مازالت آلة استهداف المحامين النائبين في المحاكمات السياسية مستمرّة، خصوصا في ما يعرف بقضيّة “التآمر”. يأتي ذلك بالتوازي مع تمديد قاضي التحقيق في مدّة الإيقاف التحفظي للمعتقلين السياسيين في هذه القضية، ودخولهم تباعا في إضراب جوع احتجاجي أعقبتْه موجة تضامن معهم. كما يأتي ضمن سياق توسّع دائرة استهداف الفاعلين السياسيّين والمدنيّين إجمالا، ومن بينهم زعيمة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي التي صدرت في حقّها بطاقة إيداع في السجن. آخر حلقات الاستهداف هو قرار الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف بتونس بإحالة عضوتيْ هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيّين المحاميتيْن دليلة بن مبارك مصدّق وإسلام حمزة، على التحقيق على خلفية تصريح إذاعي لكلّ منهما بشأن مستجدّات القضيّة. ينضاف ذلك إلى برمجة استنطاق عضو الهيئة الأستاذ العياشي الهمامي، يوم 10 أكتوبر 2023، من طرف قاضي التحقيق المتعهد بالقضيّة ذاتها بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب.
سياسة الإحالات ضدّ المحامين في هذه القضية وفي القضايا السياسيّة عموما ليست مستجدّة. فخلال شهر ماي المنقضي، أحيل عضو الهيئة الأستاذ عبد العزيز الصيد على التحقيق إثر إعلانه في ندوة صحفية تقديم شكاية جزائية ضد وزيرة العدل ليلى جفال من أجل التدليس المادي. كما أُحيلت، خلال شهر جوان المنقضي، عضوة الهيئة الأستاذة إسلام حمزة إثر شكاية من الهيئة العامة للسجون على خلفية تصريح إذاعي لها حول “سيارة التعذيب” التي يتم اعتمادها لنقل الموقوفين في القضية.
تزيد التتبّعات الجزائية ضد المحامين على خلفية ممارسة أعمالهم في إضعاف ضمانات المحاكمة العادلة عبر الاعتداء المركّز على حق الدفاع وبالخصوص عبر محاولة إعاقة ممارسته وتقييد نطاقه. كما تمثّل هذه التتبّعات اعتداء على حرية التعبير أيضا، التي باتت تواجه سيف المرسوم عدد 54 الذي يقوّض بصفة جوهرية ضمانات ممارستها.
استهداف ممنهج لهيئة الدفاع
انطلقت التتبعات الجزائية ضد المحاميتيْن إسلام حمزة ودليلة بن مبارك على خلفية تصريحات صحفية بشأن مستجدات القضية وخلفياتها السياسية. تحدثت حمزة، في حوار إذاعي بتاريخ 28 سبتمبر 2023، عن دور السلطة السياسية في إعداد هذا الملف، وهو الظاهر واقعيًا، وحتّى إجرائيّا بما أنّ وزيرة العدل هي من تولّت تعهيد النيابة العمومية لانطلاق التتبعات خارج الضوابط الإجرائية، فضلا عن دور رئيس الدولة العلني والصريح سواء قبيل انطلاق التتبعات أو خلالها، عبر تصريحاته على هامش اجتماعات عقدها مع وزراء ومسؤولين في وزارة الداخلية. كما جدّدت حمزة الحديث عن إقحام دبلوماسيين أجانب في هذا الملف، وهو المعطى المعلوم بداية والذي أكدته النيابة العمومية بنفسها في بلاغ لها بتاريخ 1 أفريل 2023 برّأت فيه الدبلوماسيين من أي جُرم، وهو ما اعتبرته هيئة الدفاع وقتها، منطقيّا، صكّ تبرئة للمعتقلين المتّهمين بالتآمر معهم. كما أشارت المحامية دليلة بن مبارك بدورها، في تصريح إذاعي في 29 سبتمبر 2023، إلى موضوع الدبلوماسيين، مبيّنة الخلفية السياسية للقضية بالخصوص عبر دور وزير الداخلية السابق في إعدادها.
جاءت هذه التصريحات توازيًا مع دخول القضية منحى جديدًا ببدء المعتقل جوهر بن مبارك إضراب جوع مفتوح منذ 26 سبتمبر، تبعه في 29 سبتمبر رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الموقوف في قضايا سياسيّة أخرى، ثمّ بقية المعتقلين الخمسة في قضية التآمر وهم غازي الشواشي وعصام الشابي وخيام التركي وعبد الحميد الجلاصي ورضا بالحاج احتجاجًا على “المهزلة القضائية”. وكانت هيئة الدفاع، أيضًا، قد أعلنت تقديم مطلب لقاضي التحقيق لسماع ثمانية دبلوماسيين أجانب[1] على ضوء تبرئتهم في البلاغ الصادر من النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، ودفعًا لكشف الحقيقة واستجلائها في قضية تتضمّن تهمًا خطيرة تصل عقوبتها للإعدام.
بذلك، تعدّ إحالة الأستاذتين حمزة وبن مبارك ردّا فوريّا من السلطة السياسية على هذا التصعيد، أي إضراب الجوع ومطلب سماع الدبلوماسيين، خصوصًا وأنّ مضامين تصريحات المحاميتيْن ليس مستجدّا، بل سبق وتمّ ترديده في عديد المناسبات سواء من بقية أعضاء هيئة الدفاع أو من ناشطين متضامنين. بذلك تستهدف الإحالتان تقويض حقّ الدفاع عبر محاولة بثّ مناخ من الإرباك وتشتيت الانتباه في صفوف فريق الدفاع، خصوصا في ظلّ صلابة سردية الهيئة التي كشفت الخلفية السياسية للقضية وعدم جديّة مضمونها، أمام الرأي العام المحلي والدولي.
انفضاح حقيقة ملفّ التآمر أمام الرأي العامّ هو الذي أحرج السلطة السياسية التي دفعت نحو إصدار قاضي التحقيق لقرار بمنع التداول الإعلامي في القضية، لا سند قانوني له ويتعارض مع حريات التعبير والإعلام والنشر والحق في النفاذ إلى المعلومة والرقابة المجتمعية على أعمال القضاء خصوصا في قضايا الرأي العام. وهو القرار الذي تمّ تجاوزه عمليًا، من عدد هامّ من المتدخّلين من سياسيين وحقوقيين وصحفيين، الذين تمسكّوا بممارسة الحريات. بل أنّ مواصلة التداول شملت أيضًا الناشطين والمعلقين الصحفيين المؤيدين للسلطة الذين تجاوزوا ذلك إلى حدود نشر مقتطفات مدلّسة من أوراق القضية بغية الإيهام بوجود سند في اتجاه الإدانة.
ولم تُثرْ النيابة في الأشهر الماضية أيّ تتبّع على خلفية التداول الإعلامي في ما وجِب تسميّته قضيّة “تآمر الدولة على المعارضة”. تاليًا تأتي الإثارة ضدّ المحاميتيْن حمزة وبن مبارك، مع الإشارة في تقرير معاينة تصريحاتهما بأنهما تداولتا في قضية صدر بشأنها قرار بمنع التداول، لتُبرز حقيقة تمييز النيابة في إثارة التتبعات بحسب مضمون ما يتم تداوله والجهة الصادر عنها التداول. وهو ما يعزّز التقدير بأنّ قرار المنع لم تكن غايته، منذ البداية، إلاّ منع استعراض الخروقات والانتهاكات في القضية والحيلولة دون تبيان خلفياتها ومظاهر غياب ضمانات المحاكمة العادلة بشأنها.
المرسوم 54 وقانون حماية المعطيات الشخصية: العصا المعوجّة
مجدّدًا، استندت الوكالة العامة لمحكمة الاستئناف بتونس على المرسوم عدد 54 لإحالة الأستاذتيْن بن مبارك وحمزة التي كانت أُحيلت، في جوان الفارط، على أساسه أيضًا، والذي تصل عقوبته للسجن لمدة 10 سنوات إذا كان “الشخص المستهدف” موظفا عموميّا. يشي الإصرار على طلب تطبيق هذا المرسوم، بالرغم من كلّ الانتقادات الحقوقيّة له، على حقيقة توظيفه من السلطة السياسية وأدواتها القضائية لتقييد حرية التعبير، وبالأخصّ ما يندرج منها ضمن حقّ الدفاع الذي يشمل عرض الانتهاكات في المحاكمات السياسية. في الأثناء، ليست سريّة التحقيق بمسوّغ للتقييد باعتبار أن هذه السريّة هي ضمانة في إطار منظومة متكاملة للمحاكمة العادلة، والتي إن اختلّت في أسسها على غرار استقلال القضاء وتدخّل السلطة السياسية إجرائيًا وواقعيًا في القضية، يصبح التعلّل بالسريّة غير ذي معنى إلاّ في سياق التغطية على خلفية المحاكمة السياسية وبراهين فبركتها.
واللافت في الإحالة المستجدّة لبن مبارك وحمزة هو الاستناد على الفصل 13 من قانون حماية المعطيات الشخصية لعام 2004 والذي يحجّر معالجة المعطيات الشخصية المتعلقة بالتتبّعات الجزائية [1] والذي يُعاقب على مخالفته بالسجن لمدة عامين وبخطية قدرها عشرة آلاف دينار. وقد ذكرتْ المحاميتان في تصريحاتهما حقيقة إقحام دبلوماسيين بأسمائهم وصفاتهم في الملفّ مع الإشارة بداهة لأسماء المعتقلين السياسيين. المعطى الشخصي، في الأثناء، هو البيان الذي يجعل الشخص معرّفًا أو قابل للتعريف باستثناء المعلومات المتصلة بالحياة العامة أو المعتبرة كذلك قانونا. ولا يعدّ بذلك ذكر الدبلوماسيين صفة أو حتى إسمًا معطى شخصيّا بل من قبيل المعطى العام. بل والطريف أن هيئة الدفاع نشرت بلاغًا تضمّن أسماء الدبلوماسيين وصفاتهم بمناسبة تقديم مطلب لسماعهم، أي أكثر مما ورد في التصريحات الإذاعية، بما يعني أنه، وفق نفس التمشي، كان على النيابة إثارة التتبع ضد جميع أعضاء هيئة الدفاع. يتبيّن بذلك مجددّا الجانب التعسفي، كثبوت عدم حياد النيابة العمومية بعدم إثارة التتبعات ضد المعلقين الصحفيين الداعمين للسلطة الذين احترفوا نشر معطيات من القضية. لم تكن الإحالة بالاستناد إلى قانون المعطيات الشخصيّة إلاّ محاولة لاستنطاق تعسّفي لنص قانوني بغية إثقال قائمة التهم. أمّا الأكثر طرافة، فهي الإشارة إلى أسماء المعتقلين أنفسهم كمعطيات شخصية تمّ انتهاكها. والحال أنّ أسماءهم معلومة ومتداولة ولا تستوعب مفهوم المعطى الشخصي في النطاق التجريمي للقانون، وأنّهم في هذا الملفّ بالذات ضحايا السلطة ذاتها التي تدّعي الحرص على حماية معطياتهم.
مجددّا، “التسريبات” تسبق الإجراءات
كما في التقاليد الجديدة التي تعوّدنا عليها في جلّ التتبعات المثارة ضد الشخصيات العامة في المعارضة أو لسان الدفاع، كان أوّل من نشر خبر إثارة التتبعات ضدّ إسلام حمزة ودليلة بن مبارك، هو أحد المعلقين الصحفيين المؤيدين للسلطة، المعلوم بقربه من كواليس العمل القضائي، وذلك على مواقع التواصل الاجتماعي وقبل العلم الشخصي لرئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس (طبق إجراءات المرسوم المنظم لمهنة المحاماة) والمحاميتيْن المعنيّتيْن بالتتبع. إذ أكّد رئيس الفرع الأستاذ العروسي زقير في تصريح إذاعي، أنه جرت العادة أن يتمّ إعلام الفرع عن طريق الفاكس في التوقيت الإداري، بيد أنّ الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف كانت مستعجلة لمباشرة إجراءات التتبع إلى درجة تركها مراسلة الإعلام الرسمي للفرع بعد التوقيت الإداري تحت باب مقرّ الفرع. وهو ما يطرح السؤال حول هذه السرعة القياسية ودوافعها.
ويؤشّر هذا التتبع المزدوج لعضوتيْن في هيئة الدفاع عن مواصلة الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف بتونس، في الأثناء، في سياسة التتبعات ضد المحامين الحقوقيين وذلك بعد الحركة القضائية الأخيرة التي تضمّنت تسمية رئيس أول ومساعدين أول، وهي الحركة التي أكدت وضع السلطة السياسية يدها على القضاء عبر تكريس قضاء الموالاة.
في هذا السياق، ذكر رئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس تلقي الفرع 330 إعلامًا بفتح بحث تحقيقي ضد محامين في ظرف عام واحد فقط.[2] وهو عدد وإن كان يتضمّن إحالات من أجل ارتكاب جرائم حق عام، فإنّ ارتفاعه يعود أساسًا إلى تصاعد الإحالات في علاقة بأعمال المحامي بمناسبة قيام بمهنته. لا يتعلّق الأمر فقط بالإحالات المتتابعة للمحامين النائبين في القضايا السياسية، وإنّما أيضا بالتتبعات المثارة بناء على تقارير مرفوعة من باحث البداية ضدّ المحامين أثناء أداء مهامهم في السماع في البحث الأولي، وهي الصورة التي تحدث عنها رئيس الفرع زقير في تصريحه الإذاعي المذكور. وهو ما يبيّن أن مكسب حضور المحامي في سماع المظنون فيه وذلك منذ إصدار القانون عدد 5 لسنة 2016 المنقّح لمجلّة الإجراءات الجزائيّة، مازال يلاقي عراقيل لم تعد تنحصر فقط في الصعوبات اليومية في ممارسة هذا الإجراء، بل باتت تمتدّ إلى إحالة المحامين أنفسهم على التحقيق على أساس تقارير من باحث البداية. يعني ذلك تعزيز سطوة الفاعل الأمني وعرقلة حق الدفاع وهرسلة المحامين، وكلّ ذلك في سياق يعزّز إضعاف ضمانات المحاكمة العادلة.
ختامًا، إذا ما كانت إحالة محاميتيْن من هيئة الدفاع في قضية “التآمر” على التحقيق، إضافة إلى سماع عضو آخر في الهيئة في القضية ذاتها، غايتها ترهيب المحامين وإسكاتهم، فإنّ هيئة الدفاع أكدت على أنّ هذه الإحالات “لن تزيدها إلا ثباتًا وإصرارًا على القيام بواجب الدفاع على أكمل وجه، وإصرارًا على الاضطلاع بدورها في حماية الحقوق والحريات”[2].
[1] هم ماركوس كورنارو “MARCUS CORNARO” سفير الإتحاد الأوروبي، وارديزون قوليارمو “ARDIZONE GUILLERMO” سفير أسبانيا، أوندري باران “ANDRE PARRANT” سفير فرنسا، هاذر كالباخ “HEATHER KALMBACH” مسؤولة العلاقات السّياسية بسفارة الولايات المتّحدة الأمريكية وناتاشا فرانشيسكي “NATASHA FRANCESCHI” الموظّفة بسفارة الولايات المتّحدة الأمريكية، ولورينزو فانارة “LORENZO FANARA” السفير السّابق لإيطاليا وفابريتسيو صادجو “FABRIZIO SAGGIO” السفير الحالي لإيطاليا وأوليفي بوافرو دارفور “OLIVIER POIVRE D’ARVOR” السفير الأسبق لفرنسا (وفق بلاغ لهيئة الدفاع بتاريخ 29 سبتمبر 2023).
[2] بلاغ لهيئة الدفاع بتاريخ 30 سبتمبر 2023.