل محمد وأخوه عبد الخالق. وخلال لحظات وصل أخوهم الثالث منصور الذي كان يستقل فانا ثانيا، فوجد أن أخويه أصبحا داخل مبنى الأمن الداخلي، فأخرج هاتفه للاتصال بمحاميته، ودخل وراء أخويه. عندما وصل منصور، طلب منه الضابط إيلي أبو رجيلي أن يغلق الهاتف. لكن منصور رفض الأمر، فحاول الضابط أخذ الهاتف من منصور، لكنه بقي متمسكاً به. فحصل إشكال انتهى بإصابة منصور في رأسه، وقد ملأت دماؤه الأرض، وتم نقله إلى المستشفى. حينها تم توقيف عبد الخالق حتى المساء، ومكث محمد ليلة في الاحتجاز أما منصور احتجز لخمسة أيام أمضى منهم يومين في المستشفى. حينها نفذ الحزب الشيوعي بتاريخ 3 أيار2017 اعتصاماً أمام المحكمة العسكرية في بيروت، احتجاجاً على توقيف منصور وضربه.
جلسة المرافعة: مواجهة بين الضابط والأخوة جمال الدين
مقاعد المحكمة مزدحمة يمنى ويسارا بالمدعى عليهم، وهم الذين تحتجزهم المحكمة العسكرية عند حضورهم إلى جلساتهم، ولا يخرجون قبل إصدار الأحكام بعد الانتهاء من الجلسات. وقد تخطت أعداد الجلسات في هذا اليوم الـ 90 جلسة، تنوعت بمضمونها، مثل مشكل عائلي أودى إلى إطلاق نار. وكان هناك أيضاً شاب فلسطيني يرتدي لباس سجن الريحانية التابع للشرطة العسكرية، يحاكم بمسألة إطلاق نار أيضاً، وقد برر للقاضي فعلته أنه فعل ذلك “بدافع الغضب من شخص لم يسدد ديونه لوالدي، فأطلقت النار في الهواء لأفرغ غضبي”. وعسكري في الجيش اللبناني كان يقود سيارته فاصطدم بدراجة نارية يستقلها شابان من الجنسية السورية، وقد أودى الحادث بحياتهما. وقد حصل العسكري على إسقاط حق من العائلة. وأما الجلسة رقم 73 فكانت مخصصة للشبّان من آل جمال الدين.
بدأ الاستجواب مع منصور، فسأله العميد عبد الله عما حصل في 1 أيار 2017. يجيب منصور: “كل ما أذكره أنه طُلب مني هويتي، بعدها غبت عن الوعي، ولما استيقظت وجدت نفسي في المستشفى”. بالتالي، أنكر منصور ما نُسب إليه أنه قام بضرب الضابط واعتبر أنها أوهام.
ثم طُلب إلى الضابط أبو رجيلي الدخول للإدلاء بإفادته، فروى روايته ومفادها، “كانت نحو الثالثة عصراً، حين دخل رتيب الخدمة إلى مكتبي وقال إنه هناك رجلا (محمد) في الخارج امتنع عن إعطاء هويته”. يُضيف أبو رجيلي، “طلبت أن يدخلوه، ثم لحقه شخصان (منصور وعبد الخالق) أحدهم كان يتكلم عبر الهاتف، ويشتم (يقصد منصور)”. “وبسبب وجود تعميم بمنع المدنيين التكلم عبر الهاتف داخل المخفر، طلبت إليه أن يطفئه، فقال لي، لا إنت ولا الأكبر منك سيمنعني عن الكلام عبر الهاتف، من ثم وأنا أقوم بأخذ الهاتف من يده، ضربني على عيني، وقد دفع أخوه محمد أحد رجال الأمن، فقام الرجال بتثبيت منصور، وفي هذه الأثناء وقع منصور وارتطم رأسه بخزانة السلاح فأصيب في رأسه”. فسأله القاضي: “هل هو أمر عادي أن يستقوي شخص داخل المخفر؟ فأجاب الضابط: “لقد حاول الرجال تهدئة منصور، لكنه راح يهدد كما حاول أخوه محمد أن يدافع عنه بردّ رجال الأمن عنه”. كما يقول الضابط أن “منصور لم يتعرض للضرب وأنا موجود”. ويضيف، “أنا لم أستخدم مسدسي قمنا فقط بالإجراءات اللازمة للسيطرة عليه، عندما تبين أنه مصاب، أعطيناه المناديل الورقية وطلبنا له سيارة إسعاف”.
أما رواية محمد فقد اختلفت كلياً عن رواية الضابط، إذ أدلى بأن “الضابط حاول سحب الهاتف من يد منصور بالقوة، علماً أن منصور أكد له أنه يُكلم محاميته، لكن الضابط قام بضرب منصور بكعب مسدسه”. يضيف محمد، “نزف منصور بشدة من رأسه، وقد تحولت الأرض إلى بركة دماء، بالتالي فقد منصور الذاكرة كلياً”. ويؤكد محمد، “أن سيارة الإسعاف لم تصل قبل ثلث ساعة، ومنصور كان فاقد الذاكرة طيلة هذا الوقت”. ثم روى أمامه العميد عبد الله رواية الضابط، فأنكرها محمد وأكد أن أخاه منصور تعرض لضرب مبرح كما تعرض هو أيضاً للضرب. أما عبد الخالق، فيؤكد في روايته أن أخاه منصور تعرض للضرب على يد الضابط. كما أنه لم يُنكر أن “منصور كان غاضباً حالما وصل، وكان يصرخ غضباً بسبب إدخال أخوته إلى المخفر”.
مرافعة الدفاع: الضابط سعى إلى تحويل المعتدى عليهم إلى معتدين
ترافع وكيل المدعى عليه المحامي مازن حطيط مبرزاً التناقضات في شهادة العناصر الأمنية الذين تواجدوا في مبنى الأمن الداخلي. ويشدد حطيط على أن شهادة العناصر تواءمت في أمر واحد هو أن منصور قام بضرب الضابط. أما التفاصيل الأخرى المتعلقة بإصابة منصور، فبقيت لغزاً. ويشير حطيط إلى أن “سائق الفان وشقيق منصور نفيا في التحقيق أن يكون منصور تعرض للضابط بالضرب”.
واعتبر حطيط أن إفادة الضابط هي إفادة غير صحيحة، مشيراً إلى أنه حاول إخراج نفسه من هذه القضية، وسعى لتحويل المعتدى عليهم إلى معتدين. لذا أعاد حطيط التذكير ببيان قوى الأمن الداخلي الذي صدر رداً على بيان استنكار للحزب الشيوعي آنذاك، والذي كشف على التناقض الحاصل. فلفتت المديرية آنذاك في بيانها إلى أنه “عندما أدرك أحدهم (الشبان) أنه يجري طلب النشرة، أقدم وبصورة فجائية، على لكم الضابط على رأسه، فقام الضابط برد فعل فوري، نتج عنه إصابة المعتدي ونقله إلى المستشفى للعلاج، وتبين أنه يوجد بحقه قرار جزائي”. يؤكد حطيط أنه “تبين لاحقا أن برقية التحريات أُرسلت في اليوم التالي مما يؤكد إرباك الضابط، وبالتالي إفادة رؤسائه بأخبار غير صحيحة بغية إيجاد مخرج لما أوقع نفسه فيه (أي الضابط)”. أي أن القرار الجزائي الصادر بحق منصور علمت به المديرية في اليوم التالي، ما يؤكد أن الحجة التي تضمنها البيان بأن “منصور ضرب الضابط عندما علم بأنه يجري طلب النشرة”، فهي حجة واهية. من ثم عرض حطيط الاختلاف في إفادة الضابط الذي قال فيها أن “الإشكال حصل بسبب الهاتف الخليوي”. وتجدر الإشارة إلى أن البيان أظهر منصور وكأنه مجرم، لكن القرار الجزائي الوارد فيه هو بالحقيقة ضبط سرعة لم يكن المدعى عليه قد تبلغه حينها، بحسب ما يؤكد محمد شقيق منصور للمفكرة.
من ناحية ثانية، استغرب حطيط أن يكون الضابط قد ضرب منصور كردة فعل عفوية، مشيراً إلى “أن تقرير الطبيب الشرعي الذي كشف على المدعى عليه الجريح، يؤكد أن ما تعرض له منصور لم يكن نتيجة ضربة واحدة ناتجة عن رد فعل فوري، كونه ثبت بالتقرير أنه تعرض لضرب بقبضة مسدس من الخلف وبأعقاب البنادق ولبيط بالأرجل”. ويسعى حطيط من خلال ذلك، إلى إيضاح أن الإشكال لم يقتصر على تثبيت منصور وحماية الضابط منه، وأن منصور تعرض لضرب مبرح من العناصر الأمنية.
ويستنتج من مرافعة حطيط أن العناصر الأمنية الذين تواجدوا خلال الحادثة وهم “تحت إمرة الضابط” أدلوا بإفادة تتهم منصور بأنه تعرض للضابط بالضرب، ولم يجر الأخذ بعين الاعتبار بشهادات أخرى تناقض ما قيل. بالإضافة إلى ذلك، يسأل حطيط ما هي الاجراءات التي اتخذت بحق الضابط والعنصر المخالف الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ (أي العنصر الذي طلب إنزال العلم دون تبرير) مضيفاً، “لا شيء، لماذا؟ لأننا دائما نحاسب الضعيف ومن اصطلح على تسميته للأسف “ما إلو ضهر”. كما يسأل حطيط: “ماذا لو كان العلم الحزبي الذي هو أساس المشكل، يعود لأحد الأحزاب السلطوية الحاكمة التي تعيث فساداً وجبروتا في البلاد؟ فلنتكلم بصراحة؟”.
كذا ويعلق حطيط على ما ورد في القرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق الأول ما فيه حرفيته : “…لا سيما أن العريف أفاد أثناء التحقيقات الأولية أن سبب طلبه إدخال العلم هو كي لا يصطدم به ولم يكن الدافع وراء ذلك أي سبب يتعلق بالمحافظة على النظام العام أو على السلامة المرورية”. ويسترسل حطيط أنه كان بإمكان عنصر التوجيه تجنب العلم نظراً لصغر حجمه وبالتالي يصبح طلب إزالة العلم في الظروف التي تم عرضها من شأنه أن يشعر المدعى عليه محمد جمال الدين بالاستفزاز. فإذا صح القول بأنه كان بإمكان هذا الأخير الامتثال إلى طلب عنصر التوجيه بإدخال العلم وتجنب الحادثة، فيصح القول أيضا أنه كان بإمكان عنصر التوجيه تجنب العلم وتفادي الحادثة أيضا..”.
العسكرية تبرئ منصور من تهمة ضرب الضابط
في اليوم نفسه أصدرت المحكمة العسكرية الحكم، ببراءة جمال الدين من المادة 381/252 (معاملة عناصر قوى الأمن بالشدة) للشك وعدم كفاية الدليل، إنما أدانته المحكمة بجرم تهديد عناصر الأمن لتحكم عليه “بالحبس عشرين يوماً على منصور مع وقف التنفيذ”. يعلق حطيط على الحكم قائلاً “أن همنا الأساسي كان دحض الرواية المزعومة بأن منصور اعتدى على الضابط. ويشير حطيط إلى مسألة يعتبرها هامة، وهي استدعاء الضابط إلى المحكمة، بما في ذلك من حقوق معنوية للمدعى عليه. ومع ذلك، يؤكد حطيط أن حضور الضابط “ما كان ليغير بمسار الحكم، وذلك بسبب التناقض بالإفادات حول الروايات التي أفاد بها عناصر الأمن الرواية المزعومة بأن منصور ضرب الضابط، وهو ما لم يتمكنوا من إثباته”. ويؤكد حطيط أن هذا الحكم غير قابل للتمييز، بما أن النيابة العامة نظرت الحكم أي أنها تنازلت عن حقها بالتمييز.
يلفت حطيط إلى أن منصور، وبسبب محاكمته كمدني أمام المحكمة العسكرية، حُرم من إمكانية تحصيل حقه من المعتدي عليه. يضيف حطيط، “لو كنا أمام القضاء العدلي لاتجهنا في مسار مختلف، فكان بإمكاننا الادعاء على الضابط مقابل الادعاء علينا”. من جهة موازية، يلفت حطيط إلى أنه عند توقيف منصور “قمنا بتقديم إخبار إلى النيابة العامة التمييزية، فقامت بتحويله إلى مفوض الحكومة لإجراء المقتضى القانوني، لكن تم حفظ الشكوى”. ويشير حطيط، “لا نعرف لم تم حفظ الشكوى، علماً أننا قدمنا التقرير الطبي الذي يثبت أن منصور تعرض لإصابات بليغة بسبب الضرب”.
يعتبر حطيط أن هذه القضية “هي معركة حريات، فإن ترهيب المواطن واستعمال السلطة لتخويفه، كذا واعتبار أن العنصر الأمني لا يخطئ، كلها أمور تتصل بالحريات بشكل عميق”. لذا، فإن هذه القضية تؤكد أن “سلطة رجل الأمن لا تخوله الاعتداء على المواطن ومن ثم يقوم بتحميله المسؤولية، وكأننا أمام المقولة الشعبية “ضربني وبكى سبقني واشتكى”. ويشير حطيط إلى أن الاعتداء على عناصر من الحزب الشيوعي هو اختيار واضح، حيث أنه “حزب غير طائفي ولا مناطقي”، بالتالي “تم استسهال افتعال إشكال معه، فلا منطقة ولا طائفة ستقوم بوجه المعتدي”. لكن بالمقابل يؤكد حطيط، أننا في الحزب نلجأ إلى القانون ولا نسعى لإيجاد مخرج لقضايانا بالواسطة أو الاستقواء”.
مقالات ذات صلة:
كيف تمدّدت أذرع القضاء العسكري في لبنان؟
بمَ ينتهك القضاء العسكري شروط المحاكمة العادلة في لبنان؟