مقدمة
ترتبط الممارسة القضائية في جرائم العنف الجنسي عموماً ًبآراء إجتماعية مسبقة. فهذه الجرائم تبقى من أكثر الجرائم إفلاتاً من العقاب[1]، وذلك لأسباب عدة، منها صعوبة الإثبات، ومنها سواد اتجاه إلى لوم الضحية والتشكيك في مصداقيتها، إضافة إلى الخوف والرّهبة اللذين تولّدهما هذه الجرائم على الناجين منها وضحاياها، مما قد يثنيهم عن الإفصاح عنها[2].
فالقضاء الجزائي – إضافة إلى قضاء الأسرة – يعتبر من أكثر المجالات التي تطرح إشكاليات على تماس بين القانون والمجتمع. وبذلك، فإن عملية الإدانة والحكم، مع ما تفترضه من تحديد للجريمة والعقوبة، والإدانة والبراءة، هي ظاهرة اجتماعية بحد ذاتها يقتضي درسها ضمن سياقها[3]. إلا أن غالبية الدراسات حول قضايا الإغتصاب في لبنان تنحصر ضمن نطاقين: الأوّل، توثيق الآثار الإنسانية والإجتماعية للجريمة[4]، والثاني، التركيز على الجانب القانوني، وبشكل خاص على التحليل التقني لقانون العقوبات[5]. لذا، تحاول هذه المقالة فهم قضايا الإغتصاب والعنف الجنسي من خلال الممارسات القضائية، وذلك عبر إعتماد المنهج القانوني – الإجتماعي الذي يقوم على تحليل القانون والظواهر القانونية وتفكيك علاقتها بهيكليات المجتمع وواقعه بشكل عام.
فكيف تتعامل المحاكم اللبنانية مع قضايا العنف الجنسي، مع كل ما تختزنه هذه القضايا من آراء مسبقة وعنف؟ ما هي القيم التي يحميها القضاء من خلال تدخّله في هذه الجرائم وما هي الإعتبارات التي تركّز عليها هيئة المحكمة؟ كيف يتأقلم القضاء اللبناني مع صعوبة الإثبات في هذه القضايا؟ كيف تتدخل المنظومة القانونية في حياة القاصرين وعلاقاتهم؟ وكيف يتجلّى التمييز الطبقي والإجتماعي في هذه الاحكام؟ من هم الضحايا الذين وصلوا إلى القضاء، ومن هم المتّهمون؟ ما هي النقاط المشتركة بينهم وما هي الأنماط السلوكية التي يمكن استنتاجها؟ وما تأثير هوية الأشخاص وخلفيّاتهم على الممارسات القضائية؟
تأمل هذه الورقة طرح بعض الأجوبة والفرضيّات لهذه الأسئلة، وذلك عبر تحليل عيّنة من الأحكام القضائية الصادرة خلال الأعوام 2016 و2017 و2018 عن كلّ من محكمتي جنايات بيروت وجبل لبنان، وبشكل خاص الأحكام الصادرة سنداً للمواد 503 حتى 513 من قانون العقوبات (الباب السابع – في الجرائم المخلّة بالأخلاق والآداب العامة، الفصل الأول – في الاعتداء على العرض)، أي تلك التي تشمل قضايا الاغتصاب والإعتداء الجنسي المعرّف عنها في القانون “بالأعمال المنافية للحشمة”. بلغ مجموع الأحكام التي شملتها العيّنة 67 حكماً في جبل لبنان، و7 أحكام في بيروت[6]، أي ما يعادل 74 حكماً[7]. تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ قانون العقوبات لا يستخدم عبارة “الإغتصاب”، إنما يشير إلى “الإكراه بالعنف والتهديد على الجماع”. كما يميّز القانون بين المجامعة التي تفسّرها الأحكام عموماً على أنّها اغتصاب من خلال المهبل (وقد طبّقت هذه المادة في 22 حالة من العيّنة)، والأعمال المخلّة بالحشمة والفحشاء التي غالباً ما تفسّرها الأحكام على أنها الإغتصاب الشرجي أو الأعمال الجنسية الأخرى التي لا تؤدي إلى عملية إدخال (وهي تشمل 35 حالة من العيّنة)، وهي تفسيرات تبقى مبهمة إلى حد ما وسنعود إليها لاحقاً. وقد آلت 10 أحكام من العيّنة إلى إعلان براءة المتهم، فيما أدانته 7 بجرائم أخرى غير متعلّقة بالإغتصاب (كالسرقة مثلاً أو مخالفة قانون الأجانب).
في ما يأتي، نعرض ملاحظاتنا الأوّلية على هذه الأحكام مع التأكيد على أمرين: الأوّل، أنّ العيّنة المدروسة تبقى محصورة زمنياً ومكانياً وبالتالي لا تمثّل مجمل التوجّهات في القضاء اللبناني، والثاني، أننا استحصلنا على الأحكام القضائية فقط دون سائر أوراق الملف، ومن دون إجراء أية مقابلات مع الفاعلين فيها (قضاة، محامين، ضحايا…) مما قد يغيّب معلومات مهمّة عن التحليل.
الملاحظة الأولى: من هم الضحايا والمتّهمون؟ حضور خجول للطبقات الميسورة وارتفاع نسبة القاصرين
تشمل العيّنة المدروسة الأحكام الصادرة عن محكمة الجنايات فقط، وبالتالي، فهي لا تتضمن كافة القضايا التي تم حفظ الشكاوى بشأنها لدى النيابة العامة أو في مرحلة التحقيق[8] أو لم تنته المحاكمة فيها بعد. ومن شأن هذا المعطى أن يفسّر ارتفاع نسبة الإدانة بهذه الجرائم[9]، وهو أمر يتحصّل من عبور القضايا المعروضة من خلال هيئات قضائية (قضاة النيابة العامة والتحقيق) مما أدّى من حيث المبدأ إلى استبعاد الشكاوى التي لا تتوفّر فيها إثباتات واضحة ليحصر الادعاء في القضايا الأكثر ثبوتاً.
تشمل أحكام العيّنة المدروسة 86 ضحية، علماً أنّ العديد من هذه الأحكام يأتي على ذكر “العديد من الضحايا الآخرين”، من دون أن يتمثلوا في الدعوى أو أن تحدد هويّاتهم. ويؤشر هذا الأمر إلى ضعف لجوء الضحايا إلى القضاء، وفي الآن نفسه إلى مدى توسّع قضاة التحقيق في التحقيقات. أما عدد المتهمين، فقد بلغ 83 متهماً، حوكم 64 منهم وجاهياً، و19 غيابياً.
في تحليل أوّلي لهوية الضحايا والمتهمين المشمولين في العيّنة، يتبيّن أمران:
- الأوّل، غياب شبه تام للطبقات الوسطى والميسورة:
لا توفر الأحكام التي تشملها العيّنة كافة تفاصيل الجريمة وظروفها أو الخلفية الاجتماعية للمتهمين والضحايا، إلّا أنه يمكن استخلاص الواقع الاجتماعي من معلومات قد ترد في الحكم كمكان السكن والمهنة والمستوى التعليمي، إلخ.
وعليه، يتبيّن أنّ غالبية الضحايا والجناة في العيّنة هم من فئات اجتماعية فقيرة. فمثلاً، نجد أنّ أكثرية الجرائم قد وقعت في مناطق سكنيّة مكتظّة وفقيرة (مثلاً: “كانوا يقيمون في مخيم شاتيلا“، “حيّ السلّم“، “وهي تعمل في محلّ في برج حمّود“، “مقيم في الأوزاعي حي السان سيمون خلف صالة الغزال للأفراح”[10]). كما يتبيّن أنّ نسبة كبيرة من المتهمين هم من العمّال الأجانب[11]، أي من الفئات الأكثر هشاشة وفقراً. كما أن غالبيّة القضايا المطروحة في هذه العيّنة تتصل باعتداءات من قبل أقارب أو أشخاص من داخل الأسرة (أب، أخ، خال إلخ…)، أو باعتداءات من قبل غرباء لا رابط بينهم وبين الضحايا (مثلاً: عامل وفتاة تقطن في البناء المجاور). في المقابل، يتبيّن لنا أنّ القضايا التي تشمل اعتداءات بين أشخاص مرتبطين بعلاقات اجتماعية سابقة (عمل، صداقة، دراسة، إلخ.) قليلة جداً. وحتى في القضايا التي قد تدلّ على أنّ المعتدى عليه/ا من الطبقات الوسطى أو الميسورة، غالباً ما يكون المتّهم من الطبقات الفقيرة. بذلك، لا نجد أحكاماً يكون فيها الطرفان، المعتدي والمعتدى عليه/ا، من الفئات المتوسطة أو الميسورة.
بالطبع، لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أنّ الفئات الميسورة محصّنة إزاء الاغتصاب أو براء من إرتكابه، ولا أنّ نسب الإغتصاب لدى الفئات الفقيرة أعلى من النسب العامة في المجتمع، بل إن غياب الفئات الميسورة عن المشهد القضائي إنما يؤشر إلى وجود تفاوت بين الواقع القضائي والواقع الاجتماعي. لذلك، يقتضي التساؤل عن سبب إنحصار قضايا العنف الجنسي أمام محكمة الجنايات بالفئات الأكثر هشاشة مقابل غياب الفئات الإجتماعية الميسورة. في هذا الإطار، يسوغ طرح فرضيتين.
الأولى، أنّ الضحايا من الفئات الميسورة غالباً لا يدّعيْن أمام المراجع الرسمية. وفي حين يمكن تفسير ذلك بنقص في الثقة بالسلطة القضائية، يمكن أيضاً وبالأخص تفسيره بناء على أسباب طبقية: فمظاهر التماسك الإجتماعي للطبقات الميسورة، إضافة إلى منظومة المصالح المشتركة بينها، قد يثني الضحايا عن اللجوء إلى القضاء. وما يعزز هذه الفرضية هو ما ذكرناه آنفاً عن غياب القضايا التي تشمل اعتداءات بين أشخاص مرتبطين بعلاقات اجتماعية سابقة. أما الفرضية الثانية، فتتصل أكثر بالأداء القضائي والتصوّرات التي تحكمه، وقوامها تأثر القضاة بالتنميط الإجتماعي السائد للجناة (سوري، فقير، عامل بناء، إلخ.)، وتؤول بالتالي إلى القول بأنّ القضاء قد يؤدّي دوراً في “تصفية” القضايا التي تصل إلى محكمة الجنايات على نحو يحصر الاتهام بالأشخاص من الفئات محدودة الدخل. بذلك، من الممكن القول إنّ غياب الفئات الميسورة عن قضايا محكمة الجنايات قد يعكس تأثر القضاء بالتنميط الإجتماعي: فالطبقات العاملة غالباً ما تُصوّر على أنها عنيفة، وأكثر عرضة لارتكاب الجرائم الجنسية[12]. وبذلك، يصبح المتهم المتعلّم، الميسور، غير متطابق مع المجرم النمطي ويصعب بالتالي إدانته.
وما يزيد من احتمال هذه الفرضية تفاوت إمكانيات الدفاع بين الفئات الميسورة والفئات الأكثر فقراً. فالمتهم الذي يتمتّع بامتيازات اجتماعية، وسياسية (جنسية لبنانية)، ومادية (القدرة على توكيل محام)، ومعرفية، وثقاقية، يكون في أغلب الأوقات قادراً على عرض قصة أكثر قابلية للتصديق أمام قاضي التحقيق، مما قد يجنّبه الاتهام أمام محكمة الجنايات[13].
تنطلق هذه الملاحظة من دراسات عدّة في العالم كانت قد أشرت إلى أنّ أكثرية المتّهمين في قضايا العنف الجنسي هم غالباً من الفئات محدودة الدخل[14]، وأبعد من ذلك، أنّ هؤلاء غالباً ما يتلقّون عقوبات أشد من المتهمين من الطبقات الوسطى[15]. هكذا، تعمل المنظومة الطبقية على إسقاط القيم السلبية على “الآخرين”، ليصبح الآخر من الطبقة “العاملة العنيفة وغير المتحضرة” مستودعاً للصفات التي تخشاها الطبقة الوسطى وترفضها[16].
بالطبع، تبقى هذه الملاحظات في سياق الفرضيات، وتؤشر إلى مجال بحثي يقتضي التوسّع والتعمّق فيه.
- الثاني، غالبية الضحايا قاصرون (إناث وذكور):
تظهر العيّنة أنّ 59% من الضحايا قاصرون (45% منهم ذكور و55% منهم إناث)، فيما تبلغ نسبة الراشدين 41% (95% منهم إناث، و5% ذكور).
تؤشر هذه الأرقام إلى ضآلة عدد دعاوى الجنايات المتّصلة بالاعتداء على نساء راشدات (33 حالة) مقارنة بالأرقام المرتفعة للجرائم الجنسية المرتكبة ضد النساء في لبنان[17]. وبالإمكان تفسير هذا الأمر بعدم لجوء النساء إلى القضاء لعدم إيمانهن بالنظام القضائي، أو صعوبة الإثبات والخوف من لومهنّ والوصمة الاجتماعية للإغتصاب، أو إحتمال إستبعاد شكواهن في مرحلة التحقيق كما ذكرنا آنفاً.
مقابل ذلك، نجد أنّ غالبية قضايا الإغتصاب أمام محاكم الجنايات تتصل بالقاصرين. وقد يفسّر ذلك بالنظرة الحمائية تجاه هؤلاء، بحيث تعتبر حماية الطفولة من أكثر المواضيع المتفق عليها اجتماعياً وربما الأقل إشكالية. فـمجامعة الطفل تدخل، في الثقافة العامة، ضمن “الأمراض النفسية”. والطفل، بحسب الفهم السائد للطفولة، “بريء” و”مغلوب على أمره”، والأهم لا يمكن للمتهم تبرير الإعتداء برضا القاصر، وهو التبرير الذي نجده في أغلب القضايا التي تطال النساء الراشدات. وفي حين أنّ النساء الراشدات قد يترددن في الذهاب إلى القضاء خوفاً على “سمعتهن” والوصمة الاجتماعية التي قد تنتج عن ذلك (وبخاصة في حال رد الدعوى وعجزهن عن تقديم الإثبات على حصول الاعتداء خلافاً لإرادتهن)، من الممكن القول إنّ هذا الخوف غير مطروح فعلياً في قضايا الأطفال للأسباب آنفة الذكر. وبذلك، يكون اللجوء إلى القضاء لحماية الأطفال أسهل من اللجوء إليه لحماية النساء من العنف الجنسي.
الملاحظة الثانية: في غياب الإثباتات الدامغة، كيف تتخذ المحكمة قرارها؟
تشكل مسألة الإثبات أحد أبرز العوائق في دعوى الاغتصاب، لا سيما أنّ هذه القضايا بطبيعتها تحصل في السرّ ويصعب إثباتها عبر دلائل دامغة، فيصبح لدى القاضي هامش واسع لتبرئة المتهم أو إدانته حسبما تتوفر قناعته من القرائن المبرزة أمامه. فما هي العوامل التي بدا أنها أثّرت في تفكير القضاة وقناعاتهم؟ في هذا الإطار، سنركّز على قضايا إغتصاب النساء الواردة في العيّنة.
تشير العلوم الاجتماعية إلى مفهوم “أساطير الاغتصاب”[18]، وهي مجموعة التصرّفات والمعتقدات الخاطئة حول الاغتصاب والمنتشرة على نطاق واسع، والتي تهدف إلى إنكار الاعتداء الجنسي على النساء وتبريره [19]. تنبع هذه “الأساطير” من عدد من الأفكار النمطية الناجمة عن النظرة الذكورية للمرأة ودورها في المجتمع. ومن أبرز هذه الأساطير، أنّ الاغتصاب مستحيل وأنّ بإمكان المرأة منعه، وأنّ ضحايا الاغتصاب “يطلبن ذلك” أو يغرين الرجل[20]، أو أنّ الرجال يغتصبون النساء بسبب “الغريزة التي لا يمكن السيطرة عليها”[21]. إضافة لوقعها الاجتماعي، تنتج هذه الأساطير آثاراً بيّنة على كيفية تعامل السلطات مع النساء الناجيات من الاغتصاب، ومدى تصديقهنّ. وممّا لا شك فيه أنّ لهذه الافكار النمطية أثر في تدعيم العنف ضد النساء، من خلال إلقاء اللوم على الضحية وإعفاء المعتدي أو تبرير فعلته.
فلأي مدى ساهم القضاء اللبناني في إعادة إنتاج الآراء النمطية حول الاغتصاب؟ بناءً على أي قيم مجتمعية، وأي نظرة للمرأة؟ وما هي الفئات الأكثر عرضة للآراء المسبقة؟
في سلوكيات المرأة “المتحرّرة” وعذريتها وتاريخها الجنسي:
يُستشف من أحد الأحكام في العيّنة أنّ المدعية، وهي راقصة شرقية، قد ادّعت على شخص قالت إنّه كان مقرّباً منها، وبعد نشوب خلافات بينهما قام باغتصابها داخل الشاليه الخاص بها. وكانت قد أبرزت تقريراً طبياً يؤكد تعرّضها للاغتصاب. برّأت المحكمة المتهم مستندة إلى عوامل عدّة، منها انتظار الضحية وقتاً لتقديم الدعوى ووجود تناقضات في إفادتها. وبغض النظر عن تفاصيل القضية، فإنّ تحليل المحكمة جاء ليبرز آراء نمطية خطيرة ويعيد تكريس منظومة ذكورية هي أساس العنف الجنسي. فقد جاء في الحكم:
“مع الإشارة إلى أنّ المدعية هي امرأة متحررّة ومنفتحة وهذا ما تفرض عليها طبيعة عملها فهي راقصة شرقية وتجيد الرقص الأجنبي أيضاً وهي تعمل في عدة أوتيلات في لبنان والخارج وأن كل هذه المعطيات مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما ورد أعلاه يخلق الشك والغموض على الشكوى الحاضرة…”
كما جاء في الحكم نفسه، ونقلاً عن إفادة المتّهم الذي ادعى أنه مارس الجنس مع المدعية برضاها:
“أدلى (…) أنه كان فعلاً على علاقة مع المدعية وكان يمارس الجنس معها بشكل طبيعي وهي لديها شهية كبيرة للجنس”.
يظهّر هذا الحكم كيفية تحويل قضايا العنف الجنسيّ إلى شبه “مسرح” للخوض في أحكام على سلوكيات النساء الضحايا. فغالباً ما نجد في قضايا الاغتصاب، وبخاصة تلك المتصلة براشدات، نقاشاً حول رضا الضحية بمجامعة الجاني. وفي أغلب الأحيان يتم التثبت من هذا الرضا – أو عدمه – عبر تقييم هوية الضحية وسلوكياتها، أو كما تشير إليه الباحثة آليسون فيبس (Alison Phipps) من خلال تقييم مدى تمتعها بـ”الإحترام” (respectability): فثمة قرينة مفادها أنّ النساء اللواتي لا يتقيّدن بمعايير الاحترام المتعارف عليها اجتماعياً، أعطَيْنَ موافقة دائمة على انتهاكهنّ جنسياً[22]. وبذلك، تُعتمد هذه المعايير ليس فقط كأداة لمراقبة النساء وتصنيفهنّ والتمييز بينهنّ، إنما أيضاً لإعادة توصيف الأفعال المرتكبة بحقهنّ، انتهاء بإنكار حقهنّ في العدالة.
هكذا، تصبح “أخلاقيات” المرأة ومدى تماشيها مع القيم والعادات السائدة في صلب القضية ومعياراً يحدد مدى “مسؤوليتها” في الاغتصاب. بمعنى أنّه يكون على الضحية أن تثبت أنها شخصية محافظة أو “محترمة” لكي يتم تصديقها، وعندما لا تتمكن من ذلك – تفترض المحكمة أنها لا بدّ وأن تكون مسؤولة جزئياً على الأقل عما حصل لها[23]. وعليه، غالباً ما تقودنا المحاكمة في حالات كهذه إلى محاكمة سمعة المرأة المدعية.
في الإطار نفسه، يتّضح من خلال قراءة الأحكام المشمولة في العيّنة أنّ مسألة غشاء البكارة تستحوذ على مساحة هامة في الأحكام، بحيث تتم مناقشتها بشكل مستفيض، مع الإشارة إلى عذرية الضحية أو عدمها، وما إذا كان الاغتصاب قد أدّى إلى فضّ غشاء البكارة لدى الضحية أم لا.
كما تتضمن الأحكام تفاصيل وثيقة عن المجامعة أو الفعل الجنسي، وهي تفاصيل تشكّل دليلاً – بحسب المحكمة – على عذرية الضحية أو عدمها:
“”ونتيجة لتحرّك غرائزه الجنسية عمل على خلع ملابس ابنته ومارس الجنس معها وأنّه لم يشاهد دماء”[24].
يمكن وضع هذه الملاحظة ضمن سياق تاريخي، حيث تجدر الإشارة إلى أنّ جريمة الإغتصاب في عدة قوانين، لا سيما القانون الإنكليزي، كانت تقتضي أن تكون الضحية عذراء[25]، ما يعكس الاعتقاد بأنّ المرأة التي لم تتوانَ عن ممارسة الجنس من قبل يصعب اعتبارها ضحية جنسية.
يشكّل هذا “الهوس” بمسألة العذريّة، دليلاً على الفرضية المطروحة سابقاً من سعي لحماية القيم التقليدية أكثر مما هو دليل على حماية المرأة وجسدها.
الاغتصاب في ظلّ ممارسة الدعارة؟
يشير أحد الأحكام إلى إقدام المتّهم على مجامعة قاصرة، ويتبيّن من حيثيات الحكم أنه قد مارس معها الدعارة و”كان والدها (وهو “أكبر مشغل دعارة في لبنان”) يخوفها بالكهرباء وبالقتل”، وأنّ المتهم هو شريك الوالد في العمل. وقد تمّت إدانة المتّهم سنداً للمادة 527 (اعتماد على دعارة الغير)، والمادة 505 من قانون العقوبات[26] (التي تعاقب مجامعة القاصرة)، وليس المادة 503 (التي تعاقب الإكراه على الجماع بالعنف والتهديد). وبذلك، يبدو كأنّ المحكمة قد اعتبرت أنّ ممارسة الدعارة مع قاصرة هو بمثابة مجامعة وليست اغتصاباً، متجاهلة ظروف القضية التي تفيد أنّ القاصرة مرغمة على ممارسة الدعارة، وأنّ والدها حوكم على هذا الأساس. وبذلك، يطرح هنا السؤال: هل المقصود بأنّ ممارسة الدعارة تنفي الإغتصاب، حتى في ظل الإكراه على الدعارة؟
تندرج هذه الملاحظة ضمن توجّه عام يفترض موافقة عاملات الجنس على كافة أشكال الجنس.وبذلك، تصبح المجامعة بالعنف جزءاً من عمل الدعارة. هكذا، تقسّم النساء إلى قسمين: “اللاتي لا يوجد أي حظر على ممارسة الجنس معهن”[27] (كعاملات الجنس مثلاً)، واللاتي “يحظّر الجنس معهنّ” بالمطلق، كالفتيات البكر (مما يبرر التركيز على مسألة العذرية). وبذلك، تتحوّل موافقة بعض النساء على بعض الأعمال الجنسية وكأنها موافقة على جميع أشكال النشاط الجنسي[28].
عاملات المنازل لسن ضحايا؟
تضمّنت العيّنة 5 أحكام ضحيّتهن عاملات منزليات من جنسيات أجنبية مختلفة آل حكمان فقط منها إلى إدانة المتّهم. بيّنت هذه الأحكام، مقارنة مع الأحكام الأخرى، إشكاليات وتناقضات عدة، إنْ لجهة تدنّي العقوبة المحكوم بها، أو استناد الحكم إلى حيثيات تبيّن آراء مسبقة، أو حتى في تحميل الضحية عبء الإثبات بشكل غير عادل.
فمن جهة، يتبيّن في الحكمين اللذين آلا إلى إدانة المتّهم أنّ العقوبة المحكوم بها لا تتناسب مع فداحة الجرم، وهي منخفضة نسبياً. فقد جاء في الحكم الأول:
“ حيث ثبت للمحكمة (…) إقدام المتهم على خطف واغتصاب (…) وسرقتها بالعنف وعلى تهريب الأجانب من وإلى لبنان والمطالبة بفدية لإطلاق سراحها ما يؤلف جناية المواد 503، 569 و 638 عقوبات وجنحة المادة 600 عقوبات و32 أجانب ويقتضي تجريمه وإدانته بها”.
فقد ثبت للمحكمة أنّ المتهم قد خطف الضحية وأخذها إلى الأراضي السورية حيث اغتصبها، وأنّه جزء من شبكة للإتجار بالبشر. إلّا أنّ عقوبته اقتصرت على ثلاث سنوات حبس مع احتساب مدة توقيفه، وهي عقوبة مخفضة نسبة لفداحة الجرم[29].
من جهة أخرى، تبيّن حيثيات أحد أحكام محكمة الجنايات أنّ قاضي التحقيق كان قد كلّف المدعية تقديم إثباتات تفصيلية عن الوقائع المدّعى بها. وقد تمّ الإرتكان إلى عدم تقديم العاملة للمستندات التي تثبت اغتصابها لتبرئة المتهم. وبغض النظر عن مضمون القضية، يجدر التنبيه إلى أنّ هذا الحكم إذ يبيّن الدور المحوري لقاضي التحقيق في قضايا الاغتصاب، هو الوحيد الذي ورد فيه تكليف الضحية إثبات مزاعمها بهذا الشكل المفصّل.
وقد جاء في الحكم:
“]أن قاضي التحقيق كان قد كلّف المدعية ببيان هوية الشخص الذي التقط الصور المبرزة في الملف والعائدة لها، وما إذا كانت هذه الصور قد أخذت في الخارج، وكيفية الاستحصال عليها، وتبيان تاريخ أخذ هذه الصور، وأيضاً تكليف وكيل الجهة المدعية إبراز التقارير الطبية التي ذكرها في التحقيق الأوّلي، وتسطير كتاب إلى السفارة الفيليببينية في لبنان للإفادة عما إذا كانت المدعية قد أبلغتها عن أي اعتداء تعرضت له، كما وإبلاغ المدعية الإقرار المنسوب لها والمبرز في الملف بواسطة السفارة المذكور ليصار إلى إيداع الملف إقراراً صادراً عنها بصحة مضمونه (….) وحيث بالتالي وفي ضوء ما تم عرضه أعلاه، لا سيما: عدم تحديد تاريخ أخذ الصور العائدة للمدعية ومكان حصوله وكيفية إرسالها إلى لبنان في حال كانت قد أخذت في الخارج”.
كما يتبيّن في قضية أخرى بأنّ العاملة قد عانت لفترة معيّنة من تدهور في صحتها، وقد سقطت في المنزل وتم نقلها إلى المستشفى. وقد أخبرت شقيقتها بأنها تعرّضت للإغتصاب من قبل معلّم نجارة كان قد أوكل له إنجاز أعمال في منزل مخدوميها. والجدير بالذكر في هذه القضية أنّ كفيل الضحية كان قد ادّعى شخصياً على المتهم، إلى جانب إدعائها شخصياً. إلّا أنّ المحكمة، وبالرغم من ثبوت الحالة الصحية السيّئة للمدعية، وإفادة كفيلها، انتهت إلى إعلان براءة المتهم. وفي حين أنّنا لسنا في موقع تقييم نتيجة الحكم، إلّا أنّه من الثابت أنّ التحليل الذي اعتمده الحكم يتضمّن آراءً نمطية عديدة. فمن جهة، جاء في الحكم، نقلاً عن إفادة المدعية ” أنّها ليست المرة الأولى لها، بالممارسة كونها لديها صديق في بلادها“. فكأنّه يشير إلى أنّ نشاط المدّعية الجنسي أو عدمه يؤثر على مصداقيتها كضحية. أضف إلى ذلك أنّ الحكم ذكر اعتراف المتهم بمجامعة الضحية، مع القول بأنّها هي من “تحشرت به” وأنه “… تهيّج”.
أما القضية الأخيرة فهي أبرز مثال على العوائق التي تواجه عاملات المنازل في الوصول إلى العدالة بشكل عام في ظل نظام الكفالة. فالضحية هي عاملة منزلية تعرّضت لمحاولة اغتصاب. وقد جاء في وقائع الحكم أنّ المتهم “تهجّم عليها وشهر سكيناً بوجهها وهدّدها وقام بإدخالها إلى غرفة النوم وحاول اغتصابها بحيث أمسك برجليها فهمّت المدعية بالفرار وأنّ أحد السكّان شاهدها وأعطاها بنطلونا لترتديه”. إلّا أنّ الحكم آل هنا أيضاً إلى تبرئة المتهم لعدم كفاية الدليل، مع الإشارة إلى أنّ الضحية قد تمّت محاكمتها غيابياً لعدم حضورها جلسات المحاكمة، مما يؤشر إلى أنّه، على الأرجح، تم ترحيلها إلى بلدها من دون أن تتمكن من ممارسة حقها في التقاضي.
إذاً قد تشير هذه الأحكام إلى تساهل القضاء في معاقبة الجرائم الجنسية الواقعة على العاملات والتشكيك في رواياتهن، وهذا بالطبع يزداد خطورة في ظل العقبات التي يفرضها نظام الكفالة على العاملات واضطرار معظمهن إلى الخروج من البلد. إلّا أنّه يمكن أيضاً أن نعزو هذا الأمر إلى اتّجاه شائع في التشكيك بمصداقية النساء من الطبقات العاملة، وأكثر من ذلك، اعتبار تعرّضهن للعنف كجزء من مخاطر عملهن. بذلك، تذكر مثلاً الكاتبة الأميركية سوزان براونميلر أنّه تاريخياً كان من الصعب لا بل من المستحيل ضمان العدالة للنساء المغتصبات اللاتي هن من الطبقات العاملة، على الرّغم من أنّ الرجال من الطبقة الاجتماعية ذاتها هم الأكثر عرضة للمحاكمة والإدانة[30]. وتعزو هذا الأمر إلى أنّ النساء من الطبقة العاملة لا يتماشين مع السلوك الأنثوي والأدوار الجندرية التقليدية، وذلك لوجودهن في “الفضاء العام” المخصّص للرجل، وبذلك تصبح العاملة مسؤولة عن تعرّضها للإيذاء[31].
الملاحظة الثالثة: جنسانية القاصرين تربك المحاكم
تؤشّر الأحكام القضائية المتعلّقة بالضحايا الأطفال إلى مسألة بغاية الأهمية، ألا وهي كيفية تعاطي القضاء الجزائي مع جنسانية هؤلاء في ظل تجريم مجامعة القاصر سنداً للمادة 505 من قانون العقوبات، مقابل السماح بزواجه وفقاً لأغلبية قوانين الأحوال الشخصية. في هذا المجال، نسجّل عدداً من الملاحظات[32]، أبرزها التالية:
الزواج كسبب لإبطال التعقّبات
في حكمين من العيّنة، أبطلت التعقّبات بحق متهميْن اثنين سنداً للمادة 505 بسبب وجود عقد زواج بينهما وبين القاصرتين، علماً أنّه في إحدى هاتين القضيتين كان عقد الزواج شفهياً (عقد زواج متعة).
“حيث أنّ القاصرة هي زوجة المتهم كما هو ثابت في صورة عقد القران المبرزة في الملف،
وحيث أنّ المادة 505 عقوبات تعاقب على جماع القاصر دون الخامسة عشرة من عمره إلا أن المادة 503 عقوبات تعاقب على جماع غير الزوجة وليس الزوجة فلا تكون عناصر المادة 505 عقوبات متوفرة ويقتضي كف التعقبات عن المتهم لهذه الجهة.
وحيث أن فعل المتهم لجهة خطف القاصرة دون خداع أو عنف بقصد عقد الزواج يؤلف جنحة المادة 516 عقوبات ويقتضي إداتنه بها”[33].
“وبناء عليه لا يمكن الركون لأقوالها المتناقضة، ذلك كدليل قاطع لإقدام المتهم على الفعل المسند إليه، وإنه من غير المنطقي أن يقوم شخص بممارسة الجنس مع إمرأة يعتبرها زوجته شرعاً، في منزل عائلة، أحضرها إليها هو شخصياً لحمايتها فضلاً عن أنه ثبت أنه عندما أحضرها إلى منزل أخيه لم يلمسها وكان بإمكانه ذلك خاصة وأن المنزل كان خالياً من السكان، إضافة إلى أن الخلاف قد نشأ بين المتهم والقاصرة بسبب رغبته بنقلها إلى منزله على اعتبار أنها زوجته بناء لعقد الزواج الشفهي القائم بينهما (“يسمى بعقد زواج المتعة”)[34].
وفي حين تمّ إعلان براءة المتّهم الأوّل لوجود عقد زواج، رغم أنّ القاصرة لم تتجاوز الـ13 سنة، أعلنت براءة المتهم الثاني لعدم كفاية الدليل، علماً أنّ المتهم قد اعترف بممارسة الجنس مع القاصرة بعد عقد زواج شفهي “زواج متعة”. بذلك، يتبيّن أنّه في هاتين القضيتين، شكّل عقد الزواج – حتى ولو كان شفهياً ومؤقتاً (متعة) – حاجباً لأي تشكيك في إرادة الطفلة ليس فقط بالجماع إنما حتى بالزواج نفسه، مما أدّى بالنهاية إلى إبطال التعقّبات بحق المتهم بالاغتصاب.
هكذا إذاً، يضع القانون حدوداً رمزية لجنسانية المراهق: فالمراهق الذي يمارس الجنس ينظر إليه كطفل بريء تم التغرير به ويقتضي معاقبة من جامعه حتى ولو ثبت رضاه. أما المراهق الذي يتزوج (بغض النظر عن صغر سنه أو ظروف هذا الزواج)، فيصبح كائناً جنسياً مستقلاً، يمكنه أخذ قراراته من دون أي تدقيق في ظروف هذه الخيارات. وبذلك، يكون القانون قد وضع محظورات على جنسانية القاصرين، ليس فقط من أجل حمايتهم، ولكن أيضاً من أجل مراقبتهم. فتصبح الممارسة القانونية ملتبسة، بين تجريم النشاط الجنسي للقاصر، والسماح بزواجه. وتؤدّي المحكمة دوراً في تعزيز هذا الإلتباس وإعادة إنتاجه، عبر تطوير فهم مختلف للمراهَقة في كلا الإطارين.
بذلك، يبدو أنّ هذه المقاربة لا تهدف بالضرورة إلى حماية القاصرة وتأمين حاجاتها بشكل فرديّ، بل إلى حماية مفهوم الطفولة والمنظومة الإجتماعية التي ترعاه بشكل عام: فمن جهة، تمنع “آفة” الجنس خارج إطار الزواج وتعزز قمع هذه العلاقات، ومن جهة ثانية، تعزز السيطرة على جنسانية المراهقين وتقولبها ضمن الإطار الإجتماعي والشرعي المرغوب فيه، أي الزواج. وبذلك، يتبيّن أنّ المشكلة ليست إذاً في “مجامعة القاصر” بقدر ما هي مسألة المجامعة خارج الزواج وحماية “الأخلاق العامة”. هكذا، يصبح الارتكان إلى مبادئ مصلحة الطفل مدخلاً لقولبة حياة القاصرين حسب الموروثات الإجتماعية والسياسية، وما يصنفه المجتمع كـ”مناسب” وغير مناسب[35]. بذلك، تصبح هذه القضايا فرصة للسلطات لتنظيم حياة القاصرين وخلق “المراهق المثالي” والذي يتماشى مع القيم الأخلاقية في المجتمع.
الملاحظة الرابعة: في تعريف الجرائم الجنسية: الإغتصاب الشرجي “مناف للحشمة”
كما بيّنا آنفاً، تبيّن العيّنة المدروسة وجود لغط في المفاهيم والتعريفات الخاصة بالجرائم الجنسية، وهو طبعاً لغط يأتي من فهم إجتماعي معيّن للأفعال الجنسية، وتصنيف لخطورة كلّ منها.
تتضمن العيّنة 6 أحكام لقضايا إغتصاب شرجي لقاصرين. وفي حين أنّ وقائع الأحكام تؤكد حصول ذلك بالعنف والتهديد، اتّجهت المحكمة نحو إدانة المتّهمين سنداً للمادة 509 من قانون العقوبات (التي تجرّم إرتكاب الأعمال المنافية للحشمة بقاصر)، وليس المادة 503 التي تعاقب الاغتصاب[36]. في قضية واحدة من العيّنة فقط تمّت إدانة شخص لإدخال عضوه في مؤخرة قاصر سنداً للمادة 503[37].
وفي حين أنّ العقوبة المحكوم بها على أساس هذه المادة تقارب عقوبة المادة 503 وفق ما يظهر عن هذه القضايا (متوسط العقوبة 70 شهراً، يوازي متوسّط عقوبة الاغتصاب)، فإنّ تجريم هذه الأفعال سنداً للمادّتين 509 أو 507 يعيد التمييز التقليدي في قضايا الاغتصاب بين الاغتصاب عن طريق المهبل الذي يحصل بين رجل وامرأة والذي يبقى الأخطر بالنظر إلى ارتباطه بفضّ البكارة وتعرّضه للأعضاء التي تتم من خلالها العملية التناسلية، وبين الفحشاء التي تتم عن طريق الاغتصاب الشرجي سواء حصل للذكور أو الإناث. وبذلك، يتمّ حصر مفهوم المجامعة بالأفعال الجنسية التي تعتبر “شرعية” وتتوافق مع النظام المعياري على أساس الغيرية الجنسية (heteronormative) للمجامعة. وقد ترتبط هذه النظرة بالمادة 534 ـ عقوبات التي تجرّم “المجامعة خلافاً للطبيعة”، وتستخدم لإدانة الجنس الشرجي. ولعلّ ما يعزز هذه النظرية هو ورود عبارة “مخالف للطبيعة” في أحكام عدّة في العينة. تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ هذا النقاش قد حُسم في فرنسا، حيث اتّجه الاجتهاد إلى اعتبار أنّ كل ولوج جسدي يشكّل إغتصاباً، وتمّ تكريس ذلك في تعديل قانوني سنة 2018[38].
أكثر من ذلك، فإنّ معايير التمييز بين الاغتصاب والأفعال المنافية للحشمة تبقى ضبابية في العديد من القضايا. فمثلاً، في قضية تحرّش رجل بقاصرة عمرها 10 سنوات، تمّت معاقبة الرجل بالحبس لمدة ثلاث سنوات فقط، سنداً للمادتين 507 و509 وليس المادة 503، علماً أنّ ما مارسه معها يشكّل عملية جنسية ولكن بدون فض غشاء البكارة. وكان موضوع غشاء البكارة نوقش في الحكم، حيث جاء:
“أنّ الطفلة أفادت أنّها تعرّضت لمحاولات اعتداء جنسي مرات عديدة، وبالكشف على الأعضاء التناسلية تبيّن أنّ غشاء البكارة سليم، ولا يوجد فيه أية تمزقات (….) ] المتهم [طلب منها نزع بنطالها وسروالها الداخلي ففعلت، ونزع بنطاله وسرواله الداخلي ومارس الجنس معها، وذلك بين فخذيها وبدون أن يفضّ بكارتها”[39] .
الملاحظة الخامسة: في استنسابية العقوبات والأسباب التخفيفية
تشكّل نسبة الإدانة في جرائم الإغتصاب 67% في الأحكام الوجاهية[40]، و100% في الأحكام الغيابية. تعتبر هذه النسبة مرتفعة نسبياً، ويمكن تفسيرها في المسار الطويل الذي تسلكه الدعاوى الجنائية قبل الوصول إلى محكمة الجنايات، كما أشرنا آنفاً. إلّا أنّه، وبعيداً عن نسبة الإدانة، من المهم التدقيق في العقوبات التي فرضتها المحكمة. وفي حين لم يتسنّ لنا تحليل مدّة العقوبة المفروضة مقارنةً بالجريمة المدّعى بها، يتبيّن لنا أنّ متوسط العقوبات التي فرضتها المحكمة هو 3 سنوات و10 أشهر بالنسبة للجرائم الواقعة على القاصرين، وسنتين و8 أشهر بالنسبة للجرائم الواقعة على الراشدات/ين. ومما لا شكّ فيه أنّه يمكن اعتبار هذه المعدّلات متدنيّة نسبياً، بخاصة مقارنة مع العقوبات المفروضة في قانون العقوبات، فمثلاً بالنسبة للقاصرين، تنصّ المادة 503 على عقوبة لا تقلّ عن 7 سنوات، فيما تنصّ المادة 507 على عقوبة لا تقل عن 6 سنوات، والمادة 509 تنصّ على عقوبة لا تقلّ عن 4 سنوات. أما بالنسبة للراشدين، فتنصّ المادة 503 على عقوبة لا تقلّ عن 5 سنوات، والمادة 507 على عقوبة لا تقلّ عن 4 سنوات. ولعلّ الجدول المرفق للأحكام التي تمّت إدانة المتّهم فيها سنداً للمادة 505 تُبيّن أنّه وفي حين أنّ متوسّط العقوبة المحكوم بها سنداً للمادة 505 كان 5 سنوات، إلّا أنّه تم تخفيض هذه النسبة في العقوبة النهائية لتصبح 3 سنوات.
من جهة أخرى، يتبيّن أنّ المحكمة قد منحت الأسباب التخفيفية للمتهمين في 28 من أصل 74 حكماً، إثنان منها غيابيان، و26 وجاهياً. وبالتالي، تكون نسبة الأحكام المانحة للأسباب التخفيفية 58% من الأحكام الوجاهية التي آلت إلى الإدانة. وقد ارتكزت أربعة من هذه الأحكام إلى المادة 201 ـ عقوبات التي تجيز تخفيض العقوبة في حال لم تفضِ الجريمة إلى مفعول بسبب ظروف لا علاقة لها بإرادة الفاعل، فيما علّلت المحكمة الأسباب التخفيفية في 4 أحكام فقط. ومن ضمن الأسباب التخفيفية المشار إليها، استندت المحكمة إلى وفاة المدعية من دون تصحيح الخصومة، والفترة الزمنيّة المنصرمة بين تاريخ ارتكاب الجرم وتاريخ صدور الحكم، إضافة إلى تدنّي قيمة المال المستولى (وهي قضية تمّت فيها الإدانة سنداً للمادة 503 والمادة 638 التي تجرم السرقة)، إضافة إلى عدم ثبوت أيّة أسبقيّات بحق المتهم.
ففي حين أنّ منح الأسباب التخفيفية يعود إلى قناعة المحكمة حصراً، إلّا أنه لم يتبيّن وجود أيّ رابط سببي أو توجّه عام قضائي واضح للحالات التي يفترض تخفيض العقوبة فيها. مقابل هذا التوسّع في منح الأسباب التخفيفية، تجدر الإشارة إلى أنّ المحكمة لم تشدد العقوبة في أيّ من الأحكام المشمولة في العيّنة. علماً أنّ المادة 512 من قانون العقوبات قد نصّت على حالات تشديد العقوبة، لا سيّما إذا اقترف الجرم شخصان أو أكثر، أو إذا كانت المعتدى عليها بكراً وأزيلت بكارتها.
وفي حين أنّنا لا نملك المعلومات الكافية لمقارنة العقوبات المفروضة في الجرائم الجنسية مع تلك المفروضة في جرائم أخرى، إلّا أنه مما لا شك فيه أنّه لا يوجد أيّة سياسة عقابية صارمة في هذه الجرائم حتى في حالات الاعتداء على أطفال، حيث تتفاوت العقوبات المفروضة بشكل كبير بين القضايا والمحاكم.
خاتمة
تمثّل المنظومة القانونية – أي مجموع النصوص والممارسات القانونية – في أيّ مجتمع كان، قيماً ومبادئ هذا المجتمع. فالقانون ليس سلسلة من القواعد التقنيّة التي تحكم العلاقات في المجتمع وحسب، إنّما هو ترجمة لأولويات هذا المجتمع، وتفكيره، ومبادئه، ومخاوفه، وأيديولوجياته السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، والأخلاقية، إلخ. وبذلك، فإنّ عملية التشريع غالباً ما تكون نتاج الفلسفة المهيمنة.
لا تدّعي هذه المقالة عرض تحليل كامل وشامل لكافة المقاربات حيال قضايا العنف الجنسي في لبنان، وتبقى الأحكام المشمولة في العيّنة محصورة زمنياً ومكانياً، إلّا أنّه يعرض ملاحظات أوّلية على هذه القضايا.
ويمكن القول إنّ أبرز ما بيّنته هذه المقالة هو الإختلاف الشاسع بين الواقع الإجتماعي للعنف الجنسي والواقع القضائي له، ومعه الغياب التامّ للسياسات الجزائية في هذا الإطار. من جهة أخرى، ظهّرت هذه العيّنة من الأحكام تقاطعيّة القضايا الجنسية مع القضايا الاقتصادية والطبقية والاجتماعية، وبيّنت كيفية تفاعلها أمام المحاكم، إضافة إلى تسليط الضوء على تفاقم مظلومية أكثر الفئات هشاشة، ولا سيما عاملات الجنس وعاملات المنازل. التفاعل الثاني الجدير بالتفكير فيه أيضاً يتعلّق بمفاعيل التعدّدية القانونية والتوتّر بين القانون الجزائي وقوانين الأحوال الشخصية: ففيما يعتبر القانون الجزائي النشاط الجنسي للقاصر جريمة، تأتي قوانين الأحوال الشخصية لتجيزه تحت غطاء الزواج ولو كان زواجاً مؤقتاً (زواج متعة) أو شفهياً وغير موثّق في سجلّات الدولة. أخيراً، وفي حين نأمل أن يقوم القضاء باستغلال الفرصة لأداء دور جديد في تفسير العنف الجنسي وإعادة تعريفه، نلحظ أنّ المحاكم ما زالت تنزلق في العديد من الأحيان نحو الآراء المسبقة التي تبرر هذه الجرائم.
- لقراءة هذه الدراسة كاملة اضغطوا على الرابط أدناه:
توجّهات المحاكم في قضايا الاغتصاب في بيروت وجبل لبنان
[1] Lonsway, K.A. and Fitzgerald, L.F., 1994. Rape myths: In review. Psychology of women quarterly, 18(2), pp.133-164. P.136
[2] راجع في هذا العدد، تاتيانا لبّوس، “فرنسا تعتمد قواعد أكثر مرونة في إثبات الجرائم الجنسية: هكذا نحمي الضحايا”، المفكرة القانونية، آذار 2020.
[3] Tata, C., 2002. Accountability for the sentencing decision process: Towards a new understanding, In Tata C., Hutton N. Sentencing and society, International perspectives, Alderschot, Ashgare, p.399-428
Vanhamme, F., 2009. La rationalité de la peine: enquête au tribunal correctionnel. Bruylant.
[4] Anani, G., 2013. Dimensions of gender-based violence against Syrian refugees in Lebanon. Forced Migration Review, (44). P.75-78
[5] United Nations Economic and Social Commission for Western Asia (ESCWA), United Nations Population Fund (UNFPA), UN Women, United Nations Development Program (UNDP), “Lebanon Gender Justice and The Law” (2018).
United Nations Development Program (UNDP), United Nations Population Fund (UNPFA), United Nations Entity for Gender Equality and the Empowerment of Women (UN Women), “Gender-Related Laws, Policies and Practices in Lebanon”, (2018).
[6] تجدر الإشارة إلى انه تم إستبعاد 4 أحكام من العينة، واحد صادر في بيروت وثلاثة في جبل لبنان، وهي أحكام غيابية سقطت تبعاً للمحاكمة الوجاهية خلال السنوات التي تشملها العينة.
[7] تم الاستحصال على هذه الاحكام بموجب طلب حصول للمعلومات وجّه إلى كل من الرئيس الاول في بيروت وجبل لبنان، فيما ان تصوير وتحديد الاحكام المشمولة في العينة كان بموجب تعاون مع الموظفين القضائيين الذين قاموا بتزويدنا بنسخ عن الاحكام. إلا أنه، وبسبب غياب المكننة عن المحاكم، لا يمكننا الجزم بأن العينة شاملة لكافة الاحكام الصادرة في السنوات المذكورة.
[8] بحسب قانون أصول المحاكمات الجزائية، تمرّ الدعوى الجنائية قبل وصولها إلى محكمة الجنايات بقاضي التحقيق الذي يقوم بكافة التحقيقات ويصدر قراراً ظنياً بالإدانة، ومن ثمّ بالهيئة الإتهامية التي تصدر قراراً اتهامياً وتحيل الملف الى محكمة الجنايات.
[9] بلغت نسبة الإدانة 67% في لأحكام الوجاهية، و100% في الأحكام الغيابية.
[10] محكمة الجنايات في جبل لبنان، 28 أيار 2018
[11] 47% من المتّهمين هم من العمّال الأجانب، من الجنسيّات السورية والفلسطينية والسودانية والمصرية
[12] Bourke, J., 2015. Rape: A History from 1860 to the Present. Hachette UK. P. 121-125.
[13] Cottino, A. and Fischer, M.G., 1996. Pourquoi l’inégalité devant la loi?. Déviance et société, 20(3), pp.199-214.
[14] Brownmiller, S., 1975. Against our will: Men, women and rape. New York: Fawcett Columbine. P. 174, 181, 195, 348-9.
[15] Stanko, E. A. 1985 Intimate Intrusions: Women’s Experience of Male Violence. London: Routledge & Kegan Paul. p.91.
[16] Phipps, A., 2009. Rape and respectability: Ideas about sexual violence and social class. Sociology, 43(4), pp.667-683.