جائحة الصرف من العمل وتخفيض الأجور تضرب آلاف اللبنانيين بحجّة كورونا: حان الوقت لإعادة النظر في المنظومة الحمائية القانونية الإجتماعية


2020-05-21    |   

جائحة الصرف من العمل وتخفيض الأجور تضرب آلاف اللبنانيين بحجّة كورونا: حان الوقت لإعادة النظر في المنظومة الحمائية القانونية الإجتماعية

قبل عشر سنوات من اليوم، استقرّ نبيل كمسؤول عن التسويق في فرع لإحدى الشركات العربية العاملة في بيروت. قبل يوم واحد من عيد العمال هذا العام، أي الأول من أيار 2020، ذهب لقبض راتبه ليجد مديره بانتظاره “بكرا ما تجي ع الشغل نبيل”، قال له بعد مقدمة عن تأثير أزمة فيروس كوفيد 19 على سير العمل: “نحن منرجع نتصل فيك لنحكيك عن حقوقك وشو مندفع لك”، أضاف وهو يطلب منه التوقيع على استقالته.

قرار الشركة طال عشرة موظفين آخرين، ولا احد يرغب بالحديث عن الموضوع علانية من بينهم “وعدونا إذا مشي الحال وتحسنت الأوضاع يردونا ع شغلنا”. وع الوعد يا كمون. وقد لامس عدد المصروفين من أعمالهم عتبة 250 الف عامل وموظف، وفق تقديرات المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، من بينهم 25 ألفاً في المطاعم والملاهي، حسب نقيب القطاع طوني الرامي، وذلك لغاية 21 شباط 2020، تاريخ الوصول الرسمي لجائحة كورونا إلى لبنان. وتؤدي الأزمة الإقتصادية الخانقة وغير المسبوقة بعد كورونا إلى تعقيد الظروف وتعرية الأجراء والعمال والموظفين من أي حماية ينص عليها قانون العمل في القطاع النظامي الذي طالما حضن شريحة واسعة من الطبقة الوسطى العامود الأساسي لمنظومة العمل في لبنان. “مجالس العمل التحكيمية مقفلة، ووزارة العمل لا يمكنها أن تفعل لك شيئا وطريق المحاكم طويل، أحسن لك تقبل بالتسوية مع الشركة”، قال أحد المحامين لنبيل حين استشاره في كيفية تحصيل حقوقه كمصروف بعد عشر سنوات من العمل مع الشركة “شو ما عطيوك أشهر إنذار وتعويض خود”، وهكذا فعل “رغم أن الشركة لم تصرف جميع الموظفين ولم نعرف ما هي المعايير التي طبقتها في اختيار المطرودين”، يقول نبيل بأسى المتفاني في خدمة عمله: “عشر سنين مش أخد من إجازاتي 10%، كنت اشتغل حتى خلال نهاية الأسبوع”.

“إلك عين تحكي بالحقوق وفي كورونا وأزمة إقتصادية”

توثق وزارة العمل عير تقريرها التحديثي لأعداد الشكاوى والصرف وطلبات التشاور عن ورود 5 آلاف و334 أجير شملتهم الشكاوى الفردية والجماعية وطلبات التشاور التي وردت إلى الوزارة منذ 17 تشرين أول 2019 ولغاية 20 أيار 2020. تتوزع هذه الأرقام على ألف و65 شكوى فردية و88 شكوى جماعية، بلغ عدد الأجراء الذين تشملهم 356 أجيراً، ، فيما بلغت طلبات التشاور 250 طلبا، شملت صرف 3 آلاف و965 أجيراً.

رداً على هذا التقرير يعتبر رئيس الإتحاد الوطني للعمال والمستخدمين كاستروا عبدالله أن هذه الأرقام لا تعتبر 10% فقط مما يحصل في لبنان من حالات صرف من العمل وتعليق عقود وتخفيض رواتب. بالإضافة إلى “إقفال أقلام استقبال الشكاوى في وزارة العمل، ومعها أقلام مجالس العمل التحكيمية”، كما قال، هناك شعور لدى أصحاب المؤسسات صغيرة كانت أم كبيرة أن الزمان ليس زمان المطالبة بحقوق الأجراء والعمال والموظفين، بسبب انهيار المنظومة الحمائية للعامل. وينقل عبدالله ما قاله له صاحب إحدى شركات الأمن التي صرفت جزءا من موظفيها، ومن بينهم موظف أمضى تسع سنوات في العمل مع الشركة “إلك عين تحكي عن الحقوق والكورونا والأزمة الاقتصادية بالبلد؟”. وجاء كلام صاحب الشركة رداً على تدخل الإتحاد لتحصيل حقوق المصروفين “مع العلم انه لم يسجلهم في الضمان وحرمهم من الإجازات السنوية وتعويض نهاية الخدمة والضمان الصحي والمنح المدرسية، أي من كل حقوقهم”. ويؤكد عبدالله أن الموظف المصروف بعد تسع سنوات من العمل قصد وزارة العمل ثلاث مرات ووجد القلم مقفلاً بسبب الإلتزام بالتعبئة العامة.

إنهيار قطاع العمل النظامي

أستاذ رياضة في إحدى الجامعات الخاصة أُبلغ بوقف عقده بعد عشر سنوات أيضاً من العمل مع المؤسسة نفسها. أرسل الرجل إلى زملائه رسالة ملؤها الأسى عن خيبته مما حصل معه “قالوا أنهم صرفوني مع غيري بسبب الأزمة الإقتصادية فتفاجأت بعد فترة بتوظيفهم أشخاصا أخرين غيرنا”.

الدكتورة في جامعة البلمند سمر نجار تمّ وقف عقدها مع الجامعة بعد ست سنوات من التعاقد “غير العادل” كما تصف. “اكتشفت أنهم كانوا يدفعون لي أقل ب 30% مما يدفعونه لمن يحملون شهادة دكتوراه مثلي”، حين فاتحتهم بالموضوع اعترفوا بذلك وقالوا لها “إنت ما طالبت بحقك”. الإعتراف لم يعد عليها بالتعويض عن ست سنوات من الظلم المادي والمعنوي “أوقفوا عقدي بكل بساطة”. كمتعاقدة بدوام جزئي وإن لست سنوات طوت نجار خيبتها ومضت “صرفوا عشرات المتعاقدين أيضاً من دون أي تعويضات أو مبررات، برغم توظيفهم أناسا جددا مكان بعضهم”.

نحن لا نتحدث عن صرف في مؤسسات صغيرة سواء كانت مخالفة أم لا. “بس بده بس مين يجي يقعد ويتفرج. صار عنا بورصة وعداد في تسجيل الشكاوى والمراجعات والإستشارات”، تقول رئيسة دائرة العمل في جبل لبنان الجنوبي في وزارة العمل، الأستاذة الجامعية إيمان خزعل. وتؤكد أن الإتصالات على الخط الساخن للوزارة تتخطى 70 اتصالاً في اليوم: “نحن نحيا حياة هستيرية، وصار مفتش العمل يعتبر نفسه نجح في حل خلاف بين مؤسسة وأجرائها في حال توصّل إلى تحصيل أشهر الأنذار للعاملين، فيأتي ويقول “حلينا شكوى”، في دلالة إلى صعوبة التوصل لحلول تحفظ حقوق العمال.

تفضل دة خزعل عدم التحدث عن أزمة كورونا فقط، بل عن أي أزمة كبيرة “يمكن أن تواجه سوق العمل وأنا، كوزارة عمل، أجد نفسي صفر اليدين في مواجهتها”. تنطلق في حكمها هذا من حقيقة أن “قانون العمل عندما أعطاني صلاحيات كوزارة وحينما نظّم مجالس العمل، ووضع سلة الحقوق لم يأخذ في الحسبان أزمة بحجم جائحة كورونا”. تعود خزعل إلى 2019 حين بدأت مؤشرات الأزمة الإقتصادية بالتبلور، ثم تفاقمت مع تأكد وثبوت أزمة المصارف في الخريف (أي مرحلة إنتفاضة 17 تشرين) وجاء فيروس كوفيد 19 لتأخذ بها إلى الذروة”. لم نعد، وفق ما ترى، “أمام مؤسسة تعاني من أزمة مالية فتخفف من عديد موظفيها، ولا للبت في خلاف بين صاحب عمل وأجير، بل نحن نواجه معضلة إقفال مؤسسات كانت عماد القطاع النظامي”.

ومن تجربتها في قضايا العمل وموقع مسؤوليتها، تخلص خزعل إلى التأكيد على أفضلية إعادة النظر بالمبادىء التي تقوم عليها المنظومة القانونية والإجتماعية الحمائية المتبعة في لبنان قبل الأزمة، إذ عندما “تتحول الحقوق إلى منح مرهونة بآخرين، أو تذوب (أي الحقوق) خلال فترة نحن بأمس الحاجة إليها، يصبح الإعتراف بانهيار هذه المنظومة واضمحلالها أساسياً”. وترى أنه آن الأوان ل “وضع أسس جديدة لا تحفظ مما سبق إلا ما نجا من مبادئ وأحكام”.

نحن اليوم لا نتحدث فقط عن القطاع غير النظامي في لبنان، أي عن مؤسسات صغيرة مخالفة أو غير نظامية أو صغيرة يعمل فيها موظف أو موظفان أو ثلاثة. نحن أمام انهيار للقطاع النظامي في البلاد والذي يعتبر العمود الفقري للإقتصاد ولتماسك القوى العاملة، وفق ما يتوافق عليه كل من خزعل، ورئيس الإتحاد الوطني للعمال والمستخدمين كاسترو عبدالله ورئيس قسم التحرير والدراسات في المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين أسعد سمور. “نحن أمام انهيار ما تبقى من الطبقة المتوسطة في لبنان، يتحول هؤلاء إلى فقراء”. هذه بعض الملامح الأساسية التي تختصر بعض أوجه الإنهيار االإقتصادي الحالي في لبنان. فنحن نجد أن شركات ومؤسسات راكمت على مدى سنوات طويلة أرباحا مادية طائلة ترمي موظفيها وأجراءها على قارعة الطريق مع أول أزمة بهذا الحجم.

نحن نتحدث عن مؤسسات كبيرة وضخمة وعريقة على رأسها الجامعة الأميركية في بيروت التي كانت قد صرفت نحو 121 عاملاً مياوما تعاقدت معهم عبر شركة سامكو، عن شركة “أ ب ث” التي لامس عديد المصروفين منها حدود ال 250 موظف وموظفة، وكوكا كولا التي صرفت نحو 350 مثبتا وعشرات المياومين، وشركة أديداس التي صرفت 250 عاملاً وعاملة، إضافة إلى مؤسسات كبيرة أخرى. هذا ولم نتطرق إلى تخفيض الرواتب أو تعليق عقود العمل وهي إجراءات التي تنحو صوبها العديد من الشركات، وفق ما يوثقه المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين.

ولا يخفف توجّه بعض هذه المؤسسات إلى دفع بعض أشهر الإنذار والتعويض من الكارثة الإقتصادية-الإجتماعية. فقليل من المال بالليرة اللبنانية والتي فقدت قيمتها لن يحمي لقمة العيش في ظل وصول البطالة وفق التقديرات 40% قبل تفاقم الوضع نتيجة جائحة كورونا، إذ لن يجد المصروفون مؤسسات أخرى تؤمن فرص عمل بديلة.

والأسوأ أن مفهوم الصرف التعسفي ضاق إلى حدود الإلغاء في مقاربة الملفات التي تصل إلى وزارة العمل، وهي على كثافتها في المرحلة الحالية تبقى غيضا من فيض ما يحصل خارجاً. “نمرّ اليوم بأخطر مرحلة على مستوى المفاوضات وذلك منذ ما قبل الثورة، مرورا ب 17 تشرين ووصولاً إلى كورونا. الإشكالية المطروحة لم تعد في قبول طرفي النزاع بطرح وزارة العمل أم لا، صارت القضية هل ستعاود فتح مؤسستك بعد كورونا أم لا؟”، وفق ما تقول خزعل، لأن “همّ الأجير يبقى ضمانه وتأمين عودته إلى العمل وأن يستمر في قبض الراتب حتى لو فقد قيمته” تضيف لتؤكد “نحن أمام معضلة إقفال الشركات”.

وبرغم ذلك، لم تشعر الدولة أن إيجاد آلية لاستمرار عمل مجالس العمل التحكيمية هو ضرورة توازي، وربما تفوق بأهميتها، المحاكم الجزائية التي وُضعت لها آلية الكترونية لاستمرار التحقيقات والإستجواب واتخاذ القرارات اللازمة. حتى أولئك الذين سبق وحُددت لهم مواعيد لجلسات في مجالس العمل التحكيمية تبت في أوضاعهم قبل أزمة كورونا لا يعرفون أي شيء عن المسار الذي آلت إليه قضاياهم، وكأن لقمة الفقير وكيفية مواجهته للأزمة، وحمايته أو على الأقل الحرص على نيله حقوقه التي ينص عليها القانون، ليست ضمن أولويات الجهات الرسمية. نجد اليوم، وبرغم أن الأزمة الاقتصادية والمالية طاغية وتصيب أول ما تصيب العمال كقدرة إنتاجية وإستهلاكية أن المحاكم الوحيدة المعطلة هي مجالس العمل التحكيمية. وكأن الجهات الرسمية تصم أذانها عن صراخ الناس.

حكايات من سجل من فقدوا مصدر عيشهم

“لم يكن هناك بوادر أزمة مالية عندنا”، تقول سيدة فضلت عدم ذكر اسمها أو اسم الشركة التي صرفتها: “يمكن يرجعوا يردوني ما بدي واجههم”. بداية، جرى التخفيف من المتعاونين بدوام جزئي “وكنا كمثبتين نعتبر أنفسنا بأمان”. أعتقد ان الخلافات التي تعصف بين الإداريين أطاحت بنا”، تحاول فهم ما حصل: “عم نشتغل من البيت وماشي الحال”، تؤكد “خاصة أننا كنا نحصل على جميع حقوقنا كموظفين، والشركة كتير محترمة، بس ما منعرف شو صار”. صُرفت من الشركة مع عشرين آخرين من زملائها “وأبقوا على ناس مش أكفأ منا”. اليوم تتساءل عن كيفية تأمين عيشها مع ثلاثة أطفال “وين بدي لاقي شغل حتى لو عندي خبرة”. ماذا عن حقوقها “قالوا لي رح يعطوني حقوقي بس بعد ما عرفت شو هي”. لم يتواصلوا معها برغم مضي نصف شهر على صرفها “طلعوني من الشغل بعيد العمال، هيدي كانت عيديتي”. لم تلجأ السيدة إلى وزارة العمل ولا إلى مجالس العمل التحكيمية، هي لا تعرف بوجود مجالس عمل تحكيمية من الأساس “شو بدها وزارة العمل تعمل لي، الشركة متحججة بالأزمة الاقتصادية لتخفف نفقاتها ومصاريفها، وأصلا ما بعرف شو هو دور وزارة العمل، بفضل يدفعوا لي قرشين يعينوني بهالأزمة”. تضيف وهي تتساءل كيف ستدفع أقساط أولادها “المدرسة كمان عم تطالبني بالقسط أو ما بتسجلهم للسنة الجاية”.  كل هذا وعلمت من زملاء لها أن الشركة تعاقدت مع آخرين بتقديمات أقل وع الساعة، يعني كلفة أقل وضمانات معدومة ودون إلتزامات. “عم يستغلوا الناس”.

الجامعة الأميريكة توفر على حساب الفئة الأضعف

ينقل أحد الموظفين في الجامعة الأميركية في بيروت بعض ما يحدث في قسميها الأكاديمي (الجامعة التعليمية) والطبي (المستشفى) حيث بدأت إدارة الجامعة عقد اجتماعات للبحث في كيفية مواجهة الأزمة التي فصلها رئيس الجامعة في رسالة طويلة توجه بها إلى “عائلتها” في 5 أيار 2020.  بدأت كل دائرة بإعداد تقرير عن موظفينها لتحدد كيفية التوفير. يقول أنهم بدأوا باستبدال الكمامات التي ترمى بأخرى قماش يمكن غسلها وإعادة استعمالها.

لكن الأهم بالنسبة لهذا الموظف هو ما حصل مع المياومين في الجامعة، والذين يتحملون جزءا من أعباء استمرارية الجامعة منذ نحو عشرين عاماً “أول شي بلشوا الصرف من بينهم لأنهم الأضعف والأفقر”. حاول المياومون تشكيل إطار تنظيمي نقابي “فقالوا لنا إذا بتكملوا بتوقف العقد مع محمد السماك”، أي “صاحب شركة سامكو التي تتعاقد الجامعة عبرها مع المياومين”. استكمل المياومون محاولة حماية أنفسهم عبر اللجنة التنظيمية “نتابع أمور المياومين في الجامعة، لكي لا نصبح مياومين في منازلنا”.

يجري العقد مع السماك، صاحب الشركة وفق الأتي: “نحن منجي عند الحاج محمد السماك، مع سجل عدلي وصورة عن الهوية وصورتين شمسيتين، ونملأ ورقة عن الخبرة وإذا في شهادات”. ليس هناك أي اتفاق خطي ولا حتى توصيف وظيفي”. يرسل الحاج الراغبين بالعمل لمقابلة مدير القسم المعني في الجامعة الأميركية. والمدير يسأل المياوم والمياومة “عندكم مشكلة تنضفوا؟ تشتغلوا حمالين؟ ترشوا مبيدات؟ تشرفوا ع عمال؟”، وهكذا ليتأكد أن المتقدم للوظيفة يمكن أن يؤدي أي عمل يطلب منه، بما فيه أن يكون في قسم الصيانة مثلا فيُطلب منه تعقيم حوض السباحة أو تنظيفه.  ينال المياوم 41 ألف عن كل يوم عمل، فيما يقبض المشرف على العمال 46 ألف ليرة. لا إجازات سنوية أو أسبوعية، لا إجازات أمومة. وبعد نضال طويل صار هؤلاء يتمتعون بالضمان الصحي، وليس بتأمين صحي داخل مستشفى الجامعة على غرار المثبتين. “تخيلي مرة زميلنا كسر إيده بالجامعة الأميركية التي تمتلك أفضل مركز طبي في لبنان وربما المنطقة، إجت سيارة إسعاف وأخدته يتحكم في مستشفى أخرى”، يقول الموظف في الجامعة. ويؤكد محدثنا أن العديد من التقديمات يتمتع بها المثبتون في الجامعة الأميركية ومن ضمنها تدريس أبنائهم فيها، بينما لا ينال المياومون أي منح مدرسية.

جزء ممن لم تصرفهم الجامعة قامت بتخفيض ساعات عملهم من عشرين يوم عمل في الشهر مثلاُ إلى عشرة أيام: “يعني صار البطل بيطلع أقل من مية دولار بالشهر (410 آلاف ليرة)”. من بين المصروفين، مياوم قضى 25 سنة في خدمة الجامعة وبقي مياوماً وخرج بلا تعويض أو حتى إكرامية. الإستغناء عن عدد كبير من المياومين 121 من أصل نحو 500 مياوم ضاعف العبء على من تبقى في العمل “صرنا نشتغل عنا وعنهم بنفس المردود المالي”. حتى أنهم صرفوهم عن طريق جعلهم يوقعون على استقالة طوعية “كان بدي ال 800 ألف لأنه عندي تلات أولاد وزوجتي وكيف بدي طعميهم؟ قال الحاج (محمد السماك) بتمضي استقالتك وبتقبض معاشك، وهذا ما فعلته”.

ومع تجند طلاب من الجامعة الأميركية وعدد من أساتذتها وانتفاض المياومين لعدم القبول بما يحدث وتشكيل لجنة تستشير محامين وخبراء في قانون العمل، لم يقبل جزء من المصروفين لاحقا بالتوقيع على استقالات ولجأوا إلى وزارة العمل.

يتحدث المصروفون عن ظروف عمل لم تراعِ الحدّ الأدنى من المعايير الحقوقية أو السلامة المهنية: “كنا نطلع ننضف زجاج بارتفاع 5 طوابق من دون أي إجراءات حمائية إلى أن كتبت طالبة عنا مع صور تفضح ما يحصل في مجلة الجامعة فتوقف الأمر. يجعلوننا ننظف أبنية موبوءة إلى أن أصابت البعض منا جرثومة وعانينا من الحساسية فأجروا لنا عندها فحوصات وأعطونا جرعات من طعم خاص. يميزوننا حتى باللباس الخاص بالعمل عن لباس المثبتين من عمال النظافة مثلاً. تخيّلوا أنهم في عيد الميلاد لم يسمحوا لنا بتناول الحلويات (حبة بونبون) لأنها ليست مخصصة للمياومين وبابا نويل لم يعترف فينا أيضاً”.

 في عيد الأمهات وزعوا ورودا على العاملات. وعندما وصلت بعض الأمهات من المياومات لم يسمحوا لهن بأخذ وردة “هودي للمثبتين بالجامعة”. ممارسات دفعت بالنوادي الطلابية في الجامعة إلى تنظيم حفلة خاصة بالمياومين وتوزيع الهدايا عليهم وتكريمهم.

أ ب ث والحد الأدنى من الحقوق

تركت ريم عملها السابق لتلتحق بشركة أ ب ث حين عرضت عليها هذه الأخيرة أجرا مضاعفا. مع بدء التعبئة العامة، قبضت ثلاثة أرباع راتبها كونها لم تعمل سوى 10 أيام في الشهر. بعدها استدعاها قسم الموارد البشرية حيث جهزوا أوراقا لتوقيعها تفيد باستقالتها من العمل. قال لها محامي الشركة “أحسن لك تفلي من الشغل، المؤسسة ما بقى قادرة تفتح ويمكن تسكر عطول”. جعلها توقع على إستقالة وبراءة ذمة بعد تسليمها راتب ثلاثة أشهر. تأمل ريما أن تعيدها الشركة إلى العمل وفق وعودها: “إذا رجعنا فتحنا ومشي الحال إلك أولوية”، لذلك لم تشتكِ ولا تريد مواجهتهم “بركي بيرجعوني، وين بدي روح”. هذا ما قاله زملاؤها المصرفون أيضاً. يعتقد المصروفون أن الشركة لا تعاني من أزمة مالية “نحن منعرف أنه أرباحهم الصافية تبلغ مئات آلاف الدولارات شهريا، مع أول أزمة جدية رمونا بالشارع، وهناك من عملوا مع أ ب ث لعشرين عاماً للأسف، برغم أنهم نالوا جزءا من تعويضات جعلتهم يسكتون عن صرفهم أملاً في إعادتهم إلى العمل أيضاً”.

يعرف المصروفون أيضاً أن الشركة تبيع أونلاين، حتى أن البعض أخبرهم أنهم يُدخلون الزبائن بشكل سري وبالتالي هم مستمرون بالبيع وبجني الأرباح وإن بنسبة أقل “بس اختاروا يضحوا فينا ويضبوا مصرياتهم”.

تسأل ريما عن أي تنظيم نقابي أو رسمي يضم الموظفين فترد “شو يعني نقابة، استشرنا محامي وقلنا اقبلوا بالتعويضات ما فيكم تعملوا شي”.

إنهيار غير مسبوق في سوق العمل

يعيد رئيس الإتحاد الوطني للعمال والمستخدمين كاسترو عبدالله الأزمة إلى ما قبل الثورة حيث كان العديد من المؤسسات بدأ بتقديم طلبات تشاور لدى وزارة العمل. مع 17 تشرين، “جرت محاولة إلغاء براءة الذمة من الضمان على كل الشركات بحجة الأزمة الإقتصادية، وهي المستند الذي تحتاج إليه المؤسسات لتقدمها للإستيراد والتصدير ولمعاملات ضريبة الدخل وبعض الإجراءات والتعديلات بمجلس الإدارة وغيرها من الأمور”. وكانت الخطوة، وفق عبدالله “لترييح المؤسسات بحجة التخفيف من عملية الصرف لوجود مبالغ متوجبة على الشركات للضمان، وهذا يهدد بانهيار الضمان لصالح شركات التأمين الخاصة”.

يعتبر عبدالله أنه تمّ التذرع ب 17 تشرين لمزيد من الصرف التعسفي وتخفيض الرواتب، مشيراً إلى عدم وجود رقم دقيق يوثق ما آلت إليه الأمور. ومع ذلك “هناك شركات بالمئات تصرف موظفيها كلهم أو بعضهم، ولدينا 4 آلاف شكوى تقريبا كإتحاد قدمناها لوزارة العمل وتفتيش الضمان ومجالس العمل التحكيمية، من قطاعات الفنادق والبناء والخياطة ومؤسسات صغيرة وباعة ومحلات تجارية وشركات أمن وتجمعات محلات (مولات)، وغيرها”، وفق ما يؤكد.

ويتوقف عبدالله عند بطء سير الدعاوى في مجالس العمل التحكيمية حيث “بتاخد بعض الدعاوى ست أو سبع سنين”، ليقول: “عليه، صار أصحاب العمل يفضلون أن يذهب العامل إلى المحكمة لأنه غير قادر على الصمود وعلى تحمل كلفة المحامي فيقبل بالتسوية”.

ويسجل كاسترو على وزارة العمل والتفتيش إهمال ملفات الصرف والتحقيقات “المفتشين عم يراقبوا الإلتزام بإجراءات الحماية من الكورونا، لا يمكننا تسجيل شكوى برغم أنه لدينا مئات الشكاوى من العمال والموظفين، إذ لا نجد قلم شغّال في بيروت أو جبل لبنان أو المناطق لتسجيل الشكاوى، تحت ذريعة صدور قانون تمديد المهل عن مجلس النواب”.

وبعدما يستعرض بعض الشركات الكبيرة التي صرفت العشرات وصولاً إلى 250 و300 موظف وما فوق، يشير عبدالله إلى توصل بعض الموظفين إلى تسويات بينهم وبين الشركات ونالوا بعض الحقوق “هناك أكثر من حالة ترغيب وترهيب من براءة الذمة وتصريح الترك من الضمان للإستقالة الطوعية، ليكون الطرد مبكل وتكريس وضع قانوني يمكّن الشركات من النجاة من المسؤولية”.

وبالإضافة إلى صرف شركات كبيرة ومتمكنة لموظفين، يوثق عبدالله صرف مياومين من المنطقة الحرة في المطار ومن شركة الكهرباء وسائقي شاحنات على المرفأ واستبدالهم بسائقين سوريين “برغم أن الإتحاد أرسل ما يزيد عن 350 رخصة قيادة عمومية لشاحنات مخصصة للنقل المرفئي، وقلنا لهم هؤلاء يطلبون عملاً، وهم يّشغلون أجنبيا لأنهم يدفعون له ع النقلة، بينما هناك مئات اللبنانيين يريدون العمل. ومن عكار لوحدها مثلاً منلاقي ألف سائق”. ويقدر كاسترو عديد المصرفين حتى الأن بنحو 70 إلى 90 ألف شخص، وفق شركات استطلاع الرأي.

 واستناداً إلى أكثر من عشرين عاماً من العمل النقابي، يخلص عبدالله إلى القول “إنها المرة الأولى التي يصل فيها وضع القوى العاملة إلى هذا السوء”، مشيراً إلى ان الإتحاد أرسل آلاف الأسماء إلى وزارة العمل ممن خسروا أشغالهم لضمهم إلى لوائح الذين يجب أن تشملهم مساعدات الدولة وللأسف “لم يتجاوبوا معنا سوى ببعض الأسماء”.

يوثق رئيس قسم التحرير والدراسات في المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين أسعد سمور إنتهاكات الصرف النتعسفي ومعدلاتها بأنها أعلى قبل انتفاضة 17 تشرين مما صارت عليه بعدها:”نحن نتحدث عن المرحلة ما بين اول 2019 ولغاية منتصف تشرين أول”. أما بعد 17 تشرين، فقد برزت انتهاكات خفض الأجور والتضييق على حرية التعبير والنشاط النضالي، والضغط على موظفي القطاعين العام والخاص لعدم المشاركة في الثورة. وهناك موظفة في القطاع العام، على سبيل المثال، تم نقلها من محافظة الى أخرى كإجراء عقابي على موقفها من الثورة”.

ويشير سمور إلى تسجيل المرصد “337 استشارة تتعلق بانتهاكات حقوق العمال، وارتفعت الشكاوى  المقدمة إلى وزارة العمل نحو 500% عن 2018 تقريبا، وهذا يؤشر على تفاقم حجم الأزمة بين 2018 و2019 قبل أن نتحدث عن كوارث 2020”. وكإنطباع أولي عن 2020 يبرز تخفيض الأجور وتعليق عقود العمل كسمات أساسية لأزمة الكورونا. مع الإشارة إلى أن “تعليق العقود غير موجود في قانون العمل كون قانون العمل هو قانون خاص، وعندما يخلو من أي نصوص تتعلق بأزمات خاصة كأزمة كورونا تتم العودة قانونيا الى قانون العقود والموجبات أي القانون العام”.

ويتحدث سمور بالأرقام “في 2019 وعشية 17 تشرين توزعت الشكاوى والإستشارات على 56% حالات صرف و16% عدم دفع أجور نهائيا، ولم تتجاوز نسبة المسجلين في الضمان من بين هذه العينة ال 23%”. 12% من العينة طلبوا استشارات تتعلق بالتسجيل بالضمان. بعد 17 تشرين ارتفع العدد للمسجلين بالضمان من 23% إلى 29% ممن قصدونا، أي أن نسبة المسجلين بالضمان كانت أعلى ممن سبقوهم وهذا يعني أن الإنتهاكات بدأت تتمدد نحو القطاع النظامي”. وتجدر الإشارة إلى القطاع غير النظامي “يشمل أكثر من 50% من القوى العاملة، وهذا يرفع من نسبة الفقر والهشاشة في المجتمع، كونهم يفتقرون إلى التقديمات التي ينص عليها قانون العمل”.

ويقول سمور أن الإنتهاكات القانونية لحقوق العاملين لم تتغير في القطاع الصناعي إذ استقرت قبل 17 تشرين وما بعدها في 2019 على 14%. بالنسبة للقطاعين الخدماتي والسياحي، كانت الإنتهاكات قبل 17 تشرين في الخدماتي 21% والتجاري 18%. بعد 17 تشرين، قفز التجاري إلى 30% والخدماتي إلى 28%، كونها قطاعات مرتبطة بالقدرة الشرائية للمواطن. ورصد سمور انسحاب الشكاوى نحو مناطق بعيدة لم تشملها سابقا كبعلبك الهرمل وعكار “صاروا 1% بعدما كانوا 0% من المشتكين، وقفزت في الجنوب من 2% إلى 7% وفي طرابلس من 6% إلى 7% وفي البقاع من 3% إلى 4%.

يحصل كل هذا، وفق سمور، والشبكة الحمائية للعامل مضروبة حيث دور وزارة العمل محدود وبعض موظفينها لا يشجعون العمال والموظفين على التشكي والذهاب إلى مجالس العمل التحكيمية، فيما الجسم النقابي منقسم ومشرذم وحتى الأطر التنظيمية التي يشكلها المصروفون تتلاشى مع الوقت ليقرر كل شخص حسب وضعه وقدرته على الصمود في بلاد تأخذ فيها المحاكم وقتا طويلاً للبت بالقضايا.

وفي ظل النظرة العامة السائدة إلى غياب النظام العام الحمائي على الصعيد الإقتصادي الإجتماعي في ظل الأزمة الراهنة، يؤكد الباحث والمحامي المتخصص في قضايا العمل كريم نمور في مقاله “أين ربيع العمّال في زمن الإنهيار؟” نشر في المفكرة بتاريخ الأول من ايار 2020، “سقوط إسترشاد أصحاب العمل بأحكام قانون الموجبات والعقود (مثل المادة 631 منها إلخ.) لتبرير عدم تسديدهم لأجور موظفيهم في ظل مكوث هؤلاء في المنازل إنفاذاً للتعبئة العامة وفق شعار “لا أجر دون عمل”، لتعارض هذا الأمر مع النظام العام الحمائي المذكور ولا سيما تعارضه مع المادة 7 من الإتفاقية العربية رقم 15 التي تنص على حق العمّال بتقاضي أجورهم كاملة حتى ولو لم يؤدوا عملاً لأسباب خارجة عن إرادتهم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، تحقيقات ، استقلال القضاء ، لبنان ، حقوق العمال والنقابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، جائحة كورونا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني