“
صدر عن وزير الداخلية والبلديات التعميم رقم 24/إ.م/2018 وهو يتعلق بمراقبة الجمعيات من قبل الوزارة وفق آلية جديدة. وقد جاء في التعميم أن امتناع الجمعيات عن إبلاغ الحكومة بالسجلات الواجب على الهيئة الإدارية للجمعية أن تمسكها وفق أحكام القانون[1] يجعل منها سرية. ومن أبرز هذه السجلات، لائحة تتصمن أسماء أعضاء الجمعية ونسخة من موازنتها السنوية ومن حسابها القطعي السابق، فضلا عن إعلام الحكومة بما يقع من تعديل في نظامها الأساسي أو في هيئة إدارتها أو مقامها. وقد أضاف التعميم أن القانون أتاح للوزارة توفير مندوبين للإشراف على انتخابات الجمعيات ومراقبة ميزانياتها والتأكد من هوية المنتسبين إليها.
وقبل التعليق على هذا التعميم، تجدر الإشارة إلى أن الجمعيات تعدّ إحدى ركائز تطور الحياة الديمقراطية في أي بلد، وبالإمكان القول بأن وضع حرية الجمعيات هو أحد أهم المعايير لتقييم مجمل حقوق الإنسان. وقد تم تكريس هذه الحرية في لبنان من خلال المادة 13 من الدستور وقانون الجمعيات الصادر سنة 1909 بالإضافة إلى المعاهدات والمواثيق الدولية (المادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المادة 8 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية). ويكون للإدارة تبعا لذلك مراقبة عمل الجمعيات وفق الصلاحيات التي أولاها القانون لوزارة الداخلية، مع مراعاة مبدأ حرية التجمع واستقلال الجمعية. وعمليا، قد لا تكون الممارسة الإدارية مطابقة دائما للدستور والقانون. فالإدارة تجنح غالبا نحو المزيد من بسط سلطتها عبر تفريغ مبدأ حرية الجمعيات من مضمونه وفرض قيود غير قانونية على الجمعيات كالواردة في تعميم وزير الداخلية رقم 24/إ.م/2018.
ويستدعي التعميم الجديد الملاحظات الآتية:
جمعية سرية بموجب تعميم؟
عملا بالمادة 6 من قانون الجمعيات، يتوجب على الجمعيات إعلام وزارة الداخلية عن واقعة تأسيسها تحت طائلة إعتبارها من الجمعيات السرية. ومن مراجعة نص المادتين 6 من قانون الجمعيات و337 من قانون العقوبات، يتبين بأن الجمعية تكون سرية عند توفر عنصرين:
- أن يكون غرض الجمعية منافيا للقانون،
- أن تكون الجمعية لم تعلم السلطة بأنظمتها وهوية أعضائها وذلك بالرغم من طلب الإدارة ذلك منها أو تزويدها بمعلومات كاذبة.
ولا يسع الإدارة أن تستنتج السرية من حالات مخالفة أو تتوسع في تفسيرها لتطال حالات أكثر. فالمشرع عرف الجمعيات السرية بشكل واضح ولا يمكن للإدارة التوسع في مفهوم الجمعية السرية وتوصيفها بذلك إستنادا إلى معطيات لم يجزها القانون تحت طائلة بطلان عملها[2].
وفي استشارة لهيئة التشريع والإستشارات، اعتبرت أن تأليف الجمعيات السرية ممنوع وتترتب عليه جزاءات، ويكفي حتى لا تكون الجمعية سرية أن يبادر مؤسسوها إلى التصريح عنها[3]. والخطير في التعميم أنه اعتبر الجمعية سرية لمجرد عدم إبلاغ الوزارة بموازنتها وأسماء أعضائها والتعديلات على نظامها، علما أن عقوبة الجمعية السرية هي حلها ومصادرة أموالها بحسب المادة 338 من قانون العقوبات. وما ورد في تعميم الداخلية يوحي للقارئ أن جزاء عدم احترام الجمعية لموجباتها هو اعتبارها سرية وبالتالي حلها ومصادرة أموالها.
وهذا الأمر يتعارض مع اجتهاد مجلس شورى الدولة مستقر بعدم جواز حل الجمعية إلا بنص قانوني، حيث قضى “بما أن حرية الإجتماع وتأليف الجمعيات هي من الحريات الأساسية التي كفلها الدستور اللبناني ووضعها ضمن دائرة القانون في المادة الثالثة عشرة منه، ولا يجوز بالتالي وضع قيود على تأسيس وإجازة حلها إلا بنص قانوني… وبما أن سلطة الإدارة في سحب العلم والخبر من الجمعيات المرخص لها مقيدة بأصول وإجراءات معينة وتقتصر على ثبوت انحراف الجمعية عن الغايات التي أجيزت من أجلها وخروجها في أعمالها عن أهدافها المشروعة بغية حظر قيام الجمعيات السرية التي انحرفت عن أهدافها بعد ثبوت عدم مشروعية نشاطها.”[4]
وهنا نسأل: ما هو جزاء عدم إحترام الجمعية للموجبات التي فرضها القانون؟
فيما يتعلق بمسك السجلات والإعلام السنوي بأسماء الأعضاء والموازنة، فإن إغفالها من قبل الجمعية يعرضها للغرامة النقدية بحسب المادة 8 من القانون المنفذ بالمرسوم رقم 10830 تاريخ 9/10/1962. ولا يترتب بالمقابل أي نتائج أخرى كاعتبار الجمعية سرية توصلا لحلها أو سحب العلم والخبر.
أما فيما خص إعلام الإدارة عن التعديل في الأنظمة أو عن التبديل في الهيئة الإدارية، فإن جزاء مخالفته بحسب المادة 6 من قانون الجمعيات هو عدم سريان التعديل أو التبديل على الغير في تعاطيه مع الجمعية.
الترخيص بدل التصريح؟
من جهة أخرى، أعلن تعميم الداخلية بشكل لافت أن دائرة الشؤون السياسية والأحزاب والجمعيات تتولى “تحضير النصوص اللازمة لإعطاء التراخيص بتأليف الجمعيات والأحزاب والأندية”. بحسب المادة الثانية من قانون الجمعيات، فإن تأليف الجمعية لا يحتاج إلى الرخصة في أول الأمر ولكنه يلزم في كل حال بمقتضى المادة السادسة إعلام الحكومة بها بعد تأسيسها.
يتبين من هذا النص ان الجمعية تنشأ بمجرد التقاء مشيئة مؤسسيها دون حاجة لأي ترخيص من السلطات الإدارية، بحيث يكون كل ما يتوجب على الجمعية القيام به بعد التأسيس، إعلام الإدارة بذلك. وهذا ما أكده إجتهاد مجلس شورى الدولة مرارا لجهة أن تأسيس الجمعيات لا يحتاج إلى أي ترخيص بل يكتفي بإعلام الإدارة بهذا تأسيس بعد حصوله. وقد ورد هذا الاجتهاد في قرار حديث لمجلس شورى الدولة قضى ب “أن الجمعية تؤسس بإرادة مؤسسيها عبر اتفاق يضعون بموجبه معارفهم ونشاطهم المشترك بشكل دائم ومستمر تحقيقا لغايات وأهداف محددة وأن دور الإدارة يقتصر ما دامت الجمعية مجرد إتفاق، على قبول البيان الذي يقترحه القانون وإعطاء أصحاب الشأن علما وخبرا وإيصالا يثبت إتمام المعاملات المقررة بالقانون وتضمينه بيانا بالمستندات المقدمة بعد أن تقوم بالتحقيق لكشف حقيقة الجمعية وأهدافها ووسائل العمل التي تستخدمها وذلك لا يعدو كونه تصريحا أو إفادة من وزارة الداخلية بأنها أصدرت علما وخبرا بتأسيسها الجمعية التي تؤسس بإرادة مؤسسيها لا بموجب ترخيص”[5].
إن عبارة الترخيص الواردة في التعميم تتعارض مع المبادئ القانونية التي ترعى حرية تأسيس الجمعيات وكذلك مع الضمانات التي وضعها الدستور والقانون للحؤول دون تدخل الإدارة في تأسيس الجمعيات مما يكون من شأنه تعطيل مدى هذه الحرية وفاعليتها.
ولو ان عبارة ترخيص مذكورة في المرسوم رقم 4082 فمن غير الممكن سندا لمبدأ تسلسل قواعد القانون الوارد في المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية لمرسوم أن يتعارض مع قانون الجمعيات والدستور.
التعميم يتخطى الدستور والقانون ويخلق صلاحيات جديدة لوزارة الداخلية
الجمعية عقد منظم بين أعضائها لتوحيد معلوماتهم أو مساعيهم بصورة دائمة ولغرض لا يقصد منه اقتسام الربح. فالأساس في تأسيس الجمعيات هو إرادة مؤسسيها، بحيث تنشأ شخصية معنوية مستقلة للجمعية. ولا يمكن للإدارة أن تقوم بأي تدبير بحقّ الجمعية، إلا إذا جاء هذا التدبير موافقا للقوانين والأنظمة وتنفيذا لها[6].
عمليا يقتصر دور الإدارة، ما دامت الجمعية مجرد اتفاق في ما بين أعضائها، على قبول التصريح الذي يقترحه القانون وإعطاء أصحاب الشأن العلم والخبر وإيصالا يثبت إتمام المعاملات المقررة بالقانون وتضمينه بيانا بالمستندات المقدمة، بعدما تقوم بتحقيق لكشف حقيقة الجمعية وأهدافها ووسائل العمل التي تستخدمها[7].
وبخلاف ذلك، نصّ التعميم على أن القانون أتاح لوزارة الداخلية والبلديات – المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين أن توفّر مندوبين من قبلها للإشراف على انتخابات الجمعيات ومراقبة ميزانياتها والتأكد من هوية المنتسبين إليها.” ولكن، أين أتاح القانون لوزارة الداخلية أن توفر مندوبين من قبلها للإشراف على إنتخابات الجمعيات؟”
وفق التعميم، تستمد وزارة الداخلية هذه الصلاحية من المادة 21 من مرسوم تنظيم وزارة الداخلية والبلديات رقم 4082 تاريخ 14/10/2000 والتي حددت المهام والصلاحيات التي تتولاها هذه الوزارة بقضايا الجمعيات. ويظهر التدقيق في هذا المرسوم عدم صحة الاستشهاد به، طالما أن الصلاحية المناطة بموجبه لوزارة الداخلية بما يخص مراقبة الجمعيات هو التحقق من عدم قيامها بما يتنافى مع الغاية التي أنشئت من أجلها، وليس أي أمر يتصل بتنظيمها الداخلي. والمقصود من النصوص التنظيمية الرامية إلى تأمين الإشراف على الجمعيات ومراقبة نشاطها هو تمكين الإدارة من التحقق مما إذا كانت الجمعيات لا تسيء في نشاطها ممارسة الحرية التي كانت سندا لإنشائها ولا تقوم بما يتنافى مع الغاية التي تأسست من أجلها[8]. وفي هذا السياق، لا يوجد أيّ نص قانوني يجيز للحكومة وأجهزتها التدخل في شؤون إدارة الجمعية لجهة تأليف هيئاتها الإدارية أو لجهة الإنتخابات والنزاعات التي يمكن أن تنشأ من جرائها. ذلك ان نتائج الإنتخابات ليست بحاجة، لكي تصبح نافذة ومعمولا بها، لصدور أي قرار اداري للموافقة عليها من قبل وزارة الداخلية. بل إن الإنتخابات بمجرد إجرائها والإعلان عنها، هي نافذة بحد ذاتها وفق الأحكام القانونية والتنظيمية. إن إجراء الإنتخابات في جمعية أو إتحاد أو نقابة ما وإعلان نتائجه من قبل أفراد هذه الجمعية، إنما هو من الحقوق الفردية والحريات العامة التي كفلها الدستور في مادته الثالثة عشرة والقوانين الوضعية النافذة. (8)
وقد سبق لوزير الداخلية أن أصدر تعميما عام 2006 رقم 10/م/2006 مؤكدا أن القانون لم يعطِ الإدارة أية سلطة رقابية في موضوع الإنتخابات، حيث ورد في البند الثاني أن للجمعية كامل الحرية في إنتخاب أعضاء هيئتها الإدارية وهذا الإنتخاب لا يخضع لرقابة وزارة الداخلية حيث لا حاجة لحضور ممثل من قبلها العملية الإنتخابية لإنتفاء النص القانوني على ذلك.
ورغم أن التعميم رقم 24/إ.م/2018 يؤكد حرص الوزارة على توفير المناخ الديمقراطي والقانوني للجمعيات، يعود من جهة أخرى ليورد “…لذلك، فإن المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين، وحرصا منها على المصلحة العامة، عليها التشدد في الرقابة على الجمعيات…”
كيف يمكن فهم هذا التشدد في الرقابة على الجمعيات؟ وهل يكون التشدد بمخالفة الدستور والمعاهدات الدولية والقانون وإجتهاد مجلس شورى الدولة؟[9])
فالجمعية كشخص معنوي مستقل يترتب عليها المسؤولية الجزائية والمدنية في حال إرتكاب ما يخالف القانون، ويجدر بوزارة الداخلية ممارسة صلاحياتها كما وردت في القانون. ومن المؤكد أنه لا يمكن لتعميم وزاري أن يخالف أحكام الدستور والقانون سندا لمبدأ الشرعية بإستحداث قيود لم يرد بشأنها نص تشريعي صريح. وطالما أن القانون لا يعطي وزارة الداخلية صلاحية إعتبار الجمعية سرية وسحب العلم والخبر بمجرد عدم تقيد الجمعية بموجباتها، ولا صلاحية الإشراف على الإنتخابات، فيكون منح الوزارة نفسها مثل هذه الصلاحيات هو من قبيل تجاوز حد السلطة.
بإنتظار تقديم مراجعة أمام مجلس شورى الدولة من قبل صاحب مصلحة وصفة توصلا لإبطال هذا التعميم.
مقالات ذات صلة:
منع ناشط بيئي من ممارسة حرية تأسيس جمعية
المؤتمر الصحافي حول قضية “الطبيعة الأم”
“الطبيعة الأم” تظفر ب “العلم والخبر”: وزارة الداخلية رضخت لقرار شورى الدولة
[1] المادة السابعة من قانون الجمعيات والمادة السابعة من مشروع القانون المنفذ بالمرسوم رقم 10830 تاريخ 9/10/1962
[2] القاضي زياد أيوب، الجمعيات في لبنان بين التشريع والإجتهاد، المؤسسة الحديثة للكتاب، الطبعة الأولى 2015 ، ص 101، والجمعيات في لبنان دراسة قانونية، المحامي غسان مخيبر، بيروت 2002.
[3] استشارة رقم 567 تاريخ 17/10/1962، مجموعة اجتهادات هيئة التشريع والإستشارات، عدد 7 ص 7008
[4] مجلس شورى الدولة، قرار رقم 135/2003-2004 تاريخ 18/11/2003، نزيه نعيم شلالا، دعاوى الأحزاب والجمعيات، المؤسسة الحديثة للكتاب، الطبعةالأولى 2011 ،ص 110.
[5] مجلس شورى الدولة، قرار رقم رقم 231/2016-2017 تاريخ 15/12/2016، “حكم جمعية الطبيعة الأم” الموقع الإلكتروني لجمعية المفكرة القانونية.
[6] القاضي زياد أيوب، مرجع مذكور أعلاه.
[7] إستشارة رقم 154، تاريخ 28/3/1972، مجموعة اجتهادات هيئة التشريع والإستشارات، العدد 7 ص 7039
[8] مجلس شورى الدولة، قرار رقم 397 تاريخ 24/3/2003، مجلة القضاء الإداري 2007 ص 726. ومن أهم ورد فيه العبارات الآتية: “بما أن حرية الاجتماع وتأليف الجمعيات هي من الحريات الأساسية التي كفلها الدستور اللبناني ووضعها في دائرة القانون في المادة 13 منه. ولا يجوز بالتالي وضع قيود على تأسيسها وإجازة حلها إلا بنص قانوني، ولا يجوز إخضاعها لجهة صحة تكوينها لأي تدخل مسبق من جانب الإدارة ولا حتى من جانب القضاء؛ وبما أن سلطة الإدارة في سحب العلم والخبر من الجمعيات المرخص بها مقيدة بأصول واجراءات معينة وتقتصر على ثبوت انحراف الجمعية عن الغايات التي أجيزت من أجلها وخروجها في أعمالها عن أهدافها المشروعة بغية حظر قيام الجمعيات السرية التي انحرفت عن أهدافها بعد ثبوت عدم مشروعية نشاطها؛ وبما أن البلاغ المطعون فيه يستند فيما يستند إليه للأخذ بالانحرف المبرر لسحب العلم والخبر على أسباب جديدة لم ترد أصلا في قانون الجمعيات لا سيما لجهة إجراء الانتخابات في الجمعية وإعلان نتائجها والتي تعني الحقوق الفردية والحريات العامة التي كفلها الدستور والقوانين الوضعية النافذة، ويكون هذا البلاغ بالتالي مخالفا للقانون ومتجاوزا لحد السلطة ومستوجبا الإبطال لانتفاء السند القانوني الصحيح الذي يجيزه”.
“