جدلية الميثاق والدستور


2013-09-17    |   

جدلية الميثاق والدستور

سؤال بسيط جدا لكن بمدلولات كبيرة يطرح نفسه بقوة في الاونة الأخيرة على الساحة السياسية في لبنان: ما هي علاقة الميثاق الوطني بالدستور؟ أو بتعبير آخر هل الدستور هو الميثاق أم ينبغي التفريق بينهما ومعالجتهما كمفاهيم منفصلة؟

لا شك أن تأثير الميثاق على الدستور أمر بين لا يحتاج إلى براهين. فكل مراجعة للدستور اللبناني منذ اصداره سنة 1926 وما رافقه من تعديلات لا سيما سنة 1990 عقب اتفاق الطائف تظهر بشكل واضح أن موادا كثيرة تم اقرارها لكي تتواءم مع "متطلبات العيش المشترك" كالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المقاعد النيابية (المادة 24) أو توزيع الحقائب الوزارية في الحكومة (المادة 95) إلى ما هنالك من بنود غير مألوفة في دساتير الدول التي تتبع النظام البرلماني التقليدي (المادة 65 مثلا التي تفرض نصابا محددا لانعقاد مجلس الوزراء أو الفقرة الأخيرة من المادة نفسها التي تنص على ضرورة الحصول على موافقة ثلثي أعضاء الحكومة من أجل إقالة وزير ما).

لكن مندرجات الميثاق لا تنحصر بنص دستوري إذ أهم دعائم النظام السياسي اللبناني لا ذكر لها في الدستور. فقاعدة تخصيص رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة إلى أشخاص من طوائف محددة هي قاعدة عرفية وميثاقية بامتياز لكن لا وجود قانوني لها في متن الدستور. فاختيار شخص مسيحي على سبيل المثال لرئاسة الحكومة هو عمل دستوري لكنه يشكل في الوقت عينه مخالفة صريحة للميثاق الوطني وما يستتبع ذلك من خلل في توزيع السلطة داخل مؤسسات الدولة.

جراء ما تقدم، يتبين لنا أن الدستور هو تعبير جزئي عن الميثاق بقدر ما يحتاج هذا الأخير إلى قاعدة قانونية تكسبه الفعالية. لكن هذا الاستنتاج لا يجب أن يدفع بنا إلى المماهاة بين الدستور والميثاق بل علينا أن نفصل بينهما لجملة من الأسباب لعل أبرزها تحرير الحيز القانوني من استنسابية السياسي (le politique).

فميثاق العيش المشترك هو في ماهيته اتفاق بين الأطراف اللبنانية يخضع للاعتبارات السياسية التي أملته في ظروف محددة وضمن شروط خاصة. فكما أن الميثاق أوسع من الدستور في بعض المجالات كذلك الدستور أشمل من الميثاق في مواضيع شتى لا يحق لهذا الأخير أن يتدخل بها. فحماية حقوق المواطنين والمحافظة على حرياتهم الأساسية لا يمكن أن تكون جزءا من اتفاق سياسي وضعي بل هي حقوق طبيعية يكرسها النص القانوني عبر الاعلان عنها فقط لأنها لا تحتاج إلى انشاء كونها ملازمة لطبيعة الانسان. فالزعم بأن الدستور والميثاق هما شيء واحد يجرد الضمانات الدستورية من مرتكزاتها الطبيعية والفلسفية ويخضعها لأحكام السياسة ما يؤدي إلى تمدد الميثاق خارج حدوده المألوفة.
ومن تداعيات هكذا أمر ما شهدناه في لبنان من تحويل كل شأن إلى أمر ميثاقي ما يسمح بإخضاعه "لفيتو الطوائف". فاقرار قانون مدني للأحوال الشخصية يمس بميثاق العيش المشترك وهو يحتاج إلى التوافق والحوار وموافقة رؤساء الطوائف إلى ما هنالك من حجج خطابية هدفها الحقيقي قضم صلاحيات الدولة والتعدي على هويتها المدنية.  

مثل آخر معبر يعكس كيف يتحول الميثاق إلى ذريعة كفيلة بشل كل خطوة اصلاحية يتعلق بخفض سن الاقتراع. فتعديل المادة 21 من الدستور تم اجهاضه بحجة الخلل الديموغرافي الذي قد ينجم عن مثل هكذا أمر وما يستتبعه ذلك من مس "بقدس الأقداس" الميثاق الوطني الذي بز به لبنان العالم.
ولا يجب التوقف عند هذه الأمثلة المحدودة بل علينا أن نذهب إلى نهاية هذا المنطق ونتائجه القصوى. فالخطورة الجوهرية تكمن في طبيعة الميثاق الهلامية واستنسابية الطوائف التي تستطيع أن تحول كل خلاف سياسي يجب معالجته بالطرق القانونية العادية إلى اشكالية ميثاقية لا يمكن اقرارها إلا بعد توفير الاجماع عليها، فتارة يكون اجتماع مجلس النواب في ظل حكومة مستقيلة من الأمور الدستورية وطورا يصبح مخالفا للدستور لأنه يسمح بتخطي رئيس مجلس الوزراء ما يخالف الميثاق ومقتضيات العيش المشترك. وهكذا يكون الميثاق الرافعة المفهومية التي تسمح للأحزاب الطائفية بتعطيل المؤسسات عندما تشاء استنادا إلى حجج لا يمكن أن تخضع لتقييم حسب معايير قانونية موضوعية. وبالتالي تكون القوى الطائفية قد كسبت سلطة خارقة متفلتة من كل عقال ألا وهي سلطة تعليق القانون.

وهنا نصل إلى النقطة المفصلية، فتعليق القوانين صلاحية لا يملكها سوى صاحب السيادة، فهي من "علامات" السيادة كما حددها المفكر الفرنسي الكبير جان بودان عندما نظّر لهذه الفكرة. والسيادة اليوم تتجسد في الشعب الذي يمارسها عبر مؤسسات الدولة كما تنص الفقرة "د" من مقدمة الدستور. وهكذا تكون رقصة التناقضات تلك قد وصلت إلى أوجها: فالطوائف تتعدى على سيادة الشعب لحماية الميثاق وهي تقوم بالتالي بخرق الدستور باسم الدستور الذي تنص الفقرة "ي" من مقدمته على أن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".

والأمر يزداد تعقيدا في حال أردنا أن نحدد ما هو هذا الميثاق. هل هو اتفاق الطائف مثلا؟ لكن هذا الاتفاق يحتوي على بنود سياسية بامتياز كتلك المتعلقة بالعلاقة مع سوريا وتحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي. فهل تتمتع هذه البنود بقوة دستورية يجب على المشترع أن يحترمها عند سنه للقوانين؟ والمنطق البديهي يجب أن يقودنا إلى رفض مثل هكذا احتمال. وقد اعلن المجلس الدستوري قي القرار رقم 1 تاريخ 31/1/2002 أن نصوص وثيقة الوفاق الوطني التي ادرجت في مقدمة الدستور أو في متنه تخضع لرقابته وبالتالي لا تتمتع سائر بنود اتفاق الطائف بقيمة دستورية.
ما هو الميثاق إذا؟ سؤال بسيط تشكل الاجابة عليه المدماك الرئيس للنظام اللبناني ولا بد لي أن أعترف عن عدم قدرتي على الاجابة بشكل واضح. هل هو ميثاق 1943؟ هل هو اتفاق الطائف؟ هل هو بين المسيحيين والمسلمين فقط أو بين الطوائف المعترف بها رسميا؟ ماذا نفعل عندما يسمح الدستور بتصرف ما في حين لا يجيزه الميثاق؟ هل الدستور هو القاعدة والميثاق هو الاستثناء أو العكس؟

إن كل هذه الأسئلة، وبغض النظر عن الموقف الشخصي الذي يدافع عن فكرة حصر الميثاق بنصوص واضحة واخضاعه لعمل المؤسسات، يتطلب ايجاد سلطة تأسيسية تتمكن من اعادة النظر بالنظام السياسي اللبناني برمته.وقد بات من الجلي أن "التوافق" بات الوسيلة التي تستخدمها الأحزاب من أجل مخالفة القوانين بذريعة ضرورات العيش المشترك: فحماية المواطن في لبنان لم تعد مسألة تتعلق فقط باحترام القانون بل أصبح من الضروري أيضا حسم مسألة العلاقة بين الدستور والميثاق كي يتمكن الفرد أن يعي مجددا أن حقوقه يستمدها من مواطنيته وليس من ميثاق طائفي يتم تأويله حسب المصالح السياسية المتبدلة.

الصورة منقولة عن موقع nakedbana2.wordpress.com

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني