يشهد لبنان منذ زهاء أسبوع جدلا حول قانونية مرسوم التجنيس الذي أصدره رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. في هذا الإطار، تنشر المفكرة تباعا عددا من المقالات، التي قد تتضمن آراء متباينة أو حتى متناقضة، للإحاطة بالمسألة، من مختلف جوانبها. المقال الحالي يستعرض النصوص الخاصة بالتجنيس وما يحيطها من لبس بعدما شهدت تعديلات عدة في الثلاثينات والأربعينات. وتدعو المفكرة جميع قرائها إلى التفاعل مع هذه القضية بالغة الأهمية (المحرر).
يشوب موضوع منح الجنسية بمرسوم نقطة قانونية مبهمة على درجة كبير من الخطورة تحتاج إلى التوضيح. فبعيدا عن الجدل الذي دار حول صدور هذا المرسوم وما هي المعايير التي استند عليها لا بد من معالجة قضية تتعلق بأصل هذه الصلاحية وتحديد مرتكزها القانوني أي معرفة قبل التطرق إلى أي مسالة أخرى هل يجوز أصلا منح الأجنبي الجنسية اللبنانية بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية؟
والظاهر وفقا للواقع القانوني القائم في لبنان أن الجواب ليس بديهيا كما يعتقد العديد من الناس. فرؤساء الجمهورية المتعاقبون أصدروا منذ إعلان الجمهورية وحتى اليوم عددا كبيرا من مراسيم منح الجنسية ما يجعل الجواب محسوما إذ كيف يعقل أن تتم ممارسة صلاحية على مر العقود وهي غير موجودة في الأساس. لكن الأمر بعد المراجعة والتدقيق ليس بهذه البساطة. وكي نتمكن من شرح ذلك لا بد استعراض تطور النصوص القانونية المتعلقة بأحكام الجنسية اللبنانية وكيف تطورت عبر الزمن.
مع انهيار الدولة العثمانية وتفككها وخضوع لبنان وسوريا إلى الانتداب الفرنسي، كان لا بد من إصدار تشريعات جديدة تنظم انتقال الأفراد من “تابعية” السلطنة العثمانية إلى “تابعية” الدول التي أبصرت النور حديثا. وهكذا أصدر المفوض السامي موريس ساراي القرار رقم /S15 تاريخ 19 كانون الثاني 1925 والذي يختص “بالتابعية اللبنانية”. ولا يزال هذا القرار معمولا به علما أنه جرى تعديله مرات متعددة وصدرت لاحقا قوانين منفصلة حول أحكام جزئية تتعلق بالجنسية اللبنانية الأمر الذي جعل النظام القانوني حول مسائل الجنسية في لبنان مبعثرا ويصعب حصره بشكل دقيق بسبب غياب تشريع واحد شامل لمختلف أحكام الجنسية.
من خلال مراجعة مختلف مواد هذا القرار، نلاحظ أنه ميز بين من يحملون الجنسية اللبنانية بحكم القانون وبين من يصبحون لبنانيين عقب تجنيسهم. وقد حددت المادة الأولى المبدأ العام المتعلق باللبنانيين بحكم القانون فنصت على التالي:
“يعد لبنانيا:(1) كل شخص مولود من أب لبناني (2) كل شخص مولود في أراضي لبنان الكبير ولم يثبت أنه اكتسب بالبنوة عند الولادة تابعية أجنبية (3) كل شخص يولد في أراضي لبنان الكبير من والدين مجهولين أو والدين مجهولي التابعية”.
وهكذا تكون هذه المادة قد نظمت الجنسية الحكمية للمستقبل أي أن كل فرد مشمول بأحكامها يصبح لبنانيا بشكل تلقائي ولا يحتاج إلى صدور أي قرار أو مرسوم لتأكيد ذلك.
أما الفئة الثانية التي عالجها القرار رقم 15 أي الذين يتم منحهم الجنسية فقد جاءت المادة الثالثة من القرار المذكور لتضع الأصول المتبعة في تلك الحالة فنصت صراحة على التالي:
“يجوز أن يتخذ التابعية اللبنانية بموجب قرار من رئيس الدولة بعد التحقيق وبناء على طلب يقدمه:
(1) الأجنبي الذي يثبت إقامته سحابة خمس سنوات غير منقطعة في لبنان (2) الأجنبي الذي يقترن بلبنانية ويثبت أنه أقام مدة سنة في لبنان إقامة غير منقطعة منذ اقترانه (3) الأجنبي الذي يؤدي للبنان خدمات ذات شأن. ويجب أن يكون قبوله بموجب قرار مفصل الأسباب”.
تعتبر هذه المادة المسوغ القانوني الذي يسمح لرئيس الجمهورية بإصدار مرسوم منح الجنسية لأشخاص لا يتمتعون بالجنسية اللبنانية بحكم القانون. وقد استخدم القرار رقم 15 تعبير رئيس الدولة وقال أن الجنسية تمنح بقرار وليس بمرسوم لسبب بسيط ألا وهو أن سنة 1925 كان لبنان لا يزال تحت الحكم الفرنسي المباشر ولم يكن الدستور الذي أعلن الجمهورية اللبنانية سنة 1926 قد تم تبنيه بعد. فرئيس الدولة سنة 1925 كان يعرف بحاكم دولة لبنان الكبير وهو دائما كان موظفا فرنسيا يتولى إصدار ما يعرف بالقرارت كون المرسوم وفقا للنظام الفرنسي السائد حينها هو حصرا النص الذي يصدره رئيس الجمهورية.
لكن هذه المادة الثالثة التي تولي رئيس الدولة (أي رئيس الجمهورية منذ أيار 1926) هذه الصلاحية ألغيت سنة 1939. فقد أقر مجلس النواب قانونا أصدره الرئيس اميل اده في 27 أيار 1939 يحتوي على أحكام أكثر تشددا من تلك التي تنص عليها المادة الثالثة من القرار رقم 15. فقد نصت المادة الأولى من القانون الجديد على التالي:
“يمكن منح الأجنبي الجنسية اللبنانية بمقتضى مرسوم بناء على طلبه وبعد إجراء تحقيق في شأنه ضمن الشروط التالية: 1) إذا أثبت أنه أقام في أراضي الجمهورية اللبنانية إقامة فعلية غير منقطعة مدة عشر سنوات. 2) إذا أثبت أنه بعد اقترانه بامرأة لبنانية أقام في لبنان إقامة غير منقطعة مدة خمس سنوات على الأقل تبتدئ من تاريخ زواجه”.
بينما نصت المادة الثانية من القانون أيضا أنه “يمكن منح الجنسية اللبنانية بمقتضى مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء كل أجنبي أدى إلى لبنان خدمات جلى مهما بلغت مدة إقامته في لبنان”.
وقد تنبه النواب أثناء المناقشة إلى أن هذا القانون يتعارض مع القرار رقم 15. فقد أشار صراحة إلى ذلك مقرر لجنة الإدارة والعدلية كميل شمعون حين ذكر في تقريره الآتي: “وهي (أي اللجنة) بالوقت نفسه تلفت أنظار المجلس والحكومة إلى أن هذا المشروع من شأنه تعديل قرار صادر من المفوضية العليا بتاريخ 19 كانون الثاني سنة 1925 حتى يصار لأخذ موافقة المفوضية العليا عليه إذا وجب ذلك”. وبالفعل، رد رئيس مجلس الوزراء عبدالله اليافي على هذه النقطة فقال أن “الحكومة قد أخذت كل التدابير وفاوضت المفوضية العليا”.
ولما كان لا يحق للمشرّع اللبناني تعديل قرارات المفوض السامي في زمن الانتداب الفرنسي، أصدر هذا الأخير القرار رقم 122/LR تاريخ 19 حزيران 1939 ونشر في العدد 12 من النشرة الرسمية للأعمال الإدارية للمفوضية العليا كما نشر أيضا في العدد 3696 من الجريدة الرسمية تاريخ 17 تموز 1939 وقد نصت المادة الأولى منه صراحة على التالي:
“ألغيت المادة 3 من القرار عدد 15/S الصادر في 19 كانون الثاني سنة 1925 بشأن الجنسية اللبنانية المتمم بالقرار عدد 160/L.R تاريخ 16 تموز سنة 1934. يبتدىء مفعول هذا الإلغاء من اليوم الذي يصبح فيه القانون اللبناني الصادر في 27 أيار سنة 1939 بشأن الجنسية معمولا به بنشره في الجريدة الرسمية للجمهورية اللبنانية”. وبالفعل كان القانون المذكور سبق نشره في العدد 3684 من الجريدة الرسمية تاريخ 5 حزيران 1939.
جرّاء ما تقدّم، يصبح جليا أن المادة الثالثة من القرار 15 قد ألغيت واستعيض عنها بقانون 27 أيار 1939. لكن المشكة تكمن في أن الرئيس إميل إده عاد وأصدر بتاريخ 31 أيار 1940 المرسوم الاشتراعي رقم 48 الذي ألغى في مادته الأولى قانون 27 أيار 1939.
وهكذا يصبح السؤال البديهي: ما هي الأحكام القانونية النافذة التي ترعى منح الجنسية؟ وكيف يتم إصدار مراسيم تجنيس من دون وجود نص يسمح بذلك؟ وما يزيد من غرابة الأمر، أن المجموعات القانونية المتوافرة في المكتبات (باستثناء مجموعة صادر) تنشر القرار 15 لسنة 1925 من دون المادة الثالثة أي مع الإشارة إلى أن المادة المذكورة ملغاة. وما يثير الريبة أكثر من ذلك أن مرسوم التجنيس الشهير الذي صدر سنة 1994 يشير في بناءاته فقط للقرار رقم 15 لسنة 1925 بشكل عام دون ذكر المادة الثالثة منه تحديدا كما يحدث عادة، حيث من المتوقع أن تستند المراسيم في تعليلها ليس فقط على نص عام بل من المفترض أن تشير إلى سندها القانوني بشكل محدد ودقيق بغية شرح مرتكزها الذي يبرر صدورها.
الرأي الأكثر رجحانا[1] هو أن قرار المفوض السامي رقم 122 لسنة 1939 قد قرن صراحة إلغاء المادة الثالثة من القرار رقم 15 بنفاذ قانون 27 أيار للسنة نفسها، ولما كان القانون المذكور قد ألغي سنة 1940، فإن هذا الإلغاء يعيد إحياء المادة الثالثة من القرار 15 وذلك بغية تفادي الفراغ التشريعي إلا اذا نص التشريع الجديد على أحكام تسد هذا الفراغ. فإلغاء قرار يتضمن بدوره إلغاء لنص أقدم يؤدي في المبدأ إلى بعث هذا الأخير.
وقد تأيد هذا الرأي بعدد من مراسيم منح الجنسية الصادرة بعد إلغاء قانون 27 ايار 1939 والتي تمّ نشرها في الجريدة الرسمية. فقد أصدر الرئيس ألفرد نقاش مجموعة كبيرة من مراسيم التجنيس ومنها المرسوم رقم 463 تاريخ 9 نيسان والمرسوم 565 تاريخ 29 نيسان. ومن خلال التدقيق في تلك المراسيم نلاحظ أنها أشارت في بناءاتها لصدورها وفقا لأحكام القرار 15 وذلك بسبب مرور أكثر من خمس سنوات على إقامة المستفيدين في لبنان أي عملا بأحكام الفقرة الأولى من المادة الثالثة موضوع البحث. ويستدل من ذلك أن السلطات العامة تصرفت آنذاك على أساس أن هذه المادة سارية المفعول وأعيد العمل بها. وهذا هو الفهم الذي تشكل حينها حول هذه النقطة.
وقد تنبه مجلس شورى الدولة لهذه النقطة الشائكة: فأشار صراحة إلى أن المادة الثالثة من القرار 15 لسنة 1925 سارية المفعول إذ اعلن “أن موضوع قانون الجنسية يختلف عن موضوع التجنيس الذي يقتصر على إعطاء الجنسية لطالبها في حال توافر الشروط القانونية، علما بأن هذا الأمر منوط برئيس الدولة وفقا لأحكام المادة 3 من القرار 15” (قرار رقم 484 تاريخ 7/5/2003).
وفي اجتهاد لاحق أكثر وضوحا، اعتبر مجلس الشورى أيضا التالي: “وبما أنه بالنسبة للأساس القانوني الذي ارتكز عليه مرسوم التجنيس رقم 5247/1994 فانه يتبين أنه صدر بناء على القرار رقم 15/1925 وبالتالي ضمنا المادة الثالثة منه باعتبارها المادة الوحيدة التي ترعى التجنيس. وأن هذه المادة لا تزال سارية المفعول بعد إلغاء قانون التجنيس بالجنسية اللبنانية الصادر في 27/5/1939 الذي كان ينص على إلغائها وذلك بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 48/1940” (قرار رقم 488 تاريخ 20/2/2014).
وهكذا يكون القضاء الإداري قد حسم هذه النقطة الملتبسة معتبرا أن إلغاء قانون 27 أيار 1939 أعاد احياء المادة الثالثة موضوع البحث. إلا أنه رغم ذلك، مجرد وجود جدل حول سريان المواد وأبعادها يؤشر إلى أن النصوص الناظمة للجنسية اللبنانية باتت مترهلة وقديمة جدا، هذا فضلا عن كونها مبعثرة في عدد كبير من القوانين وهي لا تسمح بتحقيق المعايير الضرورية للشفافية. وهذا الأمر يستوجب إصدار تشريع جديد موحد يؤدي إلى إبعاد موضوع التجنيس عن اعتباطية السلطة السياسية.
[1] يراجع بشكل خاص، رواد فرانتيرز، رحلة العمر بين الظل والذل، دراسة قانونية حول ظاهرة عديمي الجنسية في لبنان، ص. 82 وتوابعها وقد جاء فيها: “لما كان القانون الأخير (التجنس بالجنسية اللبنانية) قد ألغي في العام 1940. وعليه، إن المادة 3 من القرار 15 أصبحت نافذة ولا تزال سارية المفعول، حيث أن كل تعديل عليها كان يلغي الآخر. وهذا الرأي يؤيده عدد كبير من القانونيين”. ومن القانونيين الذين استشهدت بهم الدراسة، لور مغيزل، وبدوي أبو ديب والياس أبو عيد. (الهامش 177 من الدراسة). (المحرر).