يقول المثل الشعبي: “ضربني وبكى، سبقني واشتكى”، هكذا فعل بنك لبنان والمهجر مع عائلة كريّم التي أودعته وديعة كبيرة بالدولار الأميركي. لم يكتفِ المصرف بالسطو على جنى عمر العائلة في بلاد الاغتراب، كما فعلت كل المصارف جرّاء الأزمة المالية والمصرفية التي يرزح تحتها لبنان، بل ادّعى على الشقيقين مهدي وعلي كريّم بتهمة تخريب المصرف والتعدّي الجسدي على الموظفين.
بعد توقيفهما في 1 تشرين الأوّل الجاري، مهدي في فرن الشبّاك وعلي في صور، أكّد الشقيقان للنائبين العامين في المنطقتين أنّهما لم يعتديا على أحد من الموظفين بل اكتفيا برمي شاشة كومبيوتر أحد الموظفين أرضاً “على خلفية المعاملة المهينة التي تعرّضا لها من قبل إدارة المصرف”، حسب ما أفاد الشقيقان “المفكرة”. وذلك عندما طالبا بأبسط حقوقهما، وهي الفائدة على الوديعة التي “نعرف أنّها طارت”، على حد تعبيرهما. لكن النائبين العامّين اشترطا عليهما توقيع تعهّد بعدم التعرّض لأحد من موظّفي المصرف للإفراج عنهما، وهو ما اعتبر وكيل مهدي المحامي في رابطة المودعين رفيق غريزي، أنّه “يعني حكماً مسبقاً يثبت جرم الشقيقين اللذين لم يتمّ التحقيق معهما ومحاكمتهما”.
سبب الخلاف بين العائلة والمصرف
بعد أن أدركت عائلة كريّم حجم الأزمة المصرفية في لبنان و”تأكّدنا أنّ أموالنا لم تعد موجودة في المصرف”، بحسب مهدي كريّم، باعت العائلة وديعتها الكبيرة بالدولار الأميركي على شكل شيكات مصرفية، وخسرت ما يزيد عن مليون دولار، تاركة مبلغ 370 ألف دولار في حسابها. “رضينا بالقليل”، يشير مهدي في حديثه مع “المفكرة” وكفّت العائلة عن المطالبة بالمبلغ المتبقّي والموافقة على الحصول على فائدة 200 دولار شهرياً على سعر صرف 3900 ليرة للدولار الواحد. ثم فوجئت بأنّ قيمة الفائدة تراجعت إلى 50 دولاراً، “فجنّ جنوننا”، وفق مهدي. عندها راجع الشقيقان مهدي وعلي كريّم مدير المصرف عدّة مرّات من دون التوصّل إلى أي نتيجة.
يروي علي كريّم لـ”المفكرة”: “راجعنا نائبة مدير المصرف في فرع صور نهار الإثنين 27 أيلول 2021 وهدّدنا بالتصعيد لكنّها لم تستجب لطلبنا البسيط وهو العودة إلى فائدة 200 دولار”. عندها بحث الشقيقان عن أي شيء يملكه المصرف ويقدّر ثمنه بـ150 دولار، المبلغ الذي يمتنع المصرف عن تسديده، فوجدا شاشة الحاسوب أمامهما. حملاها، وعندما همّا بالمغادرة شعرا أنّهما يقومان بالسرقة، فقاما برميها أرضاً ثم غادرا.
توقيف الشقيقين
لم يكتفِ الشقيقان بما وصفاه “فشّة الخلق” نهار الإثنين، بل نزل مهدي إلى المصرف – فرع فرن الشباك، نهار الجمعة 1 تشرين الأوّل ليعاود المطالبة بأبسط حقوقه. واستفزّه تعامل المديرة “غير الأخلاقي”، كما يصفه، معه. وأوضح: “مرّة تطلب منّي مراجعة إدارة المصرف في فرع بيروت وكأنّي غبي ولا أعرف بأمر الحراسة المشدّدة هناك التي ستستفرد بي ومرّة تسخر منّي وتطالبني بمراجعة فرع صور حيث أودعنا أموالنا، وكأنّه ليست كلّ الفروع تابعة للمصرف ذاته”. لكن أكثر ما استفزّ مهدي تعليق المديرة التالي: “ما دامت وديعة العائلة باسم شقيقك، شو دخلك إنت”؟ عندها اتّصل مهدي بشقيقه علي وطلب منه النزول إلى المصرف في فرع صور. وهكذا فعل الأخير. ولدى وصوله “أغلق الموظفون كلّ الأبواب وأنزلوا الستائر”، بحسب علي، “ما أثار غيظي ودفعني للصراخ عالياً وركل الباب بقوّة، فحضرت القوى الأمنية واقتادتني إلى مخفر صور”.
عندما علم مهدي بتوقيف شقيقه، ازداد غضبه من المصرف الذي سرق أمواله ثم أساء معاملته وأخيراً أوقف شقيقه، فحمل شاشة حاسوب ورماها أرضاً ثم غادر. وبينما كان يستقلّ سيارته اعترضت طريقه سيارة مفيّمة، نزل منها عناصر من مخابرات الجيش و”أخبروني بفوقية وتعالٍ أنهم ينتظرون وصول القوى الأمنية ليزجوني في الحبس”، كما يقول مهدي الذي ردّ عليهم: “لست أنا من أهرب بل هم من يهربون”. وحضرت القوى الأمنية بعد نصف ساعة واقتادته إلى مخفر فرن الشباك.
ادّعاء “كاذب” بتهمة التخريب والاعتداء
عندما وصل مهدي إلى المخفر، كانت الساعة قرابة الثانية ظهراً. انتظر حتى الساعة الخامسة عصراً ريثما تنتهي استراحة النائب العام المعتادة. فُتح محضر التحقيق، وادّعت مديرة المصرف على الشقيقين بتهمة التخريب والتهجّم على الموظفين. لكن مهدي كذّب ذلك، مفسّراً: “وقعت آلة عدّ الأموال مني عن طريق الخطأ على أحد رجال الأمن وهو رجل كبير في السن، فانتشلتها واعتذرت منه وقبّلت رأسه، لكنّهم يريدون أن يلبّسوني التهمة”.
يقول وكيل مهدي، المحامي في رابطة المودعين رفيق غريزي، إنّه “لم يحدث تخريب للمصرف بمفهومه الصحيح، فمهدي لم يقم إلّا بدفع الشاشة التي لم تنكسر أصلاً”. ويسخر غريزي من اتصال إدارة المصرف برئيس جمعية المودعين حسن مغنية الذي كان يرافق مهدي في المخفر، لينقل إليه طلبهم مبلغ خمسة ملايين ليرة تعويضاً عن الضرر الذي أحدثه الشقيقان حتى يسقطوا الدعوى، مستنكراً: “أي تعويض يطلبوه وقد أخذوا منه أكثر من 40 ألف دولار؟”.
و”صحيح أنّه حدث انفعال من طرف مهدي، لكن أيضاً حصل استفزاز من طرف مديرة المصرف”، بحسب غريزي. وعليه، سجّل مهدي موقفاً عندما قدّم خلال الاستماع إليه ادّعاء مقابل على مديرة المصرف بتهمة القدح والذم وتهجّم الموظفين عليه، كذلك الأمر اتّهم المصرف بشراء وبيع شيكات مصرفية بطريقة غير قانونية، مثلما اشترى من عائلة كريّم سابقاً.
أمّا علي، فكان وحيداً من دون محامٍ في مخفر صور. استمع المحقق إلى أقواله، ثم اقتاده إلى النظارة. وقد سمع علي أنّ النائب العام الاستئنافي في الجنوب القاضي رهيف رمضان “سيقوم بترك الملف لليوم التالي أي السبت 2 تشرين الأول، حتى أنام في النظارة فتكون هذه فركة أذن لي”.
التعهّد مرفوض
بعد سبع ساعات من التوقيف، تنازلت مديرة المصرف عن الدعوى واشترط عليهما النائبان العامّان في جبل لبنان والجنوب توقيع تعهّد بعدم التعرّض إلى الموظفين في المصرف لإطلاق سراحهما وهو ما فعله الشقيقان. ويعتبر المحامي غريزي أنّه: “لم يكن هناك أي حاجة للتعهّد لأنّه لا نيّة للشقيقين بالتهجّم الجسدي على أحد في المصرف، فهما يطالبان بحقوقهما فقط”. وقد رفض ناشطون وحقوقيون هذا التعهّد، وفق غريزي، لأنّه: “يدلّ على حكم مسبق على الشقيقين أنّهما اقترفا جرماً من دون أن يحقق معهما أو يحاكما أصلاً، معتبرين أنّه “لا يحق للنائب العام هذا الانحياز للسلطة السياسية والمالية”، كما ينقل غريزي.
وقد حظي الشقيقان بدعم كبير من ناشطين “شكّل قوّة ضغط ما كنّا خرجنا من المخفر من دونها”. وحضر رئيس جمعية المودعين حسن مغنية وعضوة تجمّع نقابة الصحافة البديلة إلسي مفرج إلى المخفر، وأرسلت رابطة المودعين المحامي رفيق غريزي الذي رافق مهدي إلى أن أفرج عنه.
“لن نبقى مكتوفي الأيدي”
لم تنتهِ معركة الشقيقين مهدي وعلي كريّم مع إدارة مصرف لبنان والمهجر التي بعثت رسالة إلى مهدي، دعته إلى الالتقاء بها لحلّ ملف العائلة، فرفض، لأنّه “لا أجلس مع لصوص”، على حد قوله، مسجّلاً موقفاً “أخلاقياً وسياسياً قبل أن يكون شخصياً”. ويتوعّد مهدي “للمفكرة” أنّه سينزل مجدداً إلى المصرف للمطالبة بحقه. أمّا علي فيعترف بأنّ المصرف “نجح في ترهيبه بعد أن تمّ توقيفه لساعات في النظارة بين مجرمين لأوّل مرة في حياته”. لذلك سيلجأ إلى الطرق القانونية و”سيباشر رفع دعوى قضائية على المصرف”. نسأله ما إذا كان مؤمناً بجدوى هذه الدعوى، يجيب: “لم نعد نثق بالقضاء بناء على تجارب مودعين آخرين رفعوا دعاوى على المصارف من دون فائدة، وخاصّة بعد أن تمّ توقيفي فيما أنا صاحب حق”، ومع ذلك: “لن نبقى مكتوفي الأيدي”، كما يؤكّد الشقيقان.