“
ألقيت هذه الكلمة في المؤتمر الصحافي المنعقد في مكتب المفكرة القانونية، بالتعاون مع تجمع المهنيات والمهنيين والتيار النقابي المستقل.
30 سنة من صناعة الشهاشة في لبنان. 30 سنة تم خلالها ضرب أوضاع العاملين في القطاعين العام والخاص على حد سواء والاقتناص من حقوقهم المكتسبة والأساسية وفي الآن نفسه حماياتهم النقابية. هذه الهشاشة لم تهدف فقط إلى زيادة أرباح القطاع الخاص بما فيه من تداخل مع القوى الحاكمة، إنما بالأخص إلى تمكين القوى الحاكمة من وضع اليد على الإدارات العامة واستتباع القوى العاملة بعد إضعاف قدرتها على المقاومة والدفاع عن حقوقها وإخضاعها لنظام حكمها. وطالما تعززت هشاشة العاملين في القطاع العام بسياسات التوظيف العشوائي والسياسي والحزبي، بمنأى عن اعتبارات الكفاءة والاستقلالية: فبفعل هذه السياسات: كثر الموظفون المنتمون إلى أحزاب السلطة المهيمنة على الحكم، فيما حظر على جميع الموظفين الانتماء إلى نقابات تدافع عن حقوقهم.
وقد بدت تأثيرات هذه الهشاشة جلية مع بروز الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية، حيث برز شكلان من الاعتداءات على حقوق هؤلاء من دون حساب:
- الاعتداء على خليفة المشاركة في الإضراب أو التعبير عن الآراء على شبكات التواصل الإلكتروني؛ وهو اعتداء حصل في كلا القطاعين. وقد تلبّس فيما يتصل بالعاملين في القطاع العام المادة 15 من قانون الموظفين العامين التي تجرد هؤلاء من مجمل حرياتهم، بما يتناقض مع حسن إدارة الشؤون العامة والحريات المكرسة دستوريا ودوليا.
- التذرع بالأزمة الاقتصادية لتخفيض رواتب الأجراء أو صرفهم من دون مراعاة قانون العمل وبغياب وزارة العمل والاتحاد العمالي العام في هذا الإطار. وهو أمر تلوّح اليوم العديد من القطاعات الاقتصادية أنه سيطال أكثر من مائة ألف وظيفة. وقد تجلت نتيجة ذلك هشاشة الأوضاع القانونين للعاملين سواء في القطاع العام والخاص.
وردا على ذلك، ندلي بما يأتي:
أولا، إن من حق أي موظف التمتع بحرية التعبير والحريات النقابية لتعارض المادة 15 من قانون الموظفين الواضح مع الحقوق الأساسية المكرسة دستوريا ودوليا:
تتمتع حرية التعبير وحق الإضراب – وهو وجه ملازم للحرية النقابية– بقوة ذات وزن دستوري فضلا عن كونها محميين بموجب العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فبالإضافة إلى تكريس الدستور اللبناني لمبدأ العدالة الإجتماعية، يشكل الإضراب إحدى الوسائل المتاحة للشعب لتفعيل هذا المبدأ والمطالبة به.
وما يعزز هذا الأمر، الأمور الآتية:
1- أن المادة 15 هي في حال تعارض واضح فيما يتصل بحرية التعبير مع المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية وبما يتصل بحق الإضراب مع 8 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية “حق كل شخص في تكوين النقابات بالإشتراك مع آخرين وفي الإنضمام الى النقابة التي يختارها، دونما قيد سوى قواعد المنظمة المعنية، على قصد تعزيز مصالحه الاقتصادية والاجتماعية وحمايتها. ولا يجوز إخضاع ممارسة هذا الحق لأية قيود غير تلك التي ينص عليها القانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو النظام العام أو لحماية حقوق الآخرين وحرياتهم؛” فضلا عن “حق الإضراب”، شريطة ممارسته وفقا لقوانين البلد المعني. وفي حين تنص الفقرة 2 من المادة المذكورة أعلاه أنه يمكن إخضاع موظفي الإدارات الحكومية لقيود قانونية على ممارستهم لهذا الحق، فهذا يعني أن للدولة أن تنظم ممارسة هذا الحق من دون أن يكون لها بحال من الأحوال أن تعطله أو تلغيه بالكامل.
2- أن حق الإضراب قد تكرس واقعيا في الإضرابات التي أقامتها هيئة التنسيق النقابي في 2012 و2013 والقضاة بين 2017 و2019 وأساتذة الجامعة اللبنانية في 2019،
3- أن حق الإضراب ينسحب ليس فقط على الإضرابات المتصلة مباشرة على الوظيفة العامة والتي قد تعلنها هذه الرابطة أو تلك، إنما على الإضرابات التي تتخذ طابعا عاما له تأثير كبير وإن غير مباشر على وضعيات الموظفين العامين. وهذا ما يسمى الإضراب التضامني أي الإضراب الهادف إلى دعم مطالب جماعية ذات تأثير (وإن كان غير مباشر) على الأوضاع المهنية والإقتصادية الخاصة بالموظفين المتضامنين، فعلى سبيل المثال، فقد اعتبرت محكمة التمييز الفرنسية في القانون المقارن (الغرفة الإجتماعية، في قرارها تاريخ 29/05/1979)، أن صرف أجير من العمل من دون تعويض نتيجة تغيب هذا الأخير عن العمل للمشاركة في إضراب وطني هدفه رفض تجميد الأجور وتخفيض ساعات العمل، يشكل صرفاً تعسفياً من العمل لأن الإضراب الذي اشترك فيه هذا الأجير بمفرده دون سائر زملائه في المؤسسة كان إضراباً شرعياً وإن كان هدفه تحقيق مطالب مهنية على مستوى وطني وليس مطالب مهنية خاصة بالمؤسسة التي يعمل فيها.
4- وهذا ما ينطبق من باب أولى في الحالات التي لا يؤدي فيها الإضراب إلى شل الإدارات العامة بل فقط إلى تأمين خدماتها بالحد الأدنى، وفي الظروف الاستثنائية حيث للضرورات أحكامها.
ثانيا: أن أي تخفيض للرواتب أو الصرف لأسباب اقتصادية يخضع للمادة 50 و من قانون العمل وأي تجاوز له يرتب على أصحاب العمل تعويضات صرف تعسفي.
من البديهي أن لوزارة العمل اليوم الدور الأساسي في هذا الخصوص ضمانا لحقوق الأجراء. وشتان بين صمتها المدوي اليوم وصخبها في الدفاع عن العمالة الوطنية. فأين ذهب كل الحماس؟ أم أن الحماس يأتي فقط في إطار الهجوم على العمالة الأجنبية من دون أن يترافق مع أي مسعى لحماية الأجراء في مواجهة أصحاب العمل وفق ما كانت المفكرة حذرت منه.
انبنى النظام على صناعة الهشاشة الاجتماعية ولا سيما في مجالات العمل والوظيفة العامة وكل ما يؤدي إلى كسب العيش، وذلك بهدف أسر المواطنين ضمن مجموعات طائفية تسيطر القوى الحاكمة عليها. وعليه، من الطبيعي أن يكون من أول أهداف الثورة العكس تماما أي تشديد التضامن في اتجاه تقوية الأوضاع والحقوق، على نحو يحرر المواطن ويعزز قدراته على الدفاع عن نفسه وعن مجتمعه.
وعليه،
1- نطالب كل القوى النقابية إلى مؤازرة الموظفين والعمال حيث كانوا لاستعادة البنى النقابية التي تم تعطيلها ووضع اليد عليها وفي مقدمتها الاتحاد العمالي العام فضلا عن إنشاء بنى قادرة على الدفاع عن حقوقهم وبما يكرس عمليا وفعليا الحرية النقابية في أبهى صورها، كما نطالب القوى الثورية كافة على إبداء التضامن والتكافل التامين لمواجهة هذا الاستحقاق معا. فمعا نكون أقوى.
2- نطالب القضاء أن يكون على وعده لجهة مؤازرة القضايا الاجتماعية من خلال تسريع المحاكمات المتصلة بالنزاعات الناشئة عن الأزمة وإرساء الاجتهادات الحمائية للموظفين والعمال في هذه الفترة الصعبة. كما ندعو في الآن نفسه نقابة المحامين بشخص نقيبها أ. ملحم خلف (الذي هو أحد ثمار الثورة) إلى تسخير امكانات النقابة والعاملين فيها لمساعدة الموظفين والعمال الذين قد يتعرضون لأي ملاحقة أو تدبير تعسفي وتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم،
3- نطالب وزارة العمل أن تنشط لوقف المخالفات المتمادية الحاصلة في القطاع الخاص ضمانا للعمالة في القطاع الخاص، وتحرير محاضر المخالفات بحق أي شركة أو مؤسسة مخالفة، فضلا عن مطالبتها بوجوب التذكير بأن أي خفض للراتب أو صرف لأسباب اقتصادية لا يمكن أن يتم إلا من خلال مراعاة المادة 50 و من قانون العمل (الصرف لأسباب اقتصادية)،
4- نطالب المجلس النيابي بوضع الاقتراحات الفورية الآيلة إلى وضع حد للهشاشة وحماية العاملين في القطاعين العام والخاص تمكينا لهم من مواجهة هذه الأزمة، فلا تكون القوى العمالية البريئة منها، أول من يدفع ثمنها.
[1] تبعاً لقرار المجلس الدستوري رقم 2، الصادر بتاريخ 10/05/2001.
[2] الصادر بتاريخ 16/12/1966 والذي أجيز إنضمام لبنان إليه بالقانون المنفذ بالمرسوم رقم 3855 الصادر بتاريخ 01/09/1972.
[3] الصادر أيضاً بتاريخ 16/12/1966 والذي أجيز إنضمام لبنان إليه بالقانون المنفذ بالمرسوم رقم 3855 عينه الصادر بتاريخ 01/09/1972 والمذكور في الهامش أعلاه.
[4] وقد تصل العقوبة إلى ثلاث سنوات حبس إذا إقترف التعدي جماعة مسلحة مؤلفة من ثلاثة أشخاص أو أكثر.
_________
“