استعداد لإنجاز خطة “ترشيد الدعم”: الحكومة ترثي الطبقة الوسطى وتعلن 2021 “سنة صعبة”


2021-01-29    |   

استعداد لإنجاز خطة “ترشيد الدعم”: الحكومة ترثي الطبقة الوسطى وتعلن 2021 “سنة صعبة”
(دالاتي نهرا)

أرسل مدير عام مجلس الوزراء محمود مكيّة بتاريخ 21/12/2020 إلى مجلس النوّاب نسخة عن تصور أوّلي للحكومة لما أسماه “ترشيد الدعم” وعن سيناريوهات مختلفة انطلاقاً من كون هذا الأمر يشكّل وبحسب ورقة الحكومة “الخيار الأنسب والضروري ويحتاج إلى قانون من مجلس النوّاب”. وتستند الورقة الحكومية على تصوّر وضعته وزارة الاقتصاد والتجارة مع البنك الدولي لتحويل الدعم من دعم مباشر لبعض السلع إلى دعم من خلال البطاقة التمولية للأسر. وإذ يشكّل تصوّر وزارة الاقتصاد الملحق رقم 2 لورقة الحكومة ويفي بغالبية المعلومات التفصيلية حول مشروع “رفع الدعم”، اكتفت الورقة الحكومية بإضافة احتمالات أخرى مستمدة من تصوّر وزارة الاقتصاد هذا، مع تعديل نسب الدعم المباشر ونسب دعم البطاقة التمويلية. وقد اعتبرت الخطة الحكومية أنه “باتت إعادة النظر بسياسية الدعم قضية محورية وأولوية وهاجساً وطنياً ومطلباً خارجياً” لا سيما من صندوق النقد والدول المانحة، بسبب تبعاتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعلى المالية العامة واحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.

وقبل تقييم مشروع “ترشيد الدعم” (إستناداً إلى الورقة الحكومية وتصوّر وزارة الاقتصاد) وتقديم الملاحظات الأولية على ضوء حديث أجرته المفكرة القانونية مع الاقتصادي ومدير مؤسسة البحوث والاستشارات د. كمال حمدان، تقتضي الإشارة أولاً إلى أن أخطر ما تضمنته هذه الورقة هي المعطيات والأرقام حول وضع الاحتياطات الوطنية بالعملات الأجنبية (وأهمها إقرار الورقة بأنه لم يتبقّ لمصرف لبنان من العملات الأجنبية سوى 590 مليون د.أ خارج الاحتياطات الإلزامية)، وثانيا استمرار تعاطي “الدولة” بمن يمثّلها مع الواقع، في اقتراح حلول منفصلة عن الواقع مع ما يرافق ذلك من تعريض المجتمع للخطر وتفريط بما تبقى له من زخيرة للنهوض.

غياب الأساس المنطقي لخطة ترشيد الدعم:

ما هي الخيارات والأهداف التي تؤسس للمفاضلة بين المصالح المختلفة في المجتمع؟

أخطر ما في الورقة الحكومية على الإطلاق المقاربة التي تعتمدها بحصر اشكالية ذوبان كتلة احتياطي المصرف المركزي بالعملات الأجنبية باشكالية “الدعم”. ومن غير الواضح ما إذا كان ذلك نتيجة للجهل أو خياراً مقصوداً، إلا أنه في الحالتين كارثي.

وهنا يجدر التذكير بأن الاحتياطي المتبقي يشكل الزخيرة المتبقية لأهداف متعددة لا يشكل الدعم إلا أحدها. فهو الزخيرة التي يؤمل منها أيضا أن تضع الأسس للتحوّل الاقتصادي مما كان عليه في العقود الثلاثة الماضية واتكاله شبه الحصري على التدفقات والتحويلات من خارج لبنان (بعد تهجير ممنهج للقوى العاملة) والاستيراد، بعد انهيار هذا النموذج والنظام المصرفي الذي شكّل حجر الزاوية له. كما هو الزخيرة لتأمين الحدّ الأدنى من الخدمات العامة وتأمين الحماية الاجتماعية الواسعة لسكان لبنان خلال المرحلة القادمة الصعبة. هذا دون الحديث عن حقوق المودعين التي تتبخر بقدر ما تبخر المتبقي من هذه الاحتياطيات الإلزامية منها كما غير الإلزامية.

وتظهّر بالواقع التساؤلات حول كيفية استخدام الاحتياطي مصالح متناقضة يتوجب المفاضلة والموازنة بينها وفق خيارات عاقلة لتحقيق أهداف محدّدة في سبيل المصلحة العامة. فمن جهة أولى، تقتضي مصلحة الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة استخدام الاحتياطات بالعملة الأجنبية، وضمناً الاحتياطي الالزامي (بسبب ذوبان كتلة الاحتياطي)، بشكل رئيسي لدعم قدرتها الشرائية وتأمين الحقوق الاجتماعية الأساسية. من جهة أخرى، تقتضي مصلحة المودعين (وهم بحدود 50 % فقط من اللبنانيين) عدم المساس بالاحتياطي الإلزامي لحماية النزر اليسير مما تبقّى لهم من ودائعهم المصرفية، وبخاصة للمدخرين الصغار والمتوسطين. كما تقتضي من جهة ثالثة المصلحة الاقتصادية اقتطاع جزء مهمّ من هذا الاحتياطي لوضع أسس تحويل الاقتصاد اللبناني والتطلّع إلى الخروج من احتضار الاقتصاد اللبناني اليوم.

وتغيب هذه الأبعاد الجوهرية لاستخدام الاحتياطي تماماً عن الصورة، إن في الورقة الحكومية، أو في خطاب جميع الجهات الرسمية والسياسية منذ اتضاح معالم الانهيار في تشرين الأول 2019. ولعلّ هذا التغييب، الذي يضاف إليه تغييب أي تشريع للكابيتال كنترول لمنع خروج العملات من لبنان حماية للمصلحة الوطنية، استكمالٌ وتسهيلٌ لعملية استنزاف هذا الاحتياطي لمصلحة قلّة قليلة، من خلال استمرار التحويلات إلى الخارج لكبار المودعين واستخدام ما تبقى محلياً لتغذية شبكات المصالح نفسها من تجار وتكتلات احتكارية ومستوردين كبار دون وضع أي معايير ترشّد استخدام الاحتياطي.

فلا تقارب الورقة المسألة سوى من منطلق “ترشيد الدعم”. ومن المعلوم أن ما تشير إليه الحكومة والخطاب العام بال”دعم” ليس سوى خيار مصرف لبنان خلال العام ونيف الماضي بتأمين الدولار الحقيقي بسعر “مدعوم” أي 1507 ل.ل.، للحكومة والتجّار لتغطية 85 إلى 90% من قيمة المواد الأساسية كالقمح والأدوية والوقود، و3900 ل.ل. لتأمين 100% من قيمة سلة منفصلة من السلع. وقد ساهمت هذه السياسة فعليا في الإبقاء على نمط استهلاك فوضوي ومفرط لعدد كبير من السلع وخدمة مصالح شبكة من التجّار – أغلبهم محتكرين للأسواق التي ينشطون فيها، فضلا عن أنها خدمت مصالح الفئات الأغنى أكثر مما خدمت مصالح الفئات الهشة. وهذا ما أقرّت به الورقة الحكومية وورقة وزارة الاقتصاد. ففيما أشارت الأولى إلى أن الاستمرار بهذه الخيارات استمرار في “سياسة مكلفة وغير فاعلة في تحقيق مصلحة المواطن اللبناني”، فإن الثانية اعتبرت أن “دعم المنتجات هو تنازلي (…) ويفيد بشكل أساسي الخمس الأغنى”. وأعطت ورقة وزارة الاقتصاد مثل استفادة الربع الأفقر من 6% فقط من إجمالي دعم وقود النقل بينما يحصل الأغنى على 55% منه (بحسب دراسة لوزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2015).

إلا أن السؤال الجوهري الذي يقتضي طرحه هو الآتي: ما هي خطة “الدولة”، من حكومة ومجلس نوّاب ومصرف لبنان وكتل نيابية، ما هي الوجهة المقترحة للخروج من الأزمة؟ ما هي الخيارات التي اعتمدت؟ ما هي الأسباب الموجبة والمرجعية التي يقتضي الاستناد إليها للقول والقبول بالتضحية بمصالح فئة ما على حساب فئة أخرى؟ فمن الخطير جداً المضي في استنزاف الاحتياطي الالزامي هذا من دون أي تصوّر لتوزيع الخسائر، وتقييد قانوني لحركة الرساميل، وخيارات الاستثمار والإنفاق تسهم في الخروج من الأزمة وحماية المجتمع خلال المرحلة الانتقالية.

ولعلّ أقصى ما تقوم به الورقة الحكومية التعريج على التبعات الخطيرة المرتبطة بخيارات استخدام الاحتياطي، أبرزها تأثير ذلك على معدّلات التضخم وعلى القدرة الشرائية وسعر صرف الليرة والنمو الاقتصادي بما له من تأثير على المؤسسات الاقتصادية ومعدلات البطالة والفقر وعلى المالية العامة؛ كما لاستخدام الاحتياطي الإلزامي تأثير أكيد على القطاع المصرفي المتعثّر. كما رفعت الحكومة مسؤولية اتخاذ الخيارات السياسية هذه عن نفسها، ووضعت الكرة في ملعب المجلس النيابي، حيث اعتبرت من الضروري لترشيد الدعم صدور قانون عن مجلس النوّاب. وانتهت الحكومة في ورقتها إلى القول: “عام 2021 سيكون عاماً صعباً اجتماعياً مالياً واقتصادياً”.

الإشكاليات التقنية في خطة الحكومة

تستند خطة الحكومة بشكل رئيسي، كما ذكرنا، إلى تصوّر صادر عن وزارة الاقتصاد والتجارة أعدّته مع البنك الدولي لاستبدال ما أسمته “برنامج الدعم بالعملات الأجنبية” للمحروقات والقمح والسلع الأساسية الحالي، ب”برنامج تعويضات نقدية واسعة للمواطنين اللبنانيين المقيمين”، أو ما يعرف بالبطاقات التمويلية الإلكترونية. وكان تصوّر وزارة الاقتصاد قد اقترح شمول البرنامج 70 إلى 80% من السكّان، أي ما يوازي بحسب الوزارة 600 ألف عائلة، واستثناء 20 إلى 30% من السكّان الأغنى في لبنان. وتؤكد الوزارة أن ذلك سيخفّض عدد الأفراد المدعومين من 6 إلى 3 مليون (كونه لا يشمل المقيمين غير اللبنانيين)، ويشكّل “خطوة جيّدة نحو برنامج محتمل لصندوق النقد الدولي”، دون أن يلغي الضرورة الملحّة للاتفاق مع الصندوق.

وأوضحت الورقة الحكومية أن الدعم الشهري وفق ما هو معتمد اليوم (معطيات عام 2020) يبلغ بحسب مصرف لبنان ووزارة المالية 500-600 مليون دولار والسنوي 6-7 مليار دولار.

وطرحت الخطّة الحكومية سيناريوهات مختلفة تهدف إلى تخفيض قيمة الاحتياطي المستخدم دون ال4 مليارات دولار سنوياً (مقابل حوالي 7 مليارات – 6910 مليون دولار – كانت مرتقبة للعام 2021 في حال بقاء الأمور على حالها). والفارق بين السيناريوهات المتعدّدة محكوم بتوزّع قيمة الدعم بين الدعم بالعملات الأجنبية مباشرة لبعض السلع الأساسية كالفيول والقمح، وقيمة الدعم من خلال البطاقة التمويلية.

ويلخّص الجدول أدناه هذا التوزّع:

سيناريوهات ترشيد الدعم (انقر على الجدول لتكبير الصورة)

إشكاليات خطة الحكومة لترشيد الدعم

إشكاليات عديدة تعتري خطة الحكومة لترشيد الدعم، أبرزها الآتية:

ضبابية في معايير الاستفادة من البطاقة التمويلية: تكتفي الورقة الحكومية بالتأكيد، استناداً إلى تصوّر وزارة الاقتصاد، أن البطاقة التمويلية ستغطي 600 ألف عائلة، “على أن يتمّ العمل على آلية مناسبة لاختيار العائلات التي ستستفيد منها” دون تقديم أي معيار أو توضيح إضافي. ومن المزمع أن تغطي البطاقة 100% من احتياجات العائلات الأكثر حاجة وقد قدّرتها الورقة ب25% من اللبنانيين، و41% من احتياجات الربع الثالث أي – دائماً بحسب ورقة وزارة الاقتصاد – “ما كان يسمى الطبقة المتوسطة سابقاً”. ومن الممكن التوجّس من آلية تحديد المستفيدين بالنظر إلى عدم توفّر المعلومات والاحصاءات الدقيقية لدى الدولة، كما بالنظر إلى ما سبق من تجارب في المجال، مع لعب دور الأحزاب والزعامات الطائفية دوراً في هذا المجال إنعاشاً لقنوات الزبائنية.

غياب معايير الإدارة الرشيدة للبرنامج: لا توفّر الورقة الحكومية أية معطيات حول الجهة المولجة إدارة البرنامج والمعايير التي يقتضي التقيّد بها، مما يحمل هنا أيضاً على التوجّس من يد طولى للأحزاب والزعامات الطائفية في إدارة البرنامج كما جميع البرامج المشابهة إنعاشاً لقنوات الزبائنية، وبعيداً عن معايير الإدارة الرشيدة والشفافة.

إقصاء المقيمين غير اللبنانيين من الاستفادة من البطاقات التمويلية: تقدّر ورقة وزارة الاقتصاد اللاجئين بمليونين (880 ألفآً فوق ل23 عاماً و1100 ألفاً دون ال23 عاماً). ولعلّ نية إقصائهم تتضحّ صراحة في تأكيد هذه الورقة على أهمية وضع “برنامج مشابه للاجئين يجب أن يموّل من قبل المجتمع الدولي وبالتالي يجلب العملة الصعبة إلى البلاد”.

ضبابية حول العملة المعتمدة للبطاقات التمويلية: في حين كانت ورقة وزارة الاقتصاد قد وضعت تصوراً يقضي بدفع المبالغ الممنوحة من المجتمع الدولي (تلك التي توفّرها الميزانية داخلياً) لمصرف لبنان الذي يوفّر مقابله دولاراً أميركياً بقيمة 1507 ل.ل كعملة الكترونية، على اعتبار أن ذلك يؤدي إلى تقديم الدعم بالدولار وحماية قيمته من أي تدهور أكبر في سعر العملة الوطنية، تفتقد الورقة الحكومية لأي تأكيد في هذا المجال مشيرة إلى “أنه لم يتمّ تحديد عملة تمويل البطاقة”. ويأتي كل ذلك في ظل توصّل المباحثات مؤخراً بين البنك الدولي والجهات الرسمية اللبنانية لقرار باستفادة حاملي البطاقة من 6200 ليرة للدولار الواحد (أي إضافة 60% الى سعر المنصّة البالغ 3900 ل.ل. للدولار).

وتشير ورقة وزارة الاقتصاد إلى استخدام البطاقات حصراً لدفع ثمن البضائع ورواتب بعض المهنيين واستيراد البضائع من قبل المستوردين، في حين من غير الواضح أبداً إن كان مصرف لبنان سيلتزم بذلك وما سيكون دوره، وحصّته من الأموال بالعملة الأجنبية الواردة إلى لبنان لتمويل البرنامج.

ضبابية في مصادر تمويل البرنامج: تكتفي الورقة الحكومية بالتأكيد على “ضرورة البحث عن مصادر تمويل لتأمين قيمة الدعم في السيناريوهات المختلفة، وضرورة طلب دعم الدول المانحة والبنك الدولي لأن “عام 2021 سيكون عاماً صعباً اجتماعياً مالياً واقتصادياً”. وحدّدت الورقة قيمة متوسّطة 165$ شهرياً للعائلة الواحدة في السنة الأولى (في السيناريو الأول) مع اعتماد 50$ للفرد فوق 23 سنة و25$ للفرد دون 23 سنة. ولا يكفي مجموع القروض (من البنك الدولي) ومنح الاتحاد الأوروبي وألمانيا البالغ 300 مليون دولار إلا لتغطية البرنامج جزئياً (أي 240 ألف عائلة من أصل 600 ألف).

غياب استدامة البرنامج: لا تقدّم الخطة أي إيضاح لسبل تمويل البرنامج للسنوات ما بعد 2021، في حين أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية مرشّحة لأن تستمر لفترة طويلة الأمد (أقلّه 5 أو 10 سنوات). كما لا تقدّم الخطة أي استراتيجية للخروج من البرنامج. واكتفت ورقة وزارة الاقتصاد بالإشارة إلى أن نسبة التغطية سوف تنخفض تدريجياً حتى 30% من السكّان مع “تحسّن الاقتصاد والقوة الشرائية” على مرحلة 5 سنوات، دون تقديم أي إيضاحات حول كيفية التوصّل إلى هذا التحسّن المرجو. ومن المعلوم أن أبرز إشكاليات برامج البطاقات التمويلية هي تأمين سبل لخروج تدريجي منه للمستفيدين.

 

انشر المقال



متوفر من خلال:

حقوق العمال والنقابات ، عمل ونقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، سياسات عامة ، جائحة كورونا ، البرلمان ، مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، قطاع خاص ، تشريعات وقوانين ، لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني