وَاكبَت وسائل التواصل الاجتماعي مختلف التطوّرات في الحياة السياسية، خلال فترة الثورات في المنطقة العربية وما بعدها، وخَلَقت منصّات للتداول الإعلامي والتحشيد الجماهيري في عدد من المناسبات. ولَعِب بعضها دورا في صياغة عدد من المراجعات الفكرية والتنظيمية لعدد من التيارات السياسية، أو شَكّلَ واجهة لعملها. وليس من باب المصادفة أن يُطلَق على الثورة التونسية في بداياتها “ثورة الفايسبوك” لمَا لعبته هذه المنصة من دور هامّ في نشر الأفكار وتبادل الرؤى زمن قمع السلطة الاستبدادية للإعلام الحر وخضوع كافة المنصات الإعلامية لأعين الرقيب أو مقصّه إن اقتضى الأمر.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت بروز وسيلة خاصّة من وسائل التواصل الاجتماعي، وهي منصة “تيكتوك” الصينيّة المنشأ، والتي لقيَت رواجًا لدى عدد من الفئات العمرية، ومن بينها فئة المراهقين والشباب عامة. عدد من هؤلاء كانت تستهويه “المعارك الجانبية” سواء الحقيقية أو المفتعلة لعدد من المؤثرات والمؤثرين، والتي أصبحت حديث الساعة لديه وشغله الشاغل. ولئن اتّسع نطاق المتابعة على مرّ السنوات ليَشمل فئات عمريّة أعلى من بين فئة الكهول، سواء من بين الموظفين أو من بين ربّات البيوت، أصبِحَ التيكتوك ساحة للتأثير في المجال العام، خصوصا في السنتين الأخيرتين التي ألقى فيها المرسوم 54 تبعاته على التدوينات الفايسبوكية بشكل رئيسي، ليتراجع النشر والتفاعل على هذه المنصة التي أصبحت “متقادمة” نوعا ما لدى جمهور المستهلكين ولا تواكب آخر صيحات “الترند” على عكس بعض المنصات الأخرى.
وبذلك، أضحى التّيكتوك أداة دعائية تستخدمها السلطة وروافدها كوسيلة مُستحدثة للهيمنة السياسية والثقافية الواسعة بقليل من الجهد الفكري، مع سرعة انتشار كبيرة تعتمد على الخوارزميات التي تُقدّم لكل متلقٍّ ما يرغب فيه تحديدا.
التيكتوك بين السياسي والرقمي
“إعلام من نوع جديد”، هكذا يُوصَف التيكتوك من قبل الكثيرين، حيث تَستحيل الخوارزميات والمعلومات من مجرد وسائط رقمية إلى عناصر قائمة الذات، تُشكّل جانبا من التفاعلات والعلاقات الاجتماعية وتتخلل مختلف جوانب الحياة اليومية. مِثل هذا الاستنتاج دَفعَ عددا من علماء الإنسانيات على غرار جون نيغل ثريفت[1] إلى الحديث عن “اللاوعي التكنولوجي”، أو الفضاء المُحوّل الذي تتحكّم فيه بنية تكنولوجية معقدة، تتنبأ تمامًا بما يريدُه المستهلك أو المتلقّي، وتقع منصة التيكتوك في قلب هذه التحولات لما امتلكته من خصائص مؤثرة عديدة.
على المستوى الوطني، عرفت المنصة تزايدًا في المتابعة والاهتمام منذ فترة الكوفيد، وبخاصة خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وقد تمَّ استغلال المنصّة بشكل كبير من قبل أنصار الرئيس، لنشر أفكارهم عبر عدد من الفيديوات، خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
تنوَّعَت وسائل البروباغندا السياسية عبر تيكتوك واتّخذت عديد الأشكال للتأثير في الشرائح المُستهدفة وبالأخص منها الشرائح الشعبية. إذ يزخر التطبيق بأجزاء مُقتطعة من “مُداخلات” الرئيس، حول موضوع ما، وإقحَام مؤثرات سمعية أو بصرية تُوحي بشيئ من الأهمية لما يُقال، مع وضع عنوان يُضخّم الفكرة المُرَاد تمريرها. وتتخذ بعض الفيديوات على التيكتُوك شكل مُداخلات من بعض المدونين أو الأشخاص المساندين للرئيس بلغة مُشبعَة بالتهديد والوعيد، وكأنها مُحاكاة من درجة أدنى، أو تنزيل لمعجم سياسي يتمّ استعماله بكثرة في الوضع السياسي الراهن.
انتشر أيضا شكلٌ آخر من الفيديوات يعتمد على نقل بعض “التدخّلات الرئاسيّة” مشفوعة بشيء من الموسيقى الشعبية، التي تختلف باختلاف الجمهور المُتلقّي للفيديوهات وذائقته. بل وتَعتمد أحيانا حتى على تنويعات من الموسيقات المحلية في محاولة للاقتراب من شتّى الشرائح، بين الموسيقى المنتشرة في الجنوب التونسي والموسيقى التقليدية للشمال الغربي على سبيل المثال. كما اتّخذت بعض الفيديوات شكلا أكثر طرافة، حيث يتم الاعتماد على تركيب فيديوهات غير حقيقية للرئيس مثلا وهو يحتفي بفوزه في الانتخابات بطريقة كوميدية. وقد لاقَت نسبة كبيرة من هذه الفيديوات انتشارًا واسعا، حيث يُسجّل بعضها أحيانا مئات الآلاف من المشاهدات وعشرات الآلاف من تفاعلات الإعجاب ومئات أخرى من التعليقات.
كما يُساهم نشر بعض هذه الفيديوهات، في دوائر المتلقين المُباشرة عبر الرسائل الخاصة أو المُشاهدة الجماعية لها في المقاهي أو في بعض المناسبات العائلية، في إحداث أثر أقوى على مستوى دوائر القرب.
وفي سياق مُشابه، بدأ هذا المحتوى المُساند للمنظومة الحاكمة بشكل عامّ يتمدّد من صنع المحتوى المعتمد على الخطابات والمداخلات الرئاسية بشكل عامّ إلى تمجيد عدد من أجهزة الدولة الصلبة وإعادة استحضار خطاب “هيبة الدولة” القديم الذي بات يقدّم بشكل أقلّ ثقلا من الأشكال النمطية و”الرسمية” للإعلام التقليدي، حتى يُصبح أكثر تَقبّلاً من الناحية الشعبية. وفي منحى آخر، بدأ استعمال التيكتوك كأداة جديدة للدعاية لدى بعض مراكز القوى السياسية المُساندة للرئيس، سواء على المستوى العائلي (الظهور المتكرر لزوجة الرئيس في عدد من الفيديوات المُنتشرة بأسلوب يُعزز من أهمية دورها) أو حتى أحيانا لبعض الوجوه السياسية ضمن المنظومة الحاكمة سواء وزراء أو نواب في البرلمان أو ولاّة (على غرار والي بن عروس الأسبق عز الدين شلبي).
وفي المقابل يَشهد المحتوى المعارض للرئيس انتشارا متواضعا على هذه المنصة مقارنة بالطرف المقابل، بحيث ركّزَت الأحزاب السياسية سابقا على الصفحات الفايسبوكية ووسائل التواصل الاجتماعي الأقدم، ولم تواكب الأثر السريع الذي أحدثته المنصّة المنافسة. كما أن مناخ التخويف والخشية من الالتجاء إلى تأويل قانوني مشدد لبعض النصوص ومن بينها المرسوم 54 وعدد من فصول المجلة الجزائية (الفصل 226 و226 مكرر) ومجلة الاتصالات، دفعَ الكثيرين إلى عدم المجازفة بنشر فيديوهات قد تَجلب لهم المساءلة القانونية فيما بعد.
وقد ازدادت هذه المخاوف بعد بيان وزارة العدل الأخير الذي نددت فيه بما اعتبرته محتويات مخلّة بـ”الآداب العامة”، وقد تبعته سلسلة اعتقالات لعدد من المؤثرات والمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي، وبخاصة في التيكتوك.
الهيمنة على التيك توك امتداد للهيمنة على الفضاء العام
لا يخفى التأثير الكبير لمنصة التيكتوك على عقل المشاهد ومستهلك الفيديوات، وهو تأثير قد يتعدى مثيله لدى بعض وسائط التواصل الاجتماعي الأخرى، مما جعل البعض يصفه بـ”عقل التيكتوك tik tok brain”[2] الذي يُبنَى على الإشباع الفوري وتكرار نوعية المقاطع المُتشابهة، وهو ما يُفرز حالة شبيهة بالإدمان لهذه النوعية من الفيديوهات. ومثل هذا التأثير يتصاعد عند الفئات الشبابية خاصة، من بين جيلي “زاد” و”ألفا”.
هذه الفاعلية التي تتمتع بها هذه المنصة والرهان الواضح عليها سياسيا، قد دفع بالسلطة إلى الإسراع نحو إحكام السيطرة عليها وإبعاد كل منافس لها في الانتشار هناك، مهما كان المحتوى الذي يُقدمه. فبعد إيقاف خمس من المؤثرات والمؤثرين، تم إصدار عدد من الأحكام السجنية التي شملت أربعة من بينهم، حيث بلغ أقصاها أربعة سنوات ونصف لأحد صناع المحتوى الموقوفين، في حين تراوحت بين سنة ونصف إلى ثلاثة سنوات ونصف بالنسبة للبقية. وهذه الإجراءات التي اتخذت “اللبوس الأخلاقي” تتزامن مع تضييقات أخرى على عديد الأصوات المعروفة بجرأتها في انتقاد المنظومة الحالية. مما يُفصح عن سياسة واضحة لاحتكار المشهد العام تماما عبر التطويع وغلق كل محاولة لتقديم وجهات نظر وآراء مختلفة، سواء داخل المؤسسات الإعلامية أو ضمن وسائل التواصل الإجتماعي.
وبغضّ النظر عما يُمكن أن تُوصف به منصة التيكتوك من ترويج للمحتوى المُثير للجدل أخلاقيا أو قيميّا، فهذا لا ينفي ما لهذه المنصة من إيجابيات، عبر تبسيط وتفسير بعض المعلومات لدى شرائح واسعة من غير المُتخصصين، أو نشر مواقف مُساندة لعدد من القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وسط التضييقات المتتالية التي تقوم بها منصات وسائط التواصل الاجتماعي التابعة لمجموعة “ميتا” المنحازة بشكل صارخ للأطروحة الصهيونية والمُقَيِّدة بشكل مكثف للمحتوى الفاضح لانتهاكات الاحتلال بدعوى أنها محتويات “معادية للسامية”. وهذه المساحة التي وفّرَها تيكتوك في هذا المجال، فضلا عن اعتبارات أخرى قد حدا ببعض الدول لمحاولة تقييد محتويات المنصة أو حظرها جزئيا أو كليا في بعض الدول الغربية خصوصا.
وحتى اعتبار التيكتوك ك”مصدر للتفاهة” مثلما ينتقده كثيرون، ودوره في تجيير النقاشات الاجتماعية والسياسية الحقيقية التي سادت في مراحل سابقة نحو اهتمامات سطحية قد تتنافى مع بعض المعايير القيمية أو الاجتماعية، لا ينبغي أن يُسوّغ اتخاذ سياسة عقابية وزجرية تتجاوز مبدأ التناسب، وتُصبح أداة إضافية لدى السلطة السياسية للنيل من الحقوق والحريات عبر عديد التأويلات المُشطة، مثلمَا وقع في الإيقافات الأخيرة. فـ”صناعة التفاهة” بشكل ما هي وجه سلبي لموقع التيكتوك، من بين أوجه أخرى، ليس أقلّها نشر البروباغندا السياسية التي تُحبذ الوسائط المُبسطة والاختزالية لتمرير جملة من المغالطات، عوض تقديم خطاب سياسي متين يمتلك مضامين واضحة ودقيقة، ويحترم الوعي المواطني بالأساس. والسعي لاحتكار المنصة من قبل الخطاب الشعبوي المعتمد على عديد الاستراتيجيات مثل التلاعب في الخطاب والتضليل المعلوماتي أو التحريض والإقصاء العدائي يمثل أيضا خطرا على قيم التعايش والمواطنة واحترام الحقوق والحريات وكرامة الذات البشرية.
[1] Thrift, N. (2004a) ‘Remembering the Technological Unconscious by Foregrounding the Knowledges of Position’. Environment & Planning D:Society and Space 22(1): 175–190.
وحول مفهوم الفضاء المحول يمكن العودة كذلك إلى: كتاب علم الاجتماع الرقمي: منظورات نقدية، تحرير كيت أورتون-جونسون وبريور، ترجمة هاني خميس أحمد عبده، سلسلة عالم المعرفة، العدد 484، يوليو 2021 ص 85.
[2] John Guardiani, Tik tok Brain: the declyning attention spans of our kids, Philadelphia integrative psychiatry