بتاريخ 11/03/2017، أصدر القاضي المنفرد الجزائي في جب جنين فادي العريضي قراراً في قضية تهريب أشخاص عبر الحدود. واللافت أن القاضي انتهى إلى إعلان عدم اختصاصه للنظر في القضية بعدما غيّر وصف الجرم المدعى به من تدخل في جرم دخول الأشخاص المهرَّبين خلسة (وهو جنحة) إلى جرم إتجار بالبشر (وهو جناية تخرج عن صلاحيته). وقد عكس الحكم سعيا للقاضي العريضي في الإجتهاد بهدف التشدد إزاء فعل تهريب الأشخاص عبر الحدود. وللتوصل إلى ذلك، توسع الحكم في تفسير المصطلحات المستخدمة في قانون معاقبة جرائم الإتجار بالبشر الصادر في 2011 على ضوء بروتوكول منع وقمع جرائم الإتجار بالأشخاص. واللافت أن القاضي ذهب أبعد من ذلك في اتجاه اقتراح تعديلات على القانون من دون أن يكون لمقترحاته أي رابط واضح مع القضية التي ينظر فيها.
“الإتجار بالأشخاص”… أداة للتشدد في قمع التهريب عبر الحدود؟
الإشكالية الأولى التي تطرق لها القرار هي تحديد ما إذا كان “تهريب الأشخاص الأجانب من سوريا إلى لبنان وبالعكس لقاء قبض مبالغ مالية يقع ضمن جرم التدخل الضروري في تهريب الأجانب أم يتصف بوصف جريمة الإتجار بالأشخاص.
وللإجابة على هذه الإشكالية، رأى القاضي أن من واجبه أولا التحرّي في مدى توافر عناصر جرم الإتجار بالأشخاص. فإذا توافرت، تكون هي الواجبة التطبيق دون غيرها من العقوبات المنصوص عليها في قانون الأجانب. وفي هذا السياق، أوضح القرار أن عناصر جرم الإتجار تكون متوفرة بمجرد اجتماع “الركنين المادي والمعنوي من دون حاجة لتحقق النتيجة الجرمية”. بهذا المعنى، يكفي “إحتجاز فتيات في مكان ما جراء التهديد وإستغلال حالة الضعف الإقتصادي أو أي حالة ضعف لديهن بقصد إستغلالهن بالدعارة أو دعارة الغير لتكون عناصر جناية الإتجار متوافرة بحق مختطفيهن من دون حاجة لتحقق نتيجة جرمية مادية تتمثل بواقعة ضبط الفتيات يمارسن الدعارة”.
وبالنسبة إلى الركن المادي، رأى القرار أنه متوفر بدليل أن المدعى عليه إستخدم إحدى الوسائل المذكورة قانوناً لاستغلال ضحاياه، وهي وسيلة “إستغلال السلطة”. وقد استدل إلى ذلك من منطلق أنه “مخبر” مكلف بمراقبة مراكز حدودية للدخول بصورة شرعية والخروج من لبنان وأنه استعمل سلطته ونفوذه هذين وصولا إلى إدارة شبكة لتهريب الأشخاص عبر الحدود خلافاً للقانون، ولقاء مبالغ نقدية أو مزايا. وقد عمد القاضي إلى مقارنة المدعى عليه بموظف الضابطة العدلية المكلف التقصي عن جرائم الدعارة والإتجار بالأشخاص والذي يستغل سلطته ونفوذه على الضحايا بقصد إستغلالهن.
أما “الركن المعنوي”، أي النية الجرمية، فقد استدلّ القرار على توفرها من واقعة إستفادة المدعى عليه من حالة ضعف الأشخاص الذين هربهم عبر الحدود والذين يسهل إخضاعهم للإستغلال، “لكونهم مضطهدين أو معرضين للخطر أو للتعذيب أو لإساءة المعاملة أو الإحتجاز التعسفي… أو لكونهم فارين من نزاعات مسلحة في بلدانهم…”.
وعليه، اعتبر القاضي العريضي أن إستغلال السلطة” لتهريب أشخاص في حال ضعف عبر الحدود لقاء مبلغ مالي، كافٍ لتطبيق أحكام جريمة الإتجار بالأشخاص، بمعزل عن مصير هؤلاء بعد عبورهم للحدود. فالقاضي العريضي تعامل مع عنصر الإستغلال على أنه نتيجة حتمية لأي حالة ضعف تكون فيها الضحية، بغض النظر عما إذا كان الجاني قد مارس فعليا أي فعل إستغلالي بحقها. فحيثيات القرار لا توضح بأي شكل وجود نية لدى المخبر لإستغلال الاشخاص الذين يتم تهريبهم إلى داخل لبنان في أعمال مخالفة للقانون، أو أسبقيات له في هذا المجال أو إتصاله بشبكات دعارة أو مخدرات أو تسول أو غيرها من الأعمال. وعليه، يظهر بوضوح أن القاضي العريضي اجتهد بهدف التشدد في قمع تهريب الأفراد عبر الحدود اللبنانية السورية، بالنظر إلى المخاوف الناتجة عن تفاقم هذه الظاهرة وازدياد عدد اللاجئين في لبنان.
ضحية الإتجار مرغمة دائماً
وللوصول إلى النتيجة سالفة الذكر، تعين على القاضي العريضي التصدي لمعضلة أخرى، وهي فيما إذا كان تطبيق قانون الإتجار بالبشر يصح رغم موافقة الأشخاص المهرّبين على فعل التهريب أي على استغلالهم وفق ما جاء في القرار. فهل يقتضي أن تكون ضحية الإتجار مرغمة على القيام بالأعمال التي تؤدي فعلياً إلى استغلالها؟[1]
وفي هذا السياق، يعتبر القاضي العريضي أن الوسائل التي ينص عليها القانون المشكلة لعناصر جرم الإتجار “تنطوي بماهيتها وبمدلولها على مفهوم الإرغام والإكراه والإخضاع والإنصياع والإجبار”. فهل يعقل “أن لا يكون التهديد بالقوة أو إستعمالها إرغاماً؟ وهل يعقل ألا يكون الإختطاف أو استغلال السلطة أو استغلال حالة الضعف أو إعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا دون حق أو إستعمال أي من هذه الوسائل على من له سلطة على شخص آخر إرغاماً له؟” وما دام الإرغام يتحقق تلقائياً، بالتالي تكون الضحية وفقاً لهذا التفسير معفية من إثبات حصوله.
إلى ذلك يرتكز العريضي في تفسيره لنص المادة 586 (1) (تعريف الإستغلال) إلى الغاية المبتغاة من إقرار هكذا قانون. ذلك أن “تحقيق مقاصد المشترع من قانون معاقبة جريمة الاتجار بالاشخاص، يتطلب حذف كلمة إرغام الواردة في تعريف الإستغلال. فمقصد المشترع من وضع هكذا قانون، لا بد يرتبط بـ” تحقق المصلحة في مكافحة ومعاقبة جريمة الإتجار بالأشخاص (المصلحة العامة الناتجة عن مكافحة هذه الجريمة)”. وتبعا لذلك، يسجل للقاضي العريضي، توجهه لتفسير النص، ليس إنطلاقاً من الغاية المعلنة للمشرع التي تظهر من محاضر الجلسات والنقاشات الحاصلة في معرض إقرار النص، بل من الغاية الحقوقية التي يفترض أن يحققها إقرار هذا النص بشكل عام. وهذه الغاية تستنتج بشكل أساسي من مضمون إلتزامات لبنان الدولية على هذا الصعيد. فينتهي القرار بالتالي إلى تفسير النص إنطلاقاً من هذه الإلتزامات، ومضمون البروتوكول أولا، ومن ثم إعمال قاعدة تسلسل القواعد القانونية المكرسة في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني، من خلال تطبيق “المادة 3 من بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الإتجار بالأشخاص الذي إنضم اليه لبنان…”.
ومن أهم نتائج هذا التفسير هو تحرير ضحايا الإتجار بالبشر من عبء إثبات أنها كانت مرغمة على مخالفة القانون لإبرائها من العقوبة حسبما جاء في المادة 586 (8).
القانون يحتاج إلى تعديلات
من اللافت ختاماً أن القاضي العريضي لم يتوقّف عند حدود تفسير المفاهيم المرتبطة بجريمة الإتجار بالأشخاص وموادها القانونية لتطبيقها على هذه القضية. بل أبعد من ذلك، أدرج القاضي بشكل غير اعتيادي مجموعة من التعديلات التي “يستحسن” إدخالها على القانون “لتحقيق مقاصد المشترع من أحكامه”.
ومن أهم هذه المقترحات:
- اقتراح إلغاء شرط الإرغام وفق ما تقدم،
- اقتراح تعديل المادة 586 (1) في اتجاه تعديل مواصفات الشخص الذي يعد اجتذابه أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو تقديم الـمأوى له، لغرض الاستغلال إتجاراً بالبشر حتى ولو لم يعبر الحدود. ففيما ينص القانون الحالي على وجوب أن يكون الشخص المذكور دون 18 سنة، يقترح القاضي تعديل النص ليشمل الذين دون 21 سنة وجميع الإناث أيا كان عمرهن،
- اقتراح “إعادة صياغة دقيقة لجميع نصوص جرائم الدعارة المواد 523 حتى 530 عقوبات وإدخالها ضمن سياق قانون الاتجار بالأشخاص بعد تعديله وتضمينه نصاً يجرم ويعاقب على شراء الخدمات الجنسية أو تحفيز الطلب على جميع أشكال إستغلال الاشخاص وبخاصة الأطفال والنساء والفتيات”. وتعليقا على ذلك، صرحت المحامية في منظمة كفى عنف واستغلال ليلى عواضة في اتصال مع المفكرة أن “النساء يشكلن الفئة المتضررة في الإستغلال الجنسي بشكل عام، ولا بد من تحريرهن من عبء إثبات أنهن مرغمات على القيام بهذا العمل، وأنهن بكل الأحوال ضحايا إستغلال الأمر الذي يستدعي معاقبة الذي يقوم بأعمال الإتجار وشاري الجنس بدلاً من النساء اللواتي يتم استغلالهن في أعمال الدعارة”.
وعلى الرغم من أهمية هذه المبادرة لما تعكسه من تمسك للقاضي بدوره على صعيد تطوير التشريعات، إلا أن بعض هذه الإقتراحات تستدعي مزيداً من التعمق والحذر، ولا سيما أن بعضها يؤدي إلى توسيع مفهوم الإتجار بالبشر على نحو يكاد يفقده معناه كأحد أخطر الجرائم المرتكبة، وأن بعضها الآخر يستعيد عمليا الصورة النمطية التي تظهر المرأة على أنها “قاصرة”.
نشر هذا المقال في العدد |50|حزيران 2017، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
“المدنية خجولة، النسبية كذلك”
[1] – غيدا فرنجية، قانون الإتجار بالأشخاص: أي حساسية إزاء ضحاياه، المفكرة القانونية، 18/10/2011.