جبهة الخلاص الوطني: بين مطرقة المشاركة وسندان المقاطعة


2024-08-14    |   

جبهة الخلاص الوطني: بين مطرقة المشاركة وسندان المقاطعة

تجد جبهة الخلاص الوطني نفسها اليوم، بوصفها إحدى أهمّ مكوّنات المعارضة في المشهد السياسي الحالي، أمام منعرج سياسي هام، في علاقتها بالسلطة الحالية كما في ضمان استمراريتها كقوة فاعلة وصوت ممثل لشق مهم من التونسيين. إذ أن الجبهة التي تمّ تأسيسها في 31 ماي 2022 كإطار جامع لعدد من الفعاليات المعارضة لمنظومة ما بعد 25 جويلية من أحزاب وحركات مدنية بقيت عُرضة للانتقاد بل والتهجم في كثير من الأحيان من قبل عديد الأصوات سواء من السلطة أو من بعض الأطياف المحسوبة على المعارضة. حيث تمّ اتهامها بأنها مجرد “عنوان سياسي” تتّخذه حركة النهضة (وهي المكون الرئيسي داخل الجبهة) للعودة إلى المشهد السياسي من خلال استقطاب عدد من الشخصيات المحسوبة على تيارات سياسية أخرى كواجهة لها، أو بكل اختصار كبوابة لرجوع القوى المؤثرة في العملية السياسية ما قبل “التدابير الاستثنائية”. وبعيدا عن كل شكل من أشكال التوصيف أو الوصم، تصارع الجبهة اليوم الواقع السياسي بكل مطبّاته، وهي مُثخنة بأثر الإيقافات التي طالت عددا هامّا من قيادييّها، وآخرهم أمين عام حركة النهضة العجمي الوريمي، والتجاء عدد آخر من ناشطيها وقياديّيها إلى الخارج. وبالتوازي، خفُتت قدرة الجبهة في تحريك الشارع كنتيجة طبيعية لكل ما مرّت به من تضييقات على أنشطتها والتأثر بالتطورات التي يمر بها الوضع السياسي كلما اقترب الموعد الانتخابي.

جبهة الخلاص ومعضلة الحسم

شكّل الموقف من الانتخابات الرئاسية أحد عناصر النقاش الرئيسيّة داخل جبهة الخلاص منذ أوائل السنة الحالية وإلى اليوم، نظرا لاختلاف التقييم حول جدوى سلوك المقاطعة الذي اتخذته جلّ أطراف المعارضة خلال المواعيد الانتخابية السابقة. ففي يوم 30 أفريل، أعلنت جبهة الخلاص قرار عدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية “لعدم توفر مناخ لانتخابات نزيهة” واعتبار هذه الانتخابات مجرد “مسرحية”، في “ظل عدم الإفراج عن المساجين السياسيين والمدونين والإعلاميّين ورفع الحظر عن الأحزاب السياسية” كما صرح بذلك رئيس الجبهة أحمد نجيب الشابي. غير أن موقفا أكثر براغماتية بدأ يبرز داخل جبهة الخلاص وخصوصا لدى حركة النهضة وحزب العمل والإنجاز الذي تم تأسيسه في 28 جوان 2022 بزعامة بعض القيادات المنشقة عن حركة النهضة على غرار عبد اللطيف المكي وسمير ديلو، وذلك عبر الاستفادة من “الفرصة الانتخابية” كمنفذ محتمل لاستعادة العملية الديمقراطية والتأسيس للتغيير السياسي. وقد عبّر القيادي بجبهة الخلاص “رياض الشعيبي” بكل وضوح عن هذا الموقف في تصريح له يوم 17 جويلية الماضي حيث أكد أن “رسالة السلطة من خلال الاعتقالات التي تقوم بها قد وصلت، فهي تفضل، بل وتطلب من النخب السياسية مقاطعة الإنتخابات الرئاسية. إذ يبدو أن المقاطعة فيها أريحية لهذه السلطة بما يجعلها تمر بسهولة ودون منافسة”. هذا الموقف الذي يتقدم بخطوة في اتجاه الاهتمام بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية، أتى بعد أيام قليلة من إيقاف أمين عام حركة النهضة العجمي الوريمي واثنين من القياديين الشبان في حركة النهضة، وهما عضو مجلس الشورى محمد الغنودي ومصعب الغربي. وقد كانت هذه الإيقافات حسب بعض الملاحظين مرتبطة بالموقف من الانتخابات الرئاسية وإمكانية انخراط حركة النهضة في جمع تزكيات لبعض المرشّحين المفترضين. وقبيل الإيقافات، أوضحت حركة النهضة في بيان لها يوم العاشر من جويلية، أن القرار النهائي بخصوص المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها لم يحسم بعد بالنسبة إليها، و”سوف تتخذه في أوانه بالتشاور والتنسيق التام مع قيادة جبهة الخلاص الوطني وكل مكوناتها”. 

هذا التأني أو “التردد” في اتخاذ موقف حاسم من العملية الانتخابية من قبل حركة النهضة، قابله موقفٌ أكثر وضوحا وحسمًا من قبل مكوّن آخر في جبهة الخلاص وهو حزب العمل والإنجاز، حيث سارع إلى ترشيح أمينه العامّ عبد اللطيف المكي، الذي تردّد اسمه كثيرا في نتائج سبر الآراء للشخصيات التي ينوي الناخبون التصويت لها في الانتخابات الرئاسية خلال السنوات القليلة الماضية. وبمجرد بروزه كمرشح محتمل في السباق الانتخابي، أصدر عميد قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس قرارا بمنع ظهور عبد اللطيف المكي في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وقرارا بتحجير السفر عليه، إضافة إلى منعه من مغادرة الحدود الترابية لمعتمدية الوردية التي يقطن فيها مع بقائه في حالة سراح على خلفية النظر في قضية وفاة الجيلاني الدبوسي النائب في برلمان بن علي ورئيس بلدية طبرقة الأسبق. وتنبغي الإشارة إلى أنّه قد تم إصدار بطاقات إيداع في السجن في نفس هذه القضية ضد قيادات سابقة في حركة النهضة على غرار الرئيس السابق للحركة المنذر الونيسي، الذي شغل منصب مستشار لوزير الصحة آنذاك عبد اللطيف المكي وكذلك نور الدين البحيري وزير العدل في نفس الفترة. ثم قضت الدائرة الجناحية الصيفية بالسجن مدة ثمانية أشهر ضد المكي ومرشحين آخرين، وهما نزار الشعري ومحمد عادل الدو، مع الحرمان من الترشح مدى الحياة على ذمة القضية المتعلقة “بافتعال التزكيات الخاصة بالانتخابات الرئاسية وتقديم عطايا قصد التأثير على الناخب”.

ورغم كافة المعوقات، قدم أحمد النفاتي، وكيل المترشح للانتخابات الرئاسية عبد اللطيف المكي، ملف الترشح الذي ضم 14500 تزكية من 74 دائرة في البلاد وتغطية 11 دائرة بأكثر من 500 تزكية. كما أكّد بأن المكّي تقدّم بأربعة مطالب للحصول على البطاقة عدد 3 التي لم يتحصل عليها. غير أن ترشيح المكّي يظل في الحد الأقصى ضمن نطاق إحراج السلطة بعد تتالي المعوقات القضائية الهادفة إلى إبعاده من السباق الانتخابي.

أية سبل للخلاص؟

لا زال خطاب جبهة الخلاص مؤسّسا بدرجة كبيرة على الخطاب الحقوقي، وهو أمر مفهوم تماما نظرا للأحكام القضائية التي تطال عددا هاما من قيادييها ومناضليها. غير أن القرار الحاسم سياسيا يظل مطلوبا وبشدة في ظل تسارع التطوّرات السياسية. وفي بيان أصدرته يوم الثلاثاء 6 أوت على خلفية الأحكام بالسجن ضد بعض المرشحين في الانتخابات الرئاسية،  اعتبرت الجبهة أن هذا الحكم الذي وصفته ب”الظالم” هو “دليل إضافي على هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء وتوظيفه لإقصاء منافسيها استكمالا للمضايقات الأمنية والتعطيلات الإدارية وصولا لانتخابات شكلية لا منافسة فيها ولا أفق للتداول على السلطة” ضمنها. وقد وجّه هذا البيان رسائل متعددة، بعضها للقضاء، الذي اعتبر الأحكام الأخيرة بمثابة تدحرج خطير في مسار تدجينه، الذي يصل إلى حد إلغاء حقّ الدفاع وإنكار العدالة، وإلى السلطة التنفيذية التي اتّهمها بتحويل الانتخابات إلى محطّة لإقصاء المترشّحين والتنكيل بهم عوضا عن أن يكون الاستحقاق الانتخابي لتجديد الشرعية والتنافس بين البرامج. كما وجهت الجبهة في بيانها رسالة إلى الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات التي اعتبرتها في السياق الحالي “أداة في يد السلطة التنفيذية التي عينت رئيسها وأعضاءها” و”التي تغضّ الطرف على استعمال مقدرات الدولة في الحملة، في الوقت الذي يستثيرها مجرد تصريح ناقد فتسارع بملاحقة المعارضين السياسيين ومن أعربوا عن نية الترشح فضلا عن التنبيهات اليومية على وسائل الإعلام الناقدة لممارساتها”.

رغم كل هذه الرسائل، لم يحدد نصّ البيان خطوات واضحة أو برنامج عمل للجبهة خلال الفترة القادمة، عدا الإشارة بشكل مبهم في نهاية النص إلى دعوة جميع المرشحين المؤمنين بالديمقراطية والرافضين للحكم الفردي إلى “توحيد مواقفهم وتحيينها على ضوء التطورات الخطيرة التي يشهدها مسار الترشحات”. ومثل هذه الدعوة ينبغي أن توجه للجبهة ابتداء، بضرورة اتخاذ جميع مكوناتها لموقف موحد في إطار العمل التنسيقي الذي تأسست من أجله وبما يضمن قدرا من الانضباط السياسي والتوجه المنسجم، خصوصا وأنها تطرح نفسها كبديل سياسي إزاء مرحلة “العبث” كما يعتبر ذلك العديد من قيادييها. إذ أنّ الجبهة اليوم، أمام تحديات وعقبات عديدة تضعها غالبا في موقع ردّ الفعل تجاه السلطة، في حين تراهن السلطة القائمة ضمن خطابها السياسي على اعتبار المرحلة الحالية ومن بينها السباق الانتخابي بمثابة “حرب تحرير وطني” تستحلّ من خلالها كل الأدوات القانونية والسياسية لفرض رؤيتها ومحاصرة مناوئيها في ظل غياب برنامج سياسي واضح ذي نقاط ملموسة لنفس هذه السلطة، يمكن لها أن تعول عليه انتخابيا ودعائيا. وفي خضمّ كل ذلك، يتضاءل مربّع الفعل السياسي أمام جبهة الخلاص الوطني التي بدأت قدرتها في حشد المظاهرات تتجه مؤخرا نحو الانكفاء، وسط مناخ عام نافر من الاهتمام بالسياسة رغم حدّة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية.

ورغم تنامي الأزمة ذات الأبعاد الهيكلية، التي يمرّ بها النظام السياسي التونسي، وتراجع مفهوم الدولة الراعية وظيفيا، فإن ذلك لم يسمح بمنح فرصة كافية لجميع القوى البديلة اجتماعيا وسياسيا من الترويج لأطروحاتها لدى كافة الأوساط المعنية. ولا يمكن أن ننسب هذا القصور في الترويج للبدائل إلى تبعات التضييقات القمعية فحسب، رغم أهمية هذا العامل وجوهريته، بل يتوجب على جميع القوى المعارضة – ومن بينها هنا جبهة الخلاص كمثال- النظر في تجديد عرضها السياسي ووسائله بما يساعد على استقطاب قطاعات شعبية واسعة، لا في انحصارها ضمن نطاق نخبوي محدود ومنعزل يكتفي بانتقاد الطرح الشعبوي دون العمل على محاججته وتفكيكه. علاوة على ضعف العرض الاقتصادي والاجتماعي لدى الجبهة وعدم جاذبيته جماهيريا وقصورها عن تقديم قراءة نقدية أو تقييم صريح ودقيق لتجربة العشرية الماضية بمختلف هناتها وإيجابياتها، فضلا عن تجنب الجبهة الإقرار بمواقف واضحة ودقيقة حول بعض القضايا المركزية على غرار مسألة الهجرة مثلا. كما أن “تهرم” القيادة والقاعدة الناشطة للجبهة يطرح أكثر من سؤال حول مدى إمكانية استمراريتها في النشاط السياسي على المدى الطويل وقدرتها على التوجه نحو الفئات الشبابية، حيث أن جزءا هاما من هذه الشريحة العمرية يرى في الجبهة والقسم الأعظم من قيادييها بمثابة المسؤولين المباشرين عن المراحل السابقة وما حف بها.

ختاما، يبدو أن جبهة الخلاص تبحث بشكل ملح عن شرط “التماسك”، سواء ضمن المعارك التي تخوضها في السياق الحالي حقوقيا وسياسيا ومن بينها الضغط للإفراج عن المعتقلين السياسيين، أو كذلك في إطار بناها الداخلية التي تتطلب مزيدا من التدعيم وتوحيد المواقف. علاوة على كل ذلك يبقى مأزق الموقف من الانتخابات محددا أساسيا في استراتيجية العمل لدى الجبهة خلال الفترة القادمة، مع عدم نجاحها إلى اليوم في تقديم موقف واضح وصريح من العملية برمتها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني