“
لم تتأخّر ثورة 17 تشرين الأول سوى بضع ساعات لتصل إلى عكّار على عكس كل شيء آخر من إنماء وخدمات وطرقات وغيرها. وصلت الثورة صباح 18 تشرين الأول. فقطعت أغلب الطرقات سواء بالسواتر الترابية أو بالإطارات المشتعلة. وأصبحت حركة السير شبه معدومة. وانحصرت حركة الناس في تجمّعات محدّدة من ساحات أو طرقات وخرج الصوت العكاري يصدح في السماء وينادي ثورة.. ثورة.
يمكننا أن نتلمّس الوجع العكاري الذي دفع الناس هنا إلى أن يكونوا جزءاً من الثورة، من مظاهر البؤس المنتشرة هنا وهناك، وسوف نسمع بوضوح في أصوات العكاريين بأنّه ليس هناك تراجع عن هذه الثورة، وبأنّهم متمسّكون بها بعد تكرار الخيبات والأحداث التي نهشت كرامتهم. فالثورة بالنسبة إليهم هي الخلاص الوحيد والحل المنتظر منذ زمن، وهي التي تبدد المسافة بينهم وبين سائر الوطن.
في الجومة المؤلفة من عشرين قرية، والممتدّة من إيلات حتى عكار العتيقة، والبعيدة عن حركة الإنماء والمبعدة تقريباً عن أي مشروع إنمائي من شأنه أن يدعم الشباب الذين تقتصر خياراتهم بالإلتحاق بالسلك العسكري، أو الهجرة، فيما لا خيار أمام الباقين الذين يمثلون العدد الأكبر ومنهم المتعلم وغير المتعلم سوى البقاء من دون عمل.
لا تختلف مطالب العكّاريين وأهل الجومة كثيراً عن مطالب قرى الجنوب والبقاع وسائر المناطق، لذلك برزت الجومة أيضاً كشريكة في هذه الثورة. فتشكلت مع بداية الثورة مجموعة شباب وشابات من مختلف قرى الجومة، لم يتوانوا عن السهر للتحضير ليلاً وقطع الطرقات صباحاً وإغلاق المدارس ودعوة الطلاب إلى الانضمام إلى صفوفهم، وتوحيد الصرخة. ونصب ثوار الجومة خيمة بين قريتَي تكريت والعيون أي في وسط الجومة لتكون ركيزة أساسية لهم ونقطة إنطلاقهم في أي نشاط.
يقول كريم الحاج، وهو رسام ونحات وناشط سياسي وبيئي ومؤسس المحترف القروي، إنّ قريته بيت ملات فارغة تقريباً من السّكان لأن معظمهم إما في المهجر أو يقطنون حالياً في بيروت وذلك لإنعدام الخدمات في المنطقة من طبابة وتعليم وغير ذلك.
ويضيف: “ثورة الجومة هي ثورة متناغمة مع كل مناطق لبنان، وهي نتاج الحرمان والعوز والفقر التي تسببت بها السلطة الفاسدة، وحالياً ليس هناك بديل عن الثورة”. ويؤكّد أنّ “حراك الجومة مستمر ومتمسك بهذه الثورة حتى تتحقق جميع المطالب من البدء بالاستشارات، وتشكيل حكومة وهيئة وطنية مستقلة كاملة الصلاحيات لتنظيم انتخابات، وإنقاذ البلد من الأزمات التي تعصف به”.
صرخة أهالي الجومة هي صرخة حاضرة منذ زمن وكانت تُكتم بفعل توالي الخيبات بعد محاولات باءت بالفشل للحصول على حقوقهم والعيش بكرامة. فكانت الثورة الدافع لإطلاق العنان لصرختهم ولا سبيل للتراجع.
يروي الشاب العشريني أحمد رستم وهو من تكريت التي تقع في وسط الجومة، المراحل التي مر بها في مسعاه للحصول على “مستقبل مشرّف وإيصال صوتي والحصول على حقوقي والعيش بكرامة”. فقد تخرّج من مدارس الجماعة الاسلامية وكان يمضي عطلة الصيف في نشاطات تنظمها الجماعة، ومن ثم التحق بسرايا المقاومة، وآخر انتساباته كانت إلى التيار الوطني الحر. ويقول أحمد إنّ تجربته هذه جعلته يكتشف “دهاليز هذه الأحزاب ومسعاها للتمدد والسيطرة على حساب الشعب”. وبالتالي فحين انطلقت الثورة وجد نفسه أوّل الملتحقين وهو اليوم من أكثر الثوار نشاطاً. ويقول “أدرك اليوم تماماً حقيقة ما أوصلتنا إليه الطبقة السياسية من فساد ونهب وأعمل على حث الآخرين على الانخراط في صفوف الثورة وتوعيتهم على حقوقهم”.
ويتابع أحمد: “لم يعد باليد حيلة إلّا بهذه الثورة الممتدة في لبنان، ليس هناك فرصة للاستسلام فنحن أمام خيارين إما الاستمرار في الثورة ثم النصر أو التراجع ثم الموت”. ويلفت إلى أنّ ثوّار الجومة يواجهون العديد من التحدّيات منها الأخبار الكاذبة التي طالت عدداً من الشباب، وتلفيق الأكاذيب من قبل الأحزاب في المنطقة، ومحاولات السيطرة عليهم من قبل أشخاص كبار تابعين للأحزاب. إلّا أنّه يؤكّد أنّ أحداً منهم لم يستسلم جرّاء أيّ من هذه المعوّقات.
في عيّات إحدى قرى الجومة وحالها من حال باقي القرى في عكار، يخبرنا الأستاذ أحمد النشار بأن “هذه الانتفاضة هي انتفاضة وعي وتطلّع نحو التغيير لذلك لا يمكن لأحد أن يراهن على إنهائها، فالوعي هو سيّد الموقف فيها، وليس أمام العكّاريين ما يخسرونه”. ويشير إلى “الجهود التي تبذل للتماشي مع العصيان المدني حيث لم يتوقف ثوار الجومة عن تسكير الطرقات وإغلاق المدارس ولكن بالطبع لا يوجد في الأصل مؤسسات دولة هنا حتى يطالها الإغلاق”.
ولا تخلو خيمة الجومة من اللقاءات التثقيفية وحلقات النقاش التي يديرها مختصّون في الشأن الاقتصادي والحقوقي. وبالنسبة لمعظم الأهالي ستكون هذه الثورة حاسمة، وهذه المرحلة الانتقالية صعبة على الجميع ولكن لا بد من الاستمرار حتى يتحقق ما يصبون إليه وأن تحصل الجومة كباقي المناطق في لبنان على الإنماء والخدمات التي تصون حياة الأفراد.
“