
وقفة مساندة لتحرير الأسرى الفلسطينيين يوم 26 جانفي في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة.
المصدر وكالة الأناضول للأنباء
“تتجلى الأزمة في أن القديم يحتضر، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد بعد، وفي الأثناء تظهر أعراض مرضية”، هذه هي المقولة المعروفة للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي وقد استعادتها المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيزي إلى الوضع حاليا في الشرق الأوسط، وذلك ضمن مداخلتها أمام عدد من الطلبة وبعض الحضور الآخرين في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس يوم 21 جانفي الحالي، وهي تسردُ بتأثر شديد مختلف الانتهاكات التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي إلى حدود الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز النفاذ يوم الأحد 19 جانفي. ولم تُخفِ المسؤولة الأمميّة أثناء حديثها ما لمستْه من تعاطف صادق وواسع للشعب التونسيّ مع تطوّرات الوضع في الأراضي المحتلة منذ السابع من أكتوبر 2023 بالمقارنة مع عدد من الدول العربية الأخرى مع التلميح إلى انتظارها مجهودا أكبر من التونسيين في دعم حملات مقاطعة العلامات التجارية الدولية المُساندة للاحتلال الإسرائيلي، وفي اتخاذ مواقف أكثر نجاعة من الدولة، ومن بينها إمكانية انضمام تونس إلى دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية.
مثل هذه الملاحظة المُنادية بضرورة ترجمة المواقف الخطابية المساندة للقضية الفلسطينية في تونس إلى أنشطة أكثر تأثيرا وحسمًا، يُقابلها كذلك مطالب لقطاعات شعبية متنوعة باتخاذ مواقف رسمية أكثر وضوحا من مسألة تجريم التطبيع على سبيل المثال، وهي المسألة التي كانت مثار جدل عامّ واسع خلال السنتيْن الفارطتيْن.
مساندة خطابية رسمية يغيب عنها الفعل الدبلوماسي
أعلنت وزارة الخارجية التونسية في بيان لها يوم 17 جانفي عن تثمينها التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وتجديد الخارجية لتأكيد موقفها المبدئي والثابت “الداعم لنضالات الشعب الفلسطيني ولحقّه التاريخي المشروع في إقامة دولته المستقلة على كامل أرضه وعاصمتها القدس الشريف” وجددت دعوة المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤوليته في وضع حد نهائي لعربدة من “لا عهد له” (في إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي) وأن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار “لا يجب أن يحجب عن مناصري الحقّ والعدل في العالم مسؤولية مواصلة ملاحقة مسؤولي الكيان المحتلّ لمحاسبتهم على ما ارتكبوه من جرائم إبادة وتنكيل جماعيّ ضدّ الشعب الفلسطيني الشقيق”.
نفس الموقف، وبنفس اللهجة كان حاضرا أيضا في مداخلة المندوب الدائم لتونس لدى منظمة الأمم المتحدة بنيويورك، طارق الأدب خلال جلسة مجلس الأمن حول الوضع في الشرق الأوسط التي انعقدت يوم الاثنين 20 جانفي بحيث أكد على عدم القبول ب “أن تظل قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة والآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدوليّة دون تنفيذ، مع مواصلة سلطات الاحتلال لنفس الجرائم والانتهاكات التي اعتُمدت من أجلها تلك القرارات”.
يبقى تجسيم هذا الموقف الرسمي المأخذ الرئيسي على الدبلوماسية التونسية. ففي الوقت الذي أعلنت فيه إيرلندا طلب التدخّل في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية يوم 14 جانفي الحالي، نجد أنّ الدولة التونسية لم تقمْ بالمقابل إلى الآن بالانضمام إلى هذه المبادرة. ويُعدّ طلب التدخل في القضية كطرف ثالث مفيدا جدا في اقتراح وسائل وطرق إضافية للتأويل القانوني التي يُمكن لمحكمة العدل الدولية تفسير اتفاقية الإبادة الجماعية بها. فقد قدمت إيرلندا مثلا عند انضمامها إلى القضية وثيقة ركزت فيها على مناقشة اتفاقية الإبادة الجماعية والتعريف القانوني للإبادة الجماعية نفسها وتطلبها “نيّة التدمير الكامل أو الجزئي” لمجموعة سكانيّة مستهدفة، إضافة إلى طرحها ضمن نفس الوثيقة اعتباراتٍ تتعلّق بكيفيّة التعامل مع النيّة المحدّدة لارتكاب الإبادة الجماعية. هذا المثال، يُعدّ قرينةً عمّا يجب فعله ضمن المساندة الدبلوماسيّة الفعليّة للقضية الفلسطينيّة ومزيد التضييق على الجهود الإسرائيلية الرامية للضغط على عمل المحكمة، وهو ما يبدو أن الأوساط الرسمية التونسية لم تُفكر في التوجه إليه بتعلة أن الانضمام إلى دعوى جنوب إفريقيا فيه اعتراف قانوني ضمنيّ بدولة الاحتلال، علما أنه يبقى بالإمكان التقدم بما يسمّى آراء صديقة للمحكمة.
كما لم تحاول الدبلوماسية التونسيّة الممثّلة بوزير الخارجية في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، من انتهاز هذه المناسبة للتأكيد على مختلف المواقف التي تمّ الإعلان عنها مُسبقا في دعم القضية الفلسطينية. إذ بالرغم من أهمية هذا الحدث على مستوى الدبلوماسية الاقتصادية أساسًا، إلا أنه يُعد نافذة هامة لتمرير العديد من المواقف والرسائل السياسية. ويُشار هنا إلى أن عددا من الشكاوى الجنائية قد قُدّم من قبل عدد من المنظمات غير الحكومية ضد الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ أثناء حضوره لأشغال المنتدى هذا الشهر.
يبقى الإشكال الأهم للموقف الرسمي التونسي في عدم تبنّيه لاستراتيجية واضحة تدعم التوجهات المُساندة للقضية على مستوى المؤسسات الدولية، وهو ما أدى في كثير من الأحيان إلى نوع من التخبط، كما حدث حين امتناع تونس عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعلق ب “الهدنة الإنسانية التي تُفضي إلى وقف الأعمال العدائية” في أكتوبر 2023 بشكل مُتعارض مع مجمل مواقف الدول المُناصرة للموقف الفلسطيني.
مساندة شعبية تتطلب الاستمرارية؟
لم ينتظر التونسيون الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار للتعبير عن احتفائهم، بل بدأ التونسيون في التظاهر منذ يوم الاثنين 13 جانفي في شارع الحبيب بورقيبة بعد تواتر التسريبات الإعلامية حول قرب عقد الاتفاق. هذه المظاهرة حملت شعارات مساندة لتجريم التطبيع مع إسرائيل، في استعادة للنقاش السابق حول هذا الملف. وفي نفس السياق عبرت الشبكة التونسية للحقوق والحريات في بيان لها يوم 19 جانفي الحالي بمناسبة وقف إطلاق النار عن إدانة الموقف الرسميّ للأنظمة العربية، بما فيها الموقف التونسي الرافض لتمرير قانون تجريم التطبيع.
كما عبّرت عديد الأحزاب التونسيّة عبر بيانات لها عن مُساندتها لوقف إطلاق النار، ومن بينها على سبيل المثال حزب العمل والإنجاز، أحد مكوّنات جبهة الخلاص المعارضة، الذي أصدر بيانا يوم 15 جانفي، حيّا فيه “الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة” و”كل الدول التي ساندت الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، وفي مقدمتها دولة جنوب إفريقيا، التي قادت حربا قانونية ضد الكيان الصهيوني”. غير أن أكثر البيانات الحزبية التي جلبت الاهتمام إعلاميا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، هو البيان الصادر عن حركة الشعب الذي عبرت فيه عن “استعدادها للمساهمة في إعادة إعمار قطاع غزة بعد التخريب الذي لحقه من العدوان”. وهو بيان قوبل بموجة من السخرية حول مدى واقعية مثل هذه المساعدة ضمن مشروع يتطلب إمكانيات مادية ضخمة وتنسيقا دوليا على مستوى عال من الأهمية.
على العموم، يظل مجال العمل لدعم الحق الفلسطيني بحاجة إلى مزيد الهيكلة والتطوير على المستوى الرسمي خاصة. وبذلك فإن الحديث عن “اليوم التالي” لمساندة القضية الفلسطينية بعد وقف العدوان الصهيوني أو انقضائه مشروع جدا اليوم. إذ من المهمّ استثمار حالة الزخم والتعاطف أثناء العدوان لرسم مخطط واضح للاستمرار في حملات المقاطعة ضد العلامات التجارية المُساندة للاحتلال وتفعيل التظاهرات المساندة للقضية بشكل مُستدام وأكثر فاعلية. في حين تستمر الضبابية الرسمية (وشبه الرسميّة) مع غياب برامج واضحة للمساندة الإنسانية عبر العناية الصحية أو النفسية، وعدم وجود خطّة مُعلنة كذلك للهلال الأحمر التونسي حول إرسال المساعدات في المراحل القادمة. يُضاف إلى ذلك غياب تصوّر وتفكير واضح من الدبلوماسية التونسية لإسناد التحركات الإقليمية أو الدولية الهادفة لدعم الشعب الفلسطيني.
متوفر من خلال: