ثلاث سنوات من الحكم الفردي: ما الذي تحقَّقَ في الاقتصاد؟


2024-08-05    |   

ثلاث سنوات من الحكم الفردي: ما الذي تحقَّقَ في الاقتصاد؟

مَاثَل رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد في خطابه المطوّل بمناسبة إحياء ذكرى إعلان الجمهوريّة بين لحظتين تاريخيّتين عَدّهُما فارقتين في تاريخ البلاد: لحظة إعلان الجمهوريّة في 25 جويلية 1957، ولحظة “انقلابه الدستوري” وتَفرّده بالحكم في 25 جويلية 2021. برغم ما يبدو من تناقض مضموني بين قيم الجمهوريّة ومنظومة الحكم الفردي التسلّطي التي أرساها لم يخرج الخطاب الرّئاسي عن المألوف، نفس أسلوب الحجاج القائم على التخويف والتّكرار والمبالغة كتشبيه لحظة الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب دستوري، باللَّحظة التي ضَربَ فيها الشعب التونسي “موعدًا جديدًا مع التاريخ ليُصحّح مسار الثورة ومسار التاريخ”. تَمجيد الشّعب كوحدة مُتجانسة نقيّة وما يعنيه بشكل مباشر من تمجيد لذاته بصفته تعبيرة خالصة عن “إرداة الشّعب”، قَابلَه سَيلٌ من الحديث المُرسَل النّمطي حول الأعداء المُخرِّبين أو “أسراب الجراد” على حدّ تعبيره، والتي يَتساوَى فيها جميع مُعارضيه الخارجين عن “حالة الإجماع الشعبي” حول شخصه المُخلِّص.

تزامَن هذا الخطاب مع مرور ثلاث سنوات على تفرّد سعيّد بالسّلطة، ومع انطلاق الإعداد للإنتخابات الرّئاسيّة التي ستَنعقِد في 6 أكتوبر من السّنة الجارية. لذلك نَلمس الجانب الدّعائي الانتخابي في خطابِه عبر استعراض حصيلته على أنّها مُنجزَات تاريخيّة، إذ أن ما حَصلَ منذ تاريخ 25 جويلية 2021 “لعلّه لم يَحصل في أيّ بلاد أخرى” وفق قوله. أمّا هذه المنجزات التي تحدّثَ عنها الرئيس فتتمثّل على المستوى السياسي في: الإستشارة الوطنيّة، دستور الرئيس، انتخابات البرلمان وانتخابات مجلس الجهات والأقاليم. بينمَا تتمثّل على المستوى الاقتصادي في: السّيطرة على التضخّم، تحقيق فائض إيجابي في الميزان الغذائي إلى حدود شهر جوان من السنة الحالية، بلوغ مخزون العملة الصعبة 113 يوم توريد. 

يبدُو جليّا أنّ الحديث في الاقتصاد ليس مجالا مُحبّذًا للرّئيس من دون تنزيله في سياق الفعل المؤامرَاتي، نظرا لما يُمثّله من مأزق حقيقي بالنّسبة إليه، لأنّه يصوّر عجزه عن تقديم مشروع بدائلي للموجود الذي يرفضه. فما أشار إليه في الاقتصاد باختزاليّة مفرطة لا يرتقي إلى مرتبة الحديث على حصيلة أو نتائج. إذ نلاحظ أنّ المؤشّرات الثّلاثة التي أشار إليها تَمَّ فرزها من مجمل المؤشّرات الهزيلة أو السّلبيّة، لذلك يُشكّل استعراضَها بشكل معزول فاقد لأي معنى من منظور الاقتصاد السّياسي، بخاصّة عندما يقول الرئيس سعيّد أنّها كانت نتيجة للاختيارات الشعبيّة الوطنيّة والتّعويل على الذات ورفض الوصفات الخارجيّة، ويَقصد هنا صندوق النقد الدّولي. وكأنّ عدم استئناف المفاوضات مع الصّندوق للحصول على قرض جديد كفيل لوحده بالقول أنّ الرّئيس بصدد التأسيس لمشروع تنموي وطني ومستقلّ. 

بعد ثلاث سنوات من التّفرّد بالسّلطة والهيمنة على مؤسّسات الحكم، لم يُكلّف الرئيس نفسه -على الأقلّ- الحضور في حوار إعلامي تَفاعلي لعَرض حصيلة حكمه وتبرير ترشّحه لولاية ثانية، بالرغم من الخطوات التي قطعَتها السلطة في تدجين الإعلام العمومي. غير أنّ تَقاطع الشعبويّة مع التسلطيّة، أدّت بالرّئيس إلى تَبنّي الاتّصال الأحادي -صفحة رئاسة الجمهوريّة على الفيسبوك- اعتقادا منه بأنّ وسائل الإعلام التّقليديّة، حتّى وإن تمّ تطويعَها، تُمثّل عوائق ستشوّش على “رسائله النّبيلة” و”إنجازاته التّاريخيّة”. فحتى احتمال إجراء حوار إعلامي مفتوح على قاعدة أفكار الرئيس سعيّد؛ مثل الشّركات الأهليّة والصّلح الجزائي ومكافحة التّفاوت بين الجهات ومكافحة الفساد وما إلى ذلك، سَيُحرِج الرّئيس الذي لا ينطِق خارج الحِجاج المؤامراتي والاستعراض المشهدي لمعضلات البلاد دون طرح حلول. ومن الضروري التذكير بأن الدّستور الذي خطّه بنفسه يَخُصّه في المقام الأول ودون غيره بصلاحيّة تحديد السّياسة العامّة للدّولة واختياراتها الأساسيّة، لكنّه في الواقع لم يَطرح أيّ برنامج إقتصاديّ قائم على بناء نسقيّ يُمكّن من التّوقّع خارج السّياق الحالي الذي يتّسم بالمجهول. وهو ما تشير إليه بقوة القراءة العقلانية لمؤشّرات الاقتصاد الكلّي في جانبها الكمّي والكيفي. 

لُغَة الأرقام في مواجهة لغة الرّئيس

تَبدو العودة إلى الأرقام الرّسميّة المتعلّقة بالاقتصاد الكلّي ضروريّة لأنّها تَمدّنا بالأدوات الموضوعيّة للفهم والتّقييم والمقارنة. في الاقتصاد بقدر ما تمثّل الأرقام انعكاسًا للواقع بقدر أنّها لا تُصوِّره. فالواقع عادة ما يكون أسوأ، لأنّ المؤشّرات تقوم على التّرجيحات وتّتسم بالعموميّة بالأخصّ إذا تمّ عزلها عن جانبها الكيفي. إذ أن هناك فرق بين أن يقول رئيس الجمهوريّة إنه تمّت السّيطرة على التضخّم وبين ذِكر مؤشّر التضخّم. فالصّيغة الأولى تُوحي بتحقيق نجاح في المجال، بينما تّتسم الصيغة الثّانيّة بالدقّة والواقعيّة. بلغَ معدّل التضخّم في السّداسيّة الأولى من السنة الحالية 7.3%، وهو مستوى عال خصوصا إذا ما قارنّاه بالتدّني المتواصل للإنتاج، والمقصود بـ”السيطرة” على التضخم وفق الرئيس هو استقرار المؤشّر تقريبا في نفس المستوى في الأشهر الثلاثة الأخيرة. علما وأنّ البنك المركزي يتوقّع نفس النّسبة لكامل سنة 2024، متجاوزة بذلك المعدّل العالمي المتوقّع من صندوق الدّولي للسّنة الجارية بـ5.8%.

بلغ تطوّر المعدّل العامّ للأسعار، سنة 2021، 5.7%. وسيُواصل صعوده ليشهد مستوى قياسي بـ10.4% في شهر فيفري من السنة الماضية، ليأخذ إثر ذلك منحى تنازلي بطيء، ويعود العامل المحدّد في ذلك إلى تراجع أسعار الموادّ الأساسيّة الأوليّة في السّوق العالميّة بشكل ملحوظ مقارنة بالسّنة التي سبقتها. أمّا بخصوص العوامل الدّاخليّة لارتفاع الأسعار، والذي ترافق مع فقدان عدّة موادّ أساسيّة في السّوق، فقد ربطها رئيس الدّولة بشكل حصري بسرديّة المؤامرة من قبل المحتكرين والمضاربين. لهذا الغرض أصدر المرسوم عدد 14 لسنة 2022 المتعلّق بمقاومة المضاربة غير المشروعة، وأرسل سيلا من الوعيد بـ”شنّ حرب دون هوادة” على “المجرمين الذين يتلاعبون بقوت الشّعب”. في هذا الصّدد، نشرت منظّمة “أنا يقظ” الإحصائيّات المتعلّقة بتطبيق المرسوم خلال الأشهر السبعة التي تلت إصداره وتحصّلت عليها من وزارة العدل إثر تقدّمها بمطلب نفاذ للمعلومة. ويفيد التقرير بأنّ الخطاب التّحريضي للرئيس وحربه الهلاميّة ضدّ الفساد لا تتعدّى كونها حملة أمنيّة مسعورة وعشوائيّة تُغطّي على فشله في إدارة الشأن العامّ. فخلال 7 أشهر فقط، وقع إيقاف 2542 فردا بتهم تتعلّق بالاحتكار والمضاربة غير المشروعة، وتمّ إطلاق سراح 2318 من بينهم ما يعادل 92% من مجموع المُتّهمين. 

وأشاد الرّئيس بتحقيق فائض إيجابي في الميزان التّجاري الغذائي إلى حدود شهر جوان وكأنّه إنجاز اقتصادي يحسب له ولِحكومته. منذ مطلع العام حافظ الميزان التجاري الغذائي على حصيلة إيجابية بلغت 1834.7 مليون دينار، على عكس السّنتين الأخيرتين حيث سجّل عجزا بـ 1946.4 مليون دينارا سنة 2021 وعجزا بـ 2920,2 مليون دينارا لسنة 2022. هذا العجز لم يتطرّق له الرّئيس في حينها. وتسجيل هذا الفائض لم يكن نتيجة مراجعة للنّموذج الاقتصادي الفلاحي بل هو نتيجة ظرفية مرتبطة بالعوامل الطبيعيّة وحركة الأسعار في السّوق العالميّة، وهي نتيجة مرتبطة بنفس السّياسة الزراعيّة التصديريّة المتخصّصة التي اعتمدتها السّلطة السّياسيّة منذ الاستقلال. إذ شهدت المنتوجات الموجّهة للتصدير (زيت الزّيتون والتّمور والقوارص والطّماطم) ارتفاعا كميّا، وبدرجة أوسع ارتفاعا في قيمة عائداتها الماليّة بسبب ارتفاع سعرها عالميّا. في الأثناء قابَلَها انخفاض سِعري وكمّي في الواردات الغذائيّة الأساسيّة، وهي الحبوب والزيوت النّباتيّة والبطاطا والسّكر والحليب ومشتقّاته واللحوم وكسب الصّوجا. وعموما لا توجد هيكلة للصّادرات والواردات الغذائيّة في ظل انعدام خيارات سياسيّة وإقتصاديّة جديدة، فقط هناك قرارات سياسيّة متعلقة بالكميّات المورّدة للحفاظ على المخزون الاحتياطي من العملة الصّعبة، وقد خلقت هذه القرارات أزمة تزوّد على غرار ما وقع مع الحبوب سابقا أو مادّة السكّر، والذي انخفضت الكميّة المورّدة منه في النّصف الأوّل من العام الجاري بـ64.2% مقارنة بنفس الفترة من العام المنصرم ـ 

لقد تَجنّب الرئيس سعيّد وبشكل واعي التطرّق لنسبة النموّ، رغم أنّ هذه الأخيرة تُعَدّ المؤشّر الرّئيسي في تقييم الأداء الاقتصادي الرّسمي. إذ أن نسبة النموّ هي حركة الإنتاج وخلق الثّروة، وقد بلَغَت نسبة النمو سنة 2021، 4.3%، وهي ارتفاع متوقع أدّى إليه التراجع الكبير الذي شهدته نسبة النمو سنة 2020، التي بلغت 8.6-%، تحت تأثير الأزمة الصحيّة. ومن ثُمّ ستعود نسبة النمو للانخفاض لتبلغ 0.4% سنة 2023 -بعد أن توقّعت الحكومة 1.8%-. وقد بلغت 0.2% للثلاثيّة الأولى من سنة 2024، ويَلوح افتراض الحكومة تحقيق 2.1% نسبة نموّ إقتصادي لكامل السنة الحالية صعب المنال نظرا إلى نتيجة الثلاثيّة الأولى. وتُبرز مؤشّرات النموّ الإخفاقات الاقتصاديّة للسّلطة السّياسيّة منذ الاستقلال، فقد ظلّت متذبذبة طيلة هذه الحقبة، وتَجرّ معها عجزا ماليّا مزدوجا (الميزان التجاري والحساب الجاري). وحسب المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، لم يتجاوز معدّل النموّ بين 2011 و2020، 0.58%. ولكن بعد 3 سنوات من إنفراد الرئيس سعيّد بالسّلطة دون أيّة معارضة برلمانيّة، تُبرز الحصيلة -مثلما تبيّنه المعطيات الواردة بالجدول- الأداء الاقتصادي المتردّي ووهم الشّعارات. حافظت ميزانيّة الدّولة على نفس الهيكلة ونفس مستوى العجز بـ -7.7%، كما حافظ حجم الاستثمار العمومي على مستوى متدنّ من الميزانيّة بـ6.7% متوقّعة سنة 2024، فيما سيوجّه حوالي ربع الميزانيّة لخلاص الدّيون. 

بعض المؤشّرات الاقتصاديّة المسجّلة بين سنة 2021 والأشهر الأولى من سنة 2024

المجال                السّنة2021 20222023توقّعات 2024
حجم الناتج المحلّي الإجمالي بالأسعار الجارية (مليون دينار)130 815,4 138 415,7150776.6———
نسبة الدين العمومي من الناتج المحلي79.9%79.9%80.2%79.8%
النموّ4.3%2.4%0.4%0.2% (الثلاثيّة الأولى بحساب الإنزلاق السّنوي)
عجز الميزان التّجاري )المليون دينار(16211-25231-17069-————-
عجز الميزانيّة-7.7%-7.7%-7.7%-6.6 ) %التوقّع السنوي)
البطالة%16.5%15.315.1%16.2% الثلاثي الأوّل
التضخّم5.7%8.3%9.3%7.4% (معدّل السّداسيّة الأولى)
احتياطي العملة الصّعبة131 يوم100 يوم121 يوم110 يوم (1 أوت 2024)
نسبة نفقات الاستثمار العمومي من حجم ميزانية الدولة8.2%7.6%6.6%6.7%
الضغط الجبائي23.3%24.7%24.9%25.1 %(التقدير السّنوي)

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء/ وزارة الماليّة “تقرير حول مشروع ميزانية الدّولة لسنة 2024” /وزارة الماليّة “تقرير حول الدّين العمومي، الملحق 7، مشروع قانون الماليّة 2024” 

بينَمَا يرفع الرئيس شعار “التّعويل على الذّات” شهدت نسبة الدّين العمومي من الناتج المحلّي الإجمالي شبه استقرار بحوالي 80% في السّنوات الأخيرة، ومن المتوقّع أن يبلغ حجم دين الدّولة نهاية السّنة الجارية 139976 م د مقابل 104298.2 م د في سنة 2021. أمّا اللاّفت للنظر، فهو اللّجوء المتزايد للاقتراض الدّاخلي الذي قفز من 31.5% في عام 2021، إلى قرابة 45% من إجمالي الناتج المحلّي للعام الحالي. حافظ الرّئيس على نفس نمط الإنتاج ونفس السّياسة التّوزيعيّة للثّروة، فالبطالة المرتفعة بقيت إحدى سمات النظام الاقتصادي القائم، وقد سجّلت 16.5%، وبأكثر حدّة في صفوف أصحاب الشهادات العليا بـ23.4% خلال الثلاثي الأول من 2024. وارتفع الضّغط الجبائي من 23.3% سنة 2021 إلى 25.1 مقدّرة للسّنة الحالية، ويتحمّل العبء الأكبر منه الأجراء سواءً عبر الاقتطاع المباشر أو غير مباشر عن طريق الاستهلاك.

السّمات الشعبويّة للإجراءات الاقتصاديّة للرّئيس

من الصعب إدراك المنطق الداخلي لشعبوية قيس سعيد في المجال الاقتصادي؛ هذه الشعبويّة تَحمل في طيّاتها مضامين إيديولوجيّة متناقضة بين خطاب يرتكِز على بعض المبادئ اليساريّة كالعدالة الاجتماعيّة ومناهضة العولمة وبين ممارسة إقتصاديّة يمينيّة وفاقدة للكفاءة. لقد عطّل أسلوب إدارته للدّولة إمكانيّة التّداول العقلاني للأزمة الاقتصاديّة المستفحلة التي يعتبرها إفرازا لمؤامرة وليس لخيارات سياسيّة. في هذا السياق قال سعيّد في خطابه بمناسبة ذكرى إعلان الجمهورية، أنّه سيُعِيد “الحقوق المشروعة للبؤساء والفقراء” ولكن إثر “الانتهاء من تفكيك شبكات الفساد ومحاسبة المجرمين”. إذا افترضنا أنه يقصد بالحقوق المشروعة العدالة الاجتماعيّة، فإنها تبقى من قبيل الخطاب الإنشائي الفاقد لما يُسندِه في الواقع. لكنّه لا يخرج عن مجاله الخطابي الحيوي المرتكز على حربه الهلاميّة ضدّ الفساد، في عمليّة ترويض ممنهجة لـ”الحشود القيسيّة” -نسبة لقيس سعيّد وفق تعبير أستاذ علم الاجتماع المولدي القسومي- التي تستبطن الخلاص الجماعي الشّامل في “تنظيف البلاد من المفسدين” وتتمثّل سَيل كلام رئيس الجمهوريّة على أنّه إنجاز فعلي.

في ظلّ غياب عرض أيّ برنامج إقتصادي، حاوَلنا قراءة الإجراءات الاقتصاديّة المَحدودة التي إتّخذها الرّئيس منذ تاريخ استحواذه على السّلطة. في مجال السياسة الماليّة للدّولة، تَمّت صياغة 3 قوانين ماليّة قائمة على نفس الخيارات القديمة في إطار سياسة التقشّف. وهَيكلة الميزانية ومنهجيّة التّخصيص هي نفسها لم تتغير، إذ سَهر على إعدادها الوزراء التّقنيّون التّابعون للجهاز البيروقراطي العتيق. في المقابل يُسهِب الرّئيس في الحديث على التأسيس لمنوال تنموي جديد قائم على “خلق الثروة وتوزيع عائداتها على جميع المواطنين على قاعدة العدل الاجتماعي”. أما بخصوص السّياسة النّقديّة، يبدو موقف رئيس الجمهوريّة من البنك المركزي أكثر ضبابيّة. فرغم أنّه إنتقد عدّة مرّات استقلاليّة البنك المركزي ومحدوديّة دوره الاقتصادي إلاّ أنّه لم يَقترح أيّة مراجعة قانونيّة سواء لاستقلاليّة البنك أو لهدفه اليتيم في مكافحة التضخّم. في مقابل ذلك، تمّ الالتجاء للبنك في بداية السّنة الحاليّة للحصول على قرض بقيمة 7000 مليون دينار في إطار مبادرة تشريعيّة من رئاسة الجمهوريّة لخلاص ديون خارجيّة. كما حافظ البنك المركزي على سياسة نقديّة صارمة بالإبقاء على نسبة الفائدة المديريّة في مستوى 8%. 

أمّا في المجال التّنموي، فتبدو الشّركات الأهليّة ذروة التصوّر الاقتصادي لقيس سعيّد وعنوان فشله في الآن ذاته. رغم مرور قرابة السّنتنين ونصف على صدور المرسوم عدد 15 الصّادر في 20 مارس لسنة 2022 المتعلّق بالشركات الأهليّة لا نملك معطيات دقيقة حولها لغياب التواصل الإعلامي بخصوصها. ما نعلمه فقط هو أنّه تمّ تأسيس 62 شركة، 18 فقط من بينها بَاشَرت مؤخّرا النشاط الفعلي. وما انفكّ رئيس الجمهوريّة يُرجع تعطّل هاته الشّركات إلى وجود عرقلة ممنهجة داخل الإدارة لإفشال مَشروعه التّنموي المنشود رغم سيطرته الفرديّة على السّلطة. وقد عوّل في مرحلة أولى على تمويل هذه الشّركات من عائدات الصّلح الجزائي إلاّ أنّ الفشل الذّريع الذي مُنِي به هذا المشروع إلى غاية اللحظة، دفعه إلى استحثاث البنوك بشكل متواصل على تمويل هذا الصّنف من الشّركات التي تظهر ك”بدعة إقتصاديّة” ولم تُنشأ كفكرة تنمويّة مبتكرة وإنّما نتيجة عمليّة سطو مشوّهة على فلسفة الاقتصاد الاجتماعي والتّضامني لخدمة مشروعه السّياسي القائم على البناء القاعدي. 

ما عدا ذلك، لم تقم السّلطة السّياسيّة بأيّة خطوة تمسّ من بنية الاقتصاد على مستوى علاقات الإنتاج والتّوزيع وعلاقات التّبادل الغير متكافئ، كممارسة حقيقيّة لخطاب السّيادة والتأسيس لمسَار تنموي مستقلّ قائم على الاعتماد على الذات لرئيس يضع نفسه -في خطاباته- على نقيض النظام العالمي. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني