"أبو خمس دقايق" هذا كان جواب الأمن العام على أحلام ديراني، عندما ردت على اتصال جاءها بتاريخ 27/11/2017، وطلب إليها أن تكون نهار الأربعاء 29/11/2017 في المركز الرئيسي للأمن العام مقابل العدلية ما بين الساعة 8.30 و9 صباحاً. إلاً أن هذه الخمس دقائق تحولت إلى حوالي ثلاث ساعات تعرضت فيها أحلام لتحقيق ضاغط، وارغمت بختامه على التوقيع على تعهد بعدم الإتصال بفلسطين. وإذ تجدد المفكرة احترامها للمديرية العامة للأمن العام كمؤسسة تقوم بدور هائل في لبنان وبخاصة في ظل الأزمة السورية، فإنها تنشر وقائع هذه الحادثة كما روتها "أحلام" أملا بتحقيق هدفين: تحسين أدائها في التحقيق مع المواطنين، والأهم التأكيد على عمق الروابط بين لبنان وفلسطين وأهميتها والتي لا بد من صونها بمنأى عن الحرب المشروعة ضد العمالة.
"عندما تبلغت الاتصال بضرورة التوجه إلى الأمن العام، طلبت تفسيرا حوله. فجاءني الرد "ما تعتلي هم شغلة بسيطة وعالسريع". فسألت إن كان يتوجب عليّ احضار محام، فأخبرني من تواصل معي ألاّ داع لذلك. فعبرت عن عدم إقتناعي بهذا الأمر فرد عليّ قائلاً: "معك حق، إذ ليس قانونياً أن أقوم بإبلاغك عبر الهاتف، اعطيني عنوانك كي أرسل إليك دورية". عندما نطق بهذه الجملة، عدت بالزمن إلى الوراء، إلى تاريخ عودتي من إيطاليا حين أخبرني ناطور البناية بعد شهرين أن الأمن العام سأل عني. يومها، اعتبرت أن الامر طبيعي كوني كنت قد أضعت جواز سفري هناك، ولكن الطريقة التي تم السؤال فيها عني حينها كانت على هيئة توزيع أقاويل بأنني "أهربّ" أشياء" وانتشرت الإشاعة في الحيّ الذي أسكنه منذ تسع سنوات. لذلك عندما لفظ تعبير دورية، شعرت بالخوف يعتريني فقلت له أنني موافقة على البلاغ الشفهي وأنني سأحضر في التوقيت المطلوب. أغلقت الخط، ثم اتصلت بعائلتي لأسألهم، إن كان من داعٍ أن أصطحب محاميا معي، فاستفسر والدي من قريب لنا يعمل بالأمن العام فأخبره ألا داعٍ لذلك، وأنها ستكون مجرد أسئلة تقنية وأنه لا يوجد أي تهمة موجهة لي وأن بإمكاني أن أذهب مطمئنة البال.
على هذا الأساس، اتجهت إلى المركز بالتاريخ المحدد. عند مدخل الأمن العام، أُخذ مني الهاتف وطلب مني من ثم أن أقف مع عدد من الشباب من أعمار مختلفة تتراوح بين 20 و30 سنة وعندما أصبحنا مجموعة من خمسة أشخاص أدخلونا. وحين وصلنا إلى مكاتب داخل المبنى، طلب مني شاب أن أنتظر في الخارج. بعدها أدخلت إلى مكتب فيه أربعة رجال يتبادلون أطراف الحديث. هنا دخلت وحدي لأن المكتب ضيق نوعاً ما وطُلب مني أن أقف إلى الحائط حيث أخذت لي صورة فجائية كما لو كنت من المجرمين، فشعرت بالغضب وسألت ماذا يحصل. فلم يجبني الشاب الذي التقط لي الصورة، فيما رد عليّ أحد الموجودين وهو يضحك أنه لا يعرف.
بعد ذلك، انتقلت إلى مكان ثانٍ، ثم مكان ثالث. وفي كل مرة كان هناك من يسأل المجموعة عن أسمائنا الخ.. في المكان الثالث، انضم إلينا شخص جديد، ثم جاء أحد أفراد الأمن العام ونظر إليه وسأله بنبرة حادة "إنت ليش عم تضحك وليه". في حين أن هذا الشخص لم يكن يضحك أبداً بل كان مذهولاً مثلنا جميعاً، تلعثم الشاب في الإجابة فقال له "ايه انقبر ما تضحك". هنا شعرت بصدمة كبيرة من طريقة التعامل. لكنني فهمت أنها محاولة لفرض وهرة معينة وتحديد مسار "القعدة" والانتظار. الى جانب هذا الشخص الغاضب، كان هناك عدد من المخبرين.
بعد حوالي نصف ساعة من الانتظار، طلب مني التوجه إلى إحدى الغرف ومررت برواق كان مقسما بشوادر من القماش. بين الفاصل والآخر، كان هناك أشخاص مصفدو الأيدي وضعت عصبات على أعينهم. دخلت إلى غرفة يوجد فيها طاولتان، الأولى كان يوجد عليه شاب سوري مصفد اليدين يجري التحقيق معه فيما جلست أنا إلى الطاولة الثانية وأمامي عنصر ربما من رتبة مؤهل. كنت أستمع إلى التحقيق مع الشخص الذي بجواري بكامل تفاصيله، كيف دخل إلى لبنان، وكيف تعرف عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى أحد الأشخاص الذي ساعده في تزوير أوراقه، وبقية تفاصيل حياته. وبعدها، تم اكتشاف أنه قاصر فشعر من يقوم بالتحقيق معه بالارتباك وتقرر طلب مندوبة أحداث وبدأت الاتصالات الخ…
إلى جانب الشخص الذي تولى التحقيق معي كان هناك ملف كبير لي. بدأ بالاستجواب وكان يتم التوجّه إليّ بأسئلة شخصية جداً على مسمع من الجميع. الأسئلة بدأت من اسمي وعمري ورقم هاتفي، عنوان منزلي، بريدي الالكتروني، وصفحتي على الفايسبوك. وقد أعرب المحقق عن تفاجئه بأنني لا أملك صفحة على الفايسبوك بحيث علّق قائلاً: "لاه شيلينا من المزح ما عندك فايسبوك؟ وكيف عايشة بلا فايسبوك؟".
ثم سأل عن أفراد عائلتي، ماذا يعملون بالتفصيل ومع من أعيش. أين ولدت، ومتى انتقلت إلى العيش في مكان آخر وماذا أعمل، وأخذ تفاصيل دقيقة عن أماكن عملي. ثم سألني إن كنت أسافر كثيراً، فأجبت بالنفي فردّ: "امبلا انت بتسافري كتير". والواقع أني كنت أسافر بالسنة الواحدة خمس مرات وقد لا أسافر بتاتاً. ثم طلب مني أن أسرد أسماء البلدان التي سافرت إليها منذ البداية وحتى اليوم، ومن أين أحضر التيكيت و وكالة السفريات التي أتعامل معها. سردت بالتفصيل سفراتي و أعلمته أني سافرت في سنة 2014 إلى الأردن وأخذت دورة تدريبية drama education مع معهد يدعى "القطان"، الذي له فرع مسجل في لبنان. في هذه الدورة أسافر 10 أيام إلى الأردن ثم أعود إلى لبنان وأقوم ببحث ميداني وآخر نظري وأرسله بواسطة الإيميل حتى يقوموا بتقييم ليضعوا علامات عليه ثم أعود في الصيف اللاحق لأتابع الدراسة.
وأثناء التحقيق، دخل "نقيب" يشارك بالتحقيق، مجرد أن نظر اليّ شعرت أنه يعرف كل شيء عني". أعادني "النقيب" في التحقيق إلى العام 2012 ومشروع كنت قد عملت عليه مع مسرح المدينة ودقق كثيرا في علاقتي بـ أشخاص عملت معهم مثل نضال الأشقر، وطبيعة الأنشطة التي قمنا بها. ثم طلب إلي الخروج من الغرف والعودة إلى الرواق حيث مكثت هناك نحو ثلث ساعة أنتظر. ثم نادوني مجدداً ودخل النقيب مجدداً وراح يسألني الأسئلة عينها. هناك أسئلة سألوني إياها مرات عديدة مثل جمعية "القطان" التي أتلقى ورشات تدريبية معها في الأردن، من يقوم بتمويلها؟ هل هي في "رام الله"؟ من مسؤول عنها؟ وفي أي سنة بدأت التواصل معها الخ.. وهنا دخلنا في تفاصيل أخرى يتعلق بسفري في هذا العام إلى إيطاليا حيث أضعت جواز سفري فكان التعليق "عنجد ضيعتِ باسبورك؟" "كيف ضيعتِ باسبورك؟".
أخبرت قصتي عن إضاعة جواز سفري نحو أربع مرات ولكن لم يصدقها المحققون. وفجأة تحول السؤال: "أنت بالصيفية ما رحتِ على فلسطين؟".
هنا بدأت تتضح الأمور بالنسبة إلي نوعاً ما وبتّ أدرك أن التهمة المفترض لها هي أنها ربما تكون قد زرت فلسطين. أجبت على السؤال بسؤال "كيف سأذهب إلى فلسطين وأنا ممنوع عليي؟ فرد عليّ النقيب:"لكن بتعرفي انو ممنوع تروحي عفلسطين؟ فأجبته "بنعم" وسجل ذلك. "سألني عندها إن كنت أعرف أنه ممنوع أن أبعت رسائل أو أن أتصل بأحد من فلسطين؟ فأجبته كلا فرد عليّ قائلاً: "بلى، القانون اللبناني يمنع"".
هنا حاولت الإستفسار أكثر عن الموضوع، فصرخ بوجهي وطلب مني ألا أرد. حاولت أن أشرح أني أعرف العديد من الفنانيين والمثقفين الذين يتصلون بفلسطين، فردّ علي بشيء من التحذير بأن "هؤلاء أشخاص "كبار" محميين ومدعومين، أما أنت فشخص غير مدعوم وأنا سأساعدك لأنك أتيت إلينا بينما غيرك لم يأت". ثم قال لي "أنا بدي مصلحتك: الاتصال بفلسطين ممنوع".
ثم قال لي "أني متهمة بالذهاب إلى فلسطين وأنني لم أفقد جواز سفري في ايطاليا بل تخليت عنه".
هنا أصبت بالصدمة ورحت أكرر النفي لهذا الأمر. ثم راح الاثنان يتبادلان طرح الأسئلة وأنا أعطي كل ما لدي من معلومات. وفي لحظة ما، طلب منيّ أن أكتب تعهّدا بعدم التواصل مع أي أحد من فلسطين وبعدم متابعة الدراسة التي أقوم بها. وطلب مني أن أوقع وابصم. كنت نصف مشلولة أثناء توقيعي على التعهد: "هل يعقل أنه لم يعد بإمكاني التحدث إلى أصدقائي وهناك أشخاص أتبادل معهم الكتب والدراسات، فهل بات عليّ أن أوقف كل شيء؟ في نفس الوقت، ظل ببالي سؤال ماذا لو لم أوقع على هذا التعهد، ماذا كان حل بي؟ هل سيحتجزونني مدة أطول؟ وإذا لم يكن ممنوعاً التواصل مع فلسطين كما قال لي البعض، فبماذا تلزمني ورقة التعهد؟ وما معنى "المسرحية" التي عشتها؟
بعدما وقعت على التعهد، خرج الإثنان من الغرفة وتركوني لبعض الوقت ثم رجعا وأخذا يسألانني عن أشخاص إن كنت أعرفهم أم لا. سئلت عن أشخاص فلسطينيين أعمل معهم. المرعب أني سئلت عن شخص تحدث إلي نهار الثلاثاء ليلاً حيث أرسل إلي عبر الواتساب بعد سنتين من الإنقطاع فشعرت بالفزع وأنه لا يوجد أي خصوصية لديّ".
ثم عدت وخرجت من الغرفة وانتظرت خارجاً مدة ثلث ساعة لتعود من بعدها سلسلة من الأسئلة الجديدة عن أشخاص أعمل معهم وأشخاص قطعت علاقتي بهم منذ سنوات.
وبعدما امتدت جلسة الاستجواب نحو ثلاث ساعات، قال لي "المحقق أن ثمة سؤالا هاما أخيرا يريد مني أن أجيب بصدق. بعد ذلك، صمت واستغرق وقتاً كي يطرح السؤال علي. وإذ سألته: ما هو؟ أجاب "عنوان بيتك". وأنا كنت قد أعطيته العنوان قبلاً خمس مرات فأعدت عليه العنوان فرد علي: "عنوان بيتك الحقيقي". هنا نظرت إليه بذهول. وانتفضت غيظاً وبدأت بالصراخ، فصار يحاول تهدئتي قائلاً "مش إنت دارسة مسرح وتمثيل؟ روقي روقي". حاول تهدئتي وأنا أصف له ما يحيط ببيتي".
عند عودتي إلى المنزل، شعرت أني منهكة. بعد ذلك، وطوال أيام، كان نومي مزعجاً مليئاً بالكوابيس. فقد شعرت بأنني مكشوفة exposed وكأن هناك دخلاء يعيشون معي في بيتي، وأنني مراقبة طوال الوقت. ما عشته كان نوعا من الضغط النفسي القوي جداً وقد أخذت وقتاً كي أستوعبه. بقيت ثلاثة أيام أحسب خطواتي وإذا تحدثت مع أحد عبر الهاتف أفكر فيما أقوله وإذا خرجت من منزلي ليلا أتلفت من حولي كي أرى إن كان أحد يتبعني".
اللافت أنه في موازاة إخضاع "أحلام" لتعهد بالامتناع عن الاتصال بفلسطين، كان وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل يغرد بتاريخ 27 كانون الأول 2017 مطالباً بإنشاء سفارة لـ لبنان بفلسطين. وهذا يعني أن التواصل مع فلسطين هو غير ممنوع الأمر الذي غاب عن أذهان المحققين في الأمن العام. ولمزيد من التأكد حول قانونية الإتصال بدول فلسطين، اتصلنا على رقم 100 التابع لشركة أوجيرو وقمنا بسؤال عامل الهاتف إن كان بالإمكان أن يساعدنا بالاتصال على رقم من داخل فلسطين فأجاب بنعم وطلب منّا الرقم. وقد أوضح لنا أن الأرقام التي تبدأ بكود 00972 تعود لشبكة اتصالات إسرائيلية ويمنع الاتصال من خلالها وأنه بالمقابل، يعود لأي شخص الاتصال بفلسطين طالما أن الرقم المستخدم يبدأ بكود الاتصالات 00970 الذي يعود الى شبكة الاتصالات الفلسطينية.