ليسَت الهجرة بظاهرة جديدة في التاريخ، فهناك من يقول إنها أوّل النشاطات التي قامَ بها الإنسان. وتَختلف في التاريخ لأسباب عديدة، مثل البحث عن المرعى، الهروب من الحروب، التجارة، التعبّد وممارسة الشعائر الدينية، البحث واكتشاف مناطق جديدة، الحملات العسكرية الاستعمارية والدينية، إلخ. وفي هذا السياق ظهرت الطرق والشبكات الهجرية ومناطق الانطلاق والوصول. وهي ظاهرة ما انفكّت تتطور. وليست تونس بمعزل عن هذه الظاهرة، فلها تاريخ طويل فيها، خصوصا بحكم موقعها الجغرافي الذي يتوّسط البحر الأبيض المتوسط. ولمديِنة جبنيانة، التابعة لولاية صفاقس وتَبعد عن مركزها حوالي 35 كلم، نصيب كبير منها. فقد أتاها الرومان قديما وأسّسوا فيها مدينة صغيرة تُدعى بُطُريَة، التي كانت تُسمّى في العهد الروماني بـ”أكولا”. وتقول الأساطير أنها أُسّسَت لقربها من إيطاليا مهد الحضارة الرومانية، ومُهمّتها الأساسية أنها مكان يهرب منه ممثل الدولة الرومانية في ذلك الوقت، الذي يسكن مدينة الجم (تابعة لولاية المهدية)، إلى روما في حالة الحروب والغزوات. هكذا، فإنّ ظاهرة الهجرة في مدينة جبنيانة ضاربة في التاريخ. وامتدّت كي تُصبح اليوم نقطة الانطلاق الرئيسية لأفارقة جنوب الصحراء نحو الضفة الشمالية للمتوسط. علاوة على آلاف التونسيين الذين أخذوها كنقطة انطلاق بطريقة غير نظامية نحو القارة العجوز. لكن لماذا جبنيانة هي من أبرز نقاط الانطلاق الرئيسية نحو الشمال؟
التاريخ والجغرافيا في خدمة “الحَرقة”
لم أكن أعرف أني أسكن إحدى أهم مناطق العُبور الهجرية في تونس والمتوسط التي تفضي إلى الشمال. عَرفت ذلك عندما ذهَبت إلى العاصمة قصد الدراسة والعمل. نبّهني إلى ذلك سوّاق التاكسي، وبعض من رفاق السكن في المبيت الجامعي. كلّما كنت أقدِّم نفسي وجِهَتي أسمع نفس الإجابات تقريبا، “بْلاَد الحَرقة”، “قَريبي حْرَق من جبنيانة”، “لقد حاولت أن أحرق من هناك”، وغيرهَا من التفاعلات. هذا ما دفعني لأن أطرح على نفسي أسئلة حول علاقة مدينتي الصغيرة بالهجرة عمومًا والهجرة غير النظامية خصوصًا.
عدت أوّلاً بالذاكرة، وجدت أن زوج عمتي، وإبن عم والدتي، وجارنا وشقيقه، كلّهم لا أراهم إلا صيفًا. وكلهم يعيشون في أوروبا. ومنهم من لم أرَه منذ سنوات، وآخرون لا أعرف عنهم إلا بعض الحكايات التي تُروى في المدينة. ليست ظاهرة الهجرة نحو أوروبا بالجديدة هنا، لا يُعرَف التاريخ الفعلي لبدايتها لكنها بلا شك قديمة، وقد انطلقت قبل فرض الفيزا؛ تأشيرة الدخول لبعض الدول الأوروبية. هناك مناطق صغيرة في المدينة لها تاريخ هجري، فمثلاً منطقة “أولاد حسن” و”العْجَانقة” يعيش جزء من أهلها منذ القديم في أوروبا، ويُعرَف عن مهاجري الأولى أنهم موجودون في فرنسا وعن مهاجري الثانية أنهم موجودون في إيطاليا.[1] حينها كانوا يسافرون بشكل عادي من دون الحاجة إلى فيزا إلى القارة الأوروبية. ومن هنا خُلِقت أوّل شبكات الهجرة. حيث أنّ من يذهب إلى أوروبا يَنصح قريبه بالالتحاق ويدلّه على طريق الخروج، ومن هناك يقدّم لهم العون حتى يجد طريقة في أوروبا، وبدوره يدلّ أفرادا آخرين على الطريق، وهكذا دواليك.
منذ ثمانينيات القرن المنصرم، وتحديدا في النصف الثاني منها، فرَضت فرنسا التأشيرة على التونسيين والتحقت بفضاء شنغن. ومنذ ذلك التاريخ، ظهرت أوّل طرق الهجرة غير النظامية، وخصوصا سكان منطقة “أولاد حسن” الذين كانت وِجهتهم التاريخية فرنسا. تقوم هذه الطريق على الهجرة بصفة قانونية إلى إيطاليا، والتي تكون أساسا عبر الباخرة، ومن ثمّ يَجتازون الحدود الفرنسية -الإيطالية بطريقة غير نظامية. إلى حدود ذلك الوقت كانت الهجرة إلى إيطاليا سهلة ومُستسَاغة، إلى أن فرضت إيطاليا، هي الأخرى، الفيزا على التونسيين ودخلت إلى فضاء شنغن بداية من سنة 1990. وهنا فُتِحت طريق هجرية جديدة عبر البحر، وهي ما يعبّر عنه بـ”الحرقة”.
تقول إحدى الروايات الشائعة في الجهة أن الهادي، وهو شخص أصيل مدينة جبنيانة، كان في الثمانينات يعيش في ليبيا. ومع الأزمة التونسية الليبية في ذلك الوقت، وطرد التونسيين من ليبيا، عَادَ إلى تونس وتَوجّهَ نحو إيطاليا بصفة قانونية. ويُشاع أنه كان يشتغل هناك مع “المافيا”. ثم عاد إلى جبنيانة بداية سنوات التسعين. مع فرض إيطاليا الفيزا على التونسيين، اقترح الهادي البديل، وهو الحرقة عن طريق البحر والهجرة بطريقة غير نظامية. وقد قدّم الهادي الطريق أو المسَار البحري بدقة متناهية. ويُشاع أيضا أن الهادي عَرف هذا المسار من المافيا الإيطالية، وقد كان من أوائل الذين ذهبوا إلى إيطاليا بهذه الطريقة، في رحلة عودة إلى هذا البلد مرة أخرى. عاد الهادي إلى إيطاليا لكنه تركَ وراءه بداية ظاهرة جديدة في المدينة، وهي “الحرقة”.
تُعتبر مدينة جبنيانة من أول المناطق في تونس، إن لم تكن الأولى، التي انطلقت منها رحلات الهجرة نحو الشمال بطريقة غير نظامية. وتشير الرواية المتداولة في المدينة إلى أن الهادي كان سببا في ذلك.
يقول محدّثي جلال، وهو ستيني أصيل الجهة وخبير بتاريخها: “عادَ الهادي إلى جبنيانة بداية التسعينيات ومعه ابنه من زوجته الإيطالية. بعد فترة صغيرة، اقترح هذه الطريق الهجرية ووجَد من يساعده في سلكِها. هذه الطريق لا يمكن أن تعبّر إلا على عقلية مافيوزية، والهادي عرفها في إيطاليا ثم سلكها للعودة إلى هناك بعد أن ترك ابنه عند زوجته التونسية”. ويضيف: “بعدها بسنوات سلَكَ إخوته نفس الطريق، أي الحرقة، ثم أبناء أشقّائه وحتى نساؤهم وبناتهم”.
عملية الحرقة هي عملية مركّبة، تتداخَل فيها عديد الأطراف. فلا تكفي الفكرة والطريق لتطبيقها. يتطلب الأمر وجود أفراد لهم خبرة ودراية بالبحر وأسراره، وآخرون يُوفّرون المعدّات مثل المركب والمحرك والبوصلة. ومن هنا بدأت تظهر شبكات هجرية جديدة تتوزّع فيها المهام لإنجاح الرحلة. فمن اشتغل في البحر سيكون “رَايس” (قبطان) الرحلة وقائدها، وآخر يتولّى أمر المركب والمُستلزمات، وهناك من يُنسّق ويتولّى جمع الحرّاقة وإيوائهم في مكان ما قبل الرحلة.
في البداية كانت الحرقة لأبناء الجهة حصرا. وتنقسم إلى نوعين إلى حدّ يومنا هذا؛ الأولى تكون بين مجموعة من الأصدقاء يتقَاسمون مصاريف الرحلة ويكون من بينهم “رَايِس” يقود الرحلة. أما الثانية فيكون فيها مُنظّم للرحلة يتكفّل بالمصاريف وكل مُشارك فيها يدفع ثمن رحلته. هنا يقوم المُنظّم، أو شخص آخر، بجمع عددًا من المهاجرين غير النظاميين. ويتولىّ شخص ثانٍ إيواءهم في مكان يُسمّى “قُونة” حتى موعد الرحلة. ويقوم المُنظم بتوفير المحرك والبنزين و”الرّايِس” والبوصلة. أما بالنسبة للمركب فهناك طريقتين للحصول عليه: الأولى وهي سرقته وهي طريقة نادرة نسبيا والثانية هي شراؤه من البحّار الذي يَبيع مركبه ثم يتوجه بعد ستّ ساعات، وهو الوقت الكافي لخروج رحلة الحرقة من المياه الإقليمية التونسية، ليُخبِر قوات الأمن أنّه وقع سرقة قاربه حتى يُعفي نفسه من المسؤولية القانونية.
ومعَ الوقت، تطوّرَت شبكات الهجرة ليتّسعَ مجالها الجغرافي. فقد أصبحت جبنيانة تُعرف عند الباحثين عن الحرقة من بقية الجهات بوصفها نقطة انطلاق رئيسية. فأصبح يتوافد على المدينة أفراد من مناطق مختلفة من أجل الحرقة. في البداية كانت حالات منفردة، أي مثلا في كل رحلة تجد شخصا من خارج الجهة، لكن مع الوقت أصبح في هذه الشبكات الهجرية أشخاص مهمّتهم جلب الناس للحرقة من مناطق أخرى. إضافة إلى أن الذين خرجوا سابقا من جبنيانة يتّصلون عند وصولهم بأصحابهم لِدَلّهم على الطريق. وتطوّرَ الأمر حتّى أصبحت هذه الشبكات تضمّ أشخاصا من مناطق خارج الجهة. ويُقدّم المنظمون إغراءات من قبيل: “مَن يجلب 5 أشخاص للحرقة يخرج معهم مجانا”. إلى أن أصبحنا نَشهد رحلات كل روّادها من مناطق أخرى، مثل القيروان والقصرين والأحياء الشعبية بالعاصمة. وليست الشبكات الهجرية وحدها التي توسَّعت، بل أيضا فكرة الحرقة والطريقة في حدّ ذاتها، والتي انتشرت وصارت تمتدّ من سواحل ولاية المهدية إلى سواحل ولاية صفاقس.
في ذلك الوقت، لم يكن هناك التطور التكنولوجي الحاصل الآن. فكان كل شيء يحصل بالاتفاقات المُسبقة بين جميع الأطراف المتداخلة والمواعيد الدقيقة. فتُحدّد مثلا الرحلة في يوم وساعة ونقطة انطلاق معينة. ويُعلَمُ بها من سيَنقل المهاجرين ومن يَأويهم ومن سيُجهّز المعدات. وقبلها بأيام يتمّ إخبار المهاجرين غير النظاميين للالتحاق بمقرّ إيوائهم، ويلتقي الجميع في النقطة والزمان المحددين. لكن مع الوقت، استغلّ المنظّمون التطور التكنولوجي من ظهور الهواتف النقالة وبعدها الإنترنت، لتحسين خدماتهم وتوسيع شبكاتهم والمجال الجغرافي الذي يُمثّل لهم خزانًا هجريا.
الهجرة كفكرة وبنية اجتماعية، تُمثّل حلًّا للأزمات في الذهنية الجماعية المحلية الآخذة في التطور. لذلك ظهرت منتصف التسعينيّات طرق هجرية جديدة: صحيح أنها لم تكن واسعة الانتشار ولكن هناك من سلَكَها. وتتسم هذه الطرق كذلك بالمحافظة على صفة غير النظامية. وفي كل الحالات، يجب أن يكون هناك شبكة هجرية تُساعد على القيام بفتح هذه الطريق. في بداية التسعينيات سافر أحد سكّان الجهة للعمل في دولة النمسا، ونصح أصحَابه المقرّبين بالقدوم إلى هناك عن طريق دولة تشيكيا، التي كان الدخول إليها دون تأشيرة، ومن ثمة الدخول إلى إيطاليا بطريقة غير نظامية، من يسعفه الحظ يمرّ بالقطار ومن لم يُسعفه الحظ يشقّ الجبل. وظهرت طرق أخرى للعبور من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية، لكنها بقيَت محدودة جدّا.
تدعّمت الهجرة كبنية اجتماعية في الجهة خصوصا وفي تونس عموما. وأصبحت ملاذًا لعديد الشباب، في وقت تشهَد فيه البلاد أزمات اقتصادية متكررة. إذ أنّ المجتمع المحلي في جبنيانة هو مجتمع شابّ وفتيّ؛ متوسّط العمر بالجهة هو 31 سنة حسب آخر تعداد عام للسكان والسكنى سنة 2014، 42% منهم بين 15 و39 سنة. لكنها تعيش مشاكل اقتصادية واجتماعية جمة: فحسب نفس المصدر، تبلغ نسبة البطالة حوالي 16%، أي أعلى بنقطتين عن المعدل الوطني في ذلك الوقت الذي كان 14% تقريبا في منطقة عدد سكّانها في دائرة 50 ألف ساكن (النسبة الوطنية للبطالة سنة 2024 وصلت 16.2 بالمائة). وتبلغ نسبة الفقر في جبنيانة قرابة 9% حسب خريطة الفقر بالبلاد التونسية لشهر سبتمبر 2020. كثرة عدد الشباب بالمدينة، مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، جعلا منها خزّانا هجريا كبيرا تَحكمه البنية الهجرية التي سَطّرَتها العوامل التاريخية والاجتماعية، وساعدت في ترسيخها الجغرافيا.
وتَواصل المشهد الهجري على هذه الحالة إلى أن انفجر في ثورة 2011، حيث خرج من الجهة آلاف الأشخاص قادمين من كامل ربوع البلاد، وتَواصلت الظاهرة على هذا النحو إلى الآن، وتدعّمت خاصةً مع قدوم الأفارقة من جنوب الصحراء.
تمتدّ السواحل التونسية على طول 1300 كيلومتر، من الحدود الجزائرية شمالا إلى الحدود الليبية جنوبا. مع ذلك كان انطلاق الهجرة غير النظامية وأوجّها من مدينة جبنيانة و السواحل المحاذية لها. فما سبب ذلك؟
إن أهمّ العوامل على الإطلاق في خلق واستمرار نمو ظاهرة الحرقة من الجهة هو العامل الجغرافي. فهذه السواحل هي من الأقرب إلى السّواحل الإيطالية وخاصة إلى جزيرة لمبدوزا. وتبلغ المسافة بينهما حوالي 150 كيلومتر. وصحيح أن المسافة بين شواطئ الوطن القبلي وجزيرة بُنتَلاَريا الإيطالية أقل بكثير، لكن هناك عديد العوامل التي تُرجّح شواطئ الجهة. أوّلاً طبيعة مياه البحر، ففي الطريق بين الوطن القبلي وإيطاليا تكون مياه البحر عميقة، وهناك العديد من المناطق الصخرية في البحر والتي لم يكن من الممكن في ذلك الوقت المجازفة والتعامل معها في ظل المعدات (القوارب والمحركات) المستعملة. في حين أن في جهة جبنيانة مياه البحر فيها غير عميقة، ومناسبة للإبحار. ثانيا وهو أن شواطئ الجهة يَنقص فيها الحضور الأمني ومراقبة الحدود البحرية بشكل كبير في ذلك الوقت، نظرا إلى أنها شواطئ لا تُوجد فيها نشاطات غير الصيد البحري، على اعتبار أنها مياه غير عميقة وفي حالة جزر متواترة وغير صالحة للسّباحة، فتَقلّ بها الحركة، وكذلك الوجود الأمني. ناهيك عن أنّ هذه الشواطئ على امتدادها هي محاذية للغابات وبعيدة نسبيا عن مناطق العمران. لذلك تُمثّل نقطة انطلاق مثالية جغرافيا وأمنيا، وحافظت على هذه الخاصية إلى أن انفتَحَت نقاط انطلاق جديدة مثل جرجيس وقرقنة وسواحل المهدية والمنستير والوطن القبلي وبنزرت. وكان هذا نتيجة عوامل جديدة، مثل تطوّر المعدّات ومهارات الإبحار، والانفلات الأمني في الثورة وفتح الحدود البحرية أمام الحرقة، إضافة إلى سياسة بعض الحكومات بعد الثورة التي غضّت البصر عن الحرقة في بعض الأحيان.
المهاجرون القُدَامى: وقود ظاهرة الحرقة المتجددة
في فصل الصيف، تتغير التركيبة الاجتماعية للمدينة، فيَدخل عليها جسم اجتماعي جديد، يُسمّى في اللغة الرسمية للدولة “مواطنينا بالخارج”. لكن شعبيا يُطلًق عليه “الزمقري”[2] أو “جماعة فرنسا” أو “جماعة إيطاليا”. يعود هؤلاء بسياراتهم المُحمَّلة بشتى أنواع الأدباش والسلع. فتتغير قليلا ملامح المدينة، حيث ترى السيارات الفاخرة ذات اللوحات المنجمية الفرنسية والإيطالية، على اعتبار أن معظمهُم يعيشون في هذين البلدين، ولم تعد ترى فقط السيارات القديمة والصغيرة، حيث ترى آخر ماركات السيارات الأوروبية مثل Golf Polo و Citroen و Volvo و BMW، التي تحتوي على مبرّدات وهواتف وكثيرا من الراحة والرفاه. إضافة إلى الدراجات النارية والهوائية التي تعوّض الدراجات المحلية المستعملة والمتواضعة. ويُدخن الناس السجائر الغربية من نوع Marlboro، ويشربون الفودكا والويسكي، وغيرها. ويأتون لأقربائهم بأدباش وأحذية من ماركات عالمية تعوّض أحذية الماركات محلية الصنع. هذا إضافة إلى الأنواع المختلفة من الشوكولاتة والحلوى. وتُعتبر جبنيانة من أول المدن التي عرفت الهواتف الجوالة، وعرفت تطوّرها من الهواتف العادية إلى تلك التي تحتوي على كاميرا، إلى هواتف 3G و4G.
وعادةً ما يَنشط سوق العقارات أثناء الصيف؛ شراء الأراضي والمساكن الذي تتّجه إليه معظم مُدخرات المهاجرين العائدين من أوروبا، الذين يُفضّلون دائما بناء منازل فخمة ذات طوابق عديدة وحدائق ممتدة. والعودة الصيفية لأصيلي المدينة من الخارج تَخلق حركة اقتصادية كبيرة ومهمة، إذ يرتفع الاستهلاك وشراء الأراضي وبناء المنازل، ممّا يدخل انتعاشة نسبية في الاقتصاد المحلي. ومن الملاحظ في هذا السياق أن شرائح اجتماعية لا بأس بها في مدينة جبنيانة تبقى بانتظار موسمين مهمين، موسم جني الزيتون وموسم عودة “جماعة فرنسا” و”جماعة إيطاليا” الذين كانوا يوما ما مهاجرين غير نظاميين من سواحلها. وقد انتشرت في المدينة محلات بيع المواد المستعملة القادمة من أوروبا، مثل الدراجات الهوائية ومسجلات Stereo التي تستعمل CD عوض K7، ومن ثمة تطورت ظاهرة جلب معدات تكنولوجية متطورة، إضافة إلى مستلزمات المنازل والمطابخ وحتى الملابس. وأصبح في المدينة سوق سوداء للعملة.
لكن الأمر لم يَقف عند حدود الحركة الاقتصادية، إذ كان له تأثير كبير على تصاعد الحَرقة وتعاظم دور الهجرة غير النظامية كبنية اجتماعية، من خلال تأثير عودة المهاجرين من الخارج بسياراتهم وملابسهم الجديدة الأنيقة وأموالهم، الذي ساهم في تشكيل التمثلات المحلية لظاهرة الهجرة. لكن الأهم من ذلك كله أن حديثهم عن أوروبا “الجنة الموعودة” دفَعَ الكثير من شباب الجهة الذي أفرزته سياسات العجز الاقتصادي وفشل سياسات التنمية للحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال ورمت به في حضن البطالة واليأس، إلى التفكير في الحرقة كمشروع أمل. أصبح هؤلاء يسمعون عن “روما” و”باريس” و”كَانْ” و”نيس” و”ميلانو” و”مرسيليا” وغيرها من المدن الأوروبية وعن النساء البيضاوات ذوات الشعر الأصفر والعيون الملونة، وعن “الزطلة” (القنب الهندي) والكوكايين والخمور بأنواعها وعن احترام هذه البلدان لمواطنيها. وانتشرت ثقافة الحديث عن أوروبا عموما وإيطاليا خصوصا لدى الشباب في الجهة، الذي أصبح غايته الوحيدة هي الحرقة. وأصبحت هناك عديد من أغاني المِزوِد التي انتشرت لدى هذا الجيل مثل “يا روما” و”جواباتي كثرة يا مّيمة”، وعديد الأغاني المحلية التي تتحدث عن الحرقة والغربة، على غرار أغنية فرقة شمس جبنيانة، التي يقول مطلعها “فْلُوكَة وِجْرَات مَليَانَة بْشَبَاب بْلادي” (سَار القارب مليئا بشباب بلادي).
عودة المواطنين من الخارج، إضافة إلى دورها الاقتصادي، هي عملية دفع نحو هجرة آخرين أو إعادة إنتاج الهجرة، وبخاصة أن من سيُهاجر سيجِد من ينتظره من أبناء جهته هناك ويُسهّل عليه الاندماج. فحتى المهاجرون السابقون أصبحوا جزءًا من الشبكات الهجرية التي ما فتئتْ تتوسّع. وهنا صار لزاما على الحرّاقة، من يقومون بنقل الناس بصفة غير نظامية نحو المتوسط -خاصة أمام التدفق والطلب المتزايد من المهاجرين- تَطوير خدماتهم. ولا ننسى أنه أصبح هناك منافسة في داخل الجهة وحتى خارجها من سواحل المهدية وجزيرة قرقنة.
بعد ثورة 2011، حدَثَ الانفجار الهجري وتنوّعت أنماط المهاجرين. حيث أصبح هناك أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل، ولم تعد تقتصر على الشباب، بل أصبحت تشمل حتى الكهول. لكن الأهم هو دخول العنصر النسائي وحتى العائلات. إذ أنّ أحد أبناء الجهة الذي يعيش في فرنسا، استقدَم عائلته في عملية حرقة بعد أن فشلوا في الحصول على فيزا.
عديد من الشباب الذين تم ترحيلهم أعادوا الكرّة أكثر من مرة حتى نجحوا في الوصول. مُراد، شاب من الجهة ثلاثيني، يعيش الآن في إيطاليا. كان لنا معه حديث حول تجربته الهجرية، حيث يقول: “هاجرت المرة الأولى إلى إيطاليا بطريقة غير نظامية عبر البحر في الثورة مع الآلاف من التونسيين. كنت في جلسة خمريّة على شاطئ البحر، حين رأيت أناسا تلتحق بأحد مراكب الحرقة فذهبت معهم مجانا.” اشتَغَل مراد في تجارة المخدرات في إيطاليا إلى أن تمت الإطاحة به وترحيله إلى تونس، قبل أن يُعيد الكرة مرة أخرى ثم عاد طواعية إلى بلاده، لكن في الأخير ذهب في المرة الثالثة واستقرّ هناك إلى الآن. كان مراد يشتغل في تونس في الفلاحة وتجارة الغلال والخضر، لكن وإن كان جسده في تونس، فإنه كان مسكونا بفكرة الهجرة إلى إيطاليا. حدّثني مراد قبل أن يهاجر في المرة الثالثة عن إيطاليا وصداقاته وتجاربه، وعن كازينوهاتها ولياليها. وفَسّرَ إصراره على إعادة الحرقة قائلا: “هنا أشتغل بـ30 دينار في اليوم، إن اشتغلت يوميّا طوال الشهر دون راحة سيكون راتبي 900 دينار شهريا، أي 10800 دينار سنويا، ما يعني 108 ألف دينار في 10 سنوات. هذا من دون أن أصرف مليما واحدا. هذا المبلغ لا يُمكنني في الظروف الراهنة من أن أتزوج أو أبني مسكنا أو أقوم بمشروع خاص. وأنا الآن ثلاثيني، متى سأتزوج؟ ومتى سأستقر في حياتي؟”. تُسيطر هذه الفكرة كثيرا على تفكير الشباب، إذ أن الحرقة تُمثل اختصارا للوقت لجمع أكثر ما يمكن من المال. فما ستَجمَعه في تونس في 10 سنوات يُمكن أن تجمعه هناك في سنتين أو ثلاث سنوات حسب رأيهم.
سامي كذلك شاب ثلاثيني، صديق لي منذ الطفولة، حاول الحرقة 3 مرات في الأشهر الأولى بعد الثورة قبل أن ينجح في الرابعة، تاركا وراءه زوجة وطفلين، وهو كذلك كان يشتغل عاملا يوميا كل فترة في مجال (بناء، فلاحة، تجارة…). يقول عن تجربته: “من 3 محاولات، نجحت مرة واحدة في الوصول إلى إيطاليا” أخذ نفسا طويلا من سيجارته وواصل حديثه معي: “حينها استطعت الهرب من مركز الاحتجاز. ركضت هربا لمدة 5 دقائق قبل أن يُعاد الإمساك بي من البوليس الإيطالي. ما شاهدته في الشارع في تلك الدقائق الخمس رَسَّخَ في ذهني فكرة العودة إلى إيطاليا ولن يمنعني عن ذلك إلا الموت.” هذا ما قاله لي ذات صيف منذ 10 سنوات تقريبا، وقد كان عند وعده لنفسه.
كلّما تقدمنا في عُمر ظاهرة الهجرة غير النظامية كلما زادت تعقيداتها. إلى أن وصل الأمر إلى توسّع شبكاتها لتكون عابرة للجهات وحتى الدول. إذ أصبحنا الآن نشهد هجرة مواطنين من دول مجاورة، مثل المغرب، و الأفارقة من جنوب الصحراء.
تاريخ الجهة الهجري جعلها تستقطب المهاجرين من جميع جهات الجمهورية. إلى أن اكتسبتْ سمعة جيدة في هذا المجال، وهذا ما جعلها إحدى أهم نقاط الهجرة نحو الشمال في تونس والمتوسط عموما. لذلك أصبحت تستقطب مهاجرين من خارج حدود الوطن. وأصبح اسمها معروفا من شمال القارة إلى جنوبها، وحتى عند القادة والساسة التونسيين والأوروبيين، وخصوصا المسؤولين الإيطاليين الذين تحدثوا الصيف الفارط عن تدفقات هجرية من سواحل صفاقس إلى لامبيدوزا الإيطالية، من ضمنها سواحل جبنيانة بالأخض. لذلك عُرفَت المدينة بقدرتها على إيصال الناس إلى ضفة المتوسط الشمالية.
الأفارقة من جنوب الصحراء: الحريف الجديد للشبكات الهجرية
حَدّثني موسى، وهو شاب عشرينيّ من إحدى دول إفريقيا جنوب الصحراء، أنّ وِجهَته منذ خروجه من بلاده وبداية طريقه الهجري كانت جبنيانة. يَسكن موسى مع زوجته الحامل في حقول الزيتون بأحواز المدينة. سبقه أخوه بالقدوم إلى تونس واستطاع الهجرة من سواحل جبنيانة، فأوصى أخاه بالذهاب إلى هناك. وحتى عند الذهاب إلى محطة سيارات الأجرة المنصف باي بالعاصمة، ستجد الكثير من الأفارقة من جنوب الصحراء يرغبون في الذهاب إلى جبنيانة. ورغم أنهم يعيشون في ظروف -أقل ما يقال عنها أنها قاسية- إلا أنهم ما زالوا يتوافدون على الجهة خاصةً من وسط ولاية صفاقس. فقد سبقهم أصحابهم الذين انطلقوا من سواحل الجهة ونجحوا في بلوغ ضفاف أوروبا، ونصَحوهم بالتوجه إلى هناك. وهم بدورهم جَلَبوا معهم أصدقاءهم وعائلاتهم. وحتى من كان منهم يسكن تونس العاصمة وصفاقس أو أيّ مكان آخر في الجمهورية، غايته في الأخير القدوم إلى الجهة والانطلاق منها. منذ منتصف العقد الماضي، توسّعت شبكات الهجرة غير النظاميّة لتشمل أطرافًا أخرى غير تونسية. واستغلَّ الحرّاقة هنا معارفهم التي راكموها لعقود، لاستيعاب هذا الجسم الجديد والتكفل بإرساله لدول الشمال. ووَجدَ أفارقة جنوب الصحراء في الجهة أحسن الأماكن لتنفيذ مشروعهم الهجري، فصارت مزارهم الأول. وبعد نجاح عدد كبير منهم في الحرقة، ازدادت سمعة الجهة كنقطة انطلاق وزاد الإقبال عليها. الغاية الوحيدة لهؤلاء هي الذهاب إلى إيطاليا. حَدّثنَا ناصر، مهاجر غير نظامي أصيل الكاميرون: “حياتنا كأفارقة من جنوب الصحراء صعبة للغاية هنا في تونس. فعلى غرار وضعنا المعيشي الصعب، نعيش وضعا نفسيا أصعب بكثير. كل يوم وكل دقيقة لا أفكر إلا متى سأترك هذا البلد؟ هل سأنجح في الذهاب إلى إيطاليا؟ كيف سأقوم بذلك ومتى؟ عديد الأسئلة تدور في ذهني وتُرهقني.” ناصر حاول الحرقة مرتين لكنه فشل بعد أن قام الحرس البحري بمنعهم وإرجاعهم لتونس. لكنه مع ذلك ما زال يُحاول ولا همّ له سوى أن ينجح. ورغم أن هناك أصواتا مجتمعية وسياسية تتهم هؤلاء بأنهم يحاولون “الاستيطان” في تونس و”تغيير التركيبة الديمغرافية”، إلا أنهم في كل مرة لا يكفّون عن محاولة إثبات أنهم لا يرون تونس إلا كممرّ بحري، وجبنيانة خصوصا كنقطة انطلاق نحو إيطاليا.
يَسكن هؤلاء في حقول الزيتون، ولا يُعرَف عددهم الرسمي ولكنهم يُقدَّرون ببعض الآلاف. تعرَّضوا الى حملات عنصرية واعتداءات عنصرية مجتمعية، تمثلت في مسيرات تُعارض وجودهم وتطالب بترحيلهم. وإلى حملة عنصرية سياسية بدأت منذ البيان الرئاسي الصادر في 21 فيفري 2023، وتحمل في خطابها أن وجودهم مؤامرة وأنهم هنا لتغيير التركيبة الديمغرافية.
في البداية شهدَ وجودهم حملة تضامن كبير من قبل الأهالي، لكن مع الوقت تغيَّر الأمر، خاصةً وأنهم في المدة الأخيرة جنحوا إلى القيام بعمليات سرقة منازل بعد أن انتهت مواردهم ولم يعد باستطاعتهم توفير أدنى متطلبات العيش. وهذا ما خلق احتقانا في الجهة. لكن مع ذلك ما زالت جبنيانة بالنسبة إليهم أحسن مكان يعيشون فيه، لأنه الأقرب إلى تنفيذ مشروعهم الهجري.
ترافَقَ حضور المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، أيضا، مع انتشار ورشات صناعة القوارب المعدِنية في المدينة، التي تكون تكلفتها أقلّ بكثير من القوارب الخشبية، وأقلّ أمانا بكثير أثناء الإبحار، وتدرّ على صانعيها أرباحًا طائلة. في هذا السياق دأبت وزارة الداخلية منذ سنة 2023 على نشر بيانات تُشير إلى الكشف عن ورشات خَفيّة لصناعة القوارب الحديدة واحتجاز عدد منها. وعادة ما يكون مصير هذه الرحلات هو الموت في عرض البحر. إذ أنّ بعض الرحلات التي انطلقت من سَواحل جبنيانة لم يُكتَب لأصحابها النجاة من مصير الموت، حيث أعلنت السلطات التونسية أول فيفري الفائت غرق مركب مهاجرين غير نظاميين انطلق من سواحل جبنيانة. راحَ ضحية هذه الحادثة المأساوية 13 مهاجرا من أصول سودانيّة تمّ انتشال جثثهم قبالة سواحل مدينة الشابة (التي تبعد 30 كلم عن مدينة جبنيانة) في حين ظلّ 27 مهاجرا آخرون في عِداد المفقودين[3]. وطيلة السنتيْن الفارطتين ما فتئت سواحل جبنيانة، وولاية صفاقس عموما، تشهد عمليات عثور على بقايا جثث بشرية لفَظَها البحر، معظمها لمهاجرين سود البشرة. وفي أفريل الفارط، قال المدير الجهوي للصحة بصفاقس حاتم الشريف، في تصريح صحفي، بأن قسم التشريح بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة تجاوزَ طاقة استيعابه، بسبب تكرار استقبال جثامين مهاجرين غير نظاميين، لفَظَتها سواحل ولاية. [4]
على سبيل الخاتمة: الهجرة ظاهرة تُشكل البُنى والتمثلات
“إن الملايين ممّن ينوون الهجرة يكونون قد هاجروا نفسيا لحظة تقديم الطلب وهَجرُوا الوطن على المستوى الشعورى. ويَظلّ حالهم على هذا، حتىّ لو ظلوا سنوات ينتظرون الإشارة بالرحيل. فتكون النتيجة الفعلية أننا نعيش فى بلد فيه الملايين من المهاجرين بالنية أو الذين رحلوا من هنا بأرواحهم، ولا تزال أبدانهم تتحرك وسط الجموع كأنها أبدان الموتى الذين فقدوا أرواحهم، ولَم يبق لديهم إلا الحلم الباهت بالرحيل النهائى”.[5] يمكن أن يكون ما قاله يوسف زيدان أنسب تعبير عمّا تعيشه المدينة. فرغم تعداد سكّانها الذين يناهزون 50 ألفا، إلا أن عدد الأرواح التي تعيش هناك قليل، عند الشباب على وجه الخصوص، فأغلبهم لا يَهيم منهم سوى الأجساد في الشوارع، أما الأرواح فهي في دول الشمال. للهجرة تاريخ قديم في جبنيانة، لكن توطّدَت علاقتها بها عندما صارت غير نظامية، وكأن الجهة لا تحبّ سوى الممنوعات. خلقَت الحرقة عملية إنتاج وإعادة إنتاج للهجرة في الجهة، وأصبحت صيرورة تتغير بتغير الظروف السياسية والاجتماعية والتقنية، وتتطور مع الزمن ومتطلباته. وشكّلَت مِخيالاً وثقافة هجرية توارثتها الأجيال تباعا. وأصبحت نظّارات يرى من خلالها شباب الجهة الحياة، وليس هم فقط بل حتى عائلاتهم ترى منها الحياة، فالهجرة مشروع عائلي. وفي مناطق المدينة التي لها ثقافة هجرية كبيرة يرى أهلها أن الهجرة كذلك هي إحدى سبل الارتقاء الاجتماعي. لذلك نجد عديد العائلات التي تُشجّع أبناءها على الحرقة وتُوفر لهم الدعم المادي لذلك. خاصةً استلهاما من القصص الهجرية الناجحة التي حدَثَت سابقا في الجهة أو الحي أو العائلة.
منذ بداية التسعينات قرّرت جبنيانة أن تُصارعَ فكرة الفيزا وغلق الحدود. واستطاعت التغلّب عليها من خلال قوارب الصيد الصغيرة التي تنقل الأجساد والأحلام نحو الشمال، وتُغذّي فيهم الأمل. نجحت الأجيال الأولى للحرقة في فرض نفسها في إيطاليا، واستطاعت تسوية وضعيتها والعودة بالأموال لاستثمارها في الجهة وشراء الأراضي والعقارات. وجلبوا السيارات والدراجات النارية والهواتف الذكية، وأصبح لجبنياية مشهد اجتماعي واقتصادي وثقافي مخالف لما كانت عليه قبل ظهور الهجرة غير النظامية. وهذا النجاح هو ما كان الدافع الأساسي أمام اختيار أجيال قادمة طريق الهجرة نحو الشمال في قوارب يُسميها البعض “قوارب الموت”، وإن كنت أحبذ “قوارب الأمل”. ورَغم بروز ظاهرة الترحيل القسري من إيطاليا بعيد الثورة مباشرة، وفشل التجربة الهجرية للعديد من أبناء الجهة، وكذلك الأزمات التي تعيشها بعض الدول الأوروبية، إلا أن هذه العوامل لم تُحبِط عزائم الشباب الطامح للهجرة غير النظامية. فالمسألة تجاوزت أن تكون مجرد هجرة لتحسين الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، بل الهجرة من أجل الهجرة. على اعتبار أن هذه الظاهرة لم تعد غاية لتحقيق غاية ما، بل هي غاية في حدّ ذاتها. وعلى اعتبار أنها مُحَدِّدة في صياغة التفكير الجماعي والفردي في جبنيانة.
هكذَا تُعتبر الهجرة في المدينة بنية اجتماعية محدّدة في السلوك الاجتماعي لدى الأفراد والمجموعات منذ القرن الماضي. وهو ما شكّلَ إرثا هجريا وشبكات هجرية ما فتئت تتوسع مع الوقت ومع متطلبات المرحلة. وفي سنوات الثمانينيات والتسعينيات انطلقت الهجرة غير النظامية في وجه الفيزا التي تفرضها دول الشمال. ومع الوقت صارت الجهة تستقطب مهاجرين من كل أنحاء القارة الإفريقية.
بالشكل النظامي، يهاجر الناس نحو الشمال عن طريق المطارات أو الموانئ، وذلك بعد الحصول على فيزا من سفارات الدول المعنية. لكن هنا الأمر مختلف، إذ أنّ منظّم الحرقة هو من يؤشّر لك ويعطيك فيزا الدخول والمغادرة. ويأخذ مركب الحرقة، الذي يُطلَق عليه في عامية المدينة الشْقَفْ، دور البواخر والطائرات. فإن كانت تونس تحتوي على عديد الموانئ والمطارات، فإنها كذلك تحتوي على جبنيانة كميناء هجرة غير نظامي.
للاطلاع على الدراسة بصيغة PDF
[1] بدأت ملامح الأزمة الليبية التونسية عام 1974، بعد تراجع الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة عن اتفاق وحدة سياسية وقَّعه مع الرئيس الليبي معمر القذافي في جزيرة جربة التونسية. (الوحدة جاءت بشكل مفاجئ، كما وُوجهت بمعارضة كبير داخل أوساط الحكم في تونس ممّا اضطر الرئيس بورقيبة للتراجع عنها). ثم احتدت الأزمة بين النظامين مجددا عام 1980، إثر ما يعرف بـ”عملية قفصة الانقلابية” التي قادتها مجموعة صغيرة مسلحة حاولت السيطرة على ثكنة عسكرية في مدينة قفصة، وقد اتهم النظام التونسي نظيره الليبي بالوقوف وراءها. (الهامش من وضع المحرّر).
[2] هي صفة شعبية تطلق على التونسيين المقيمين في أوروبا، اقتباسا من الكلمة الفرنسية le migrant (الهامش من وضع المحرّر).
[3] تونس، انتشال جثث 13 سودانيا وفقدان 27 بعد غرق مركب مهاجرين. موقع “دي دبليو” ،08 فيفري 2024.
[4] انتشال جثث مهاجرين في صفاقس. المدير الجهوي للصحة يؤكّد تجاوز طاقة استيعاب قسم التشريح بمستشفى الحبيب بورقيبة. موقع الإذاعة التونسية، 07 أفريل 2024.
[5] يوسف زيدان، كلمات: التقاط الألماس من كلام الناس، ط4، مصر: دار نهضة مصر للنشر، 2011.