صادقت الجلسة العامة يوم الجمعة 27 سبتمبر 2024 على مقترح تنقيح القانون الانتخابي بموافقة 116 نائبًأ واحتفاظ 8 ورفض اثنَي عشر نائبًا. وقد تزامنت الجلسة العامة التي انطلقت أشغالها منذ الصباح مع وقفة احتجاجية دعت إليها الشبكة التونسية للحقوق والحريات، رفضًا لهذا التنقيح المتزامن مع فترة الحملة الانتخابية لرئاسيات 06 أكتوبر.
ورغم غلق المنافذ المؤدّية إلى البرلمان والحضور الأمني المكثَّف، استطاعت الشبكة التونسية للحقوق والحريات وعدد من الناشطين المدنيين التجمّع في أحد الشوارع المُتاخمة للبرلمان، يوم الجمعة 27 سبتمبر، احتجاجًا على مقترح تنقيح القانون الانتخابي، في الوقت الّذي شرعت فيه الجلسة العامّة بالبرلمان في النقاش العامّ حول هذا المقترح الّذي بدا أنّه ليس محلّ توافق بين النوّاب.
قبل خمس سنوات من الآن، كان قيس سعيّد يَخوض حمْلَته الّتي أرادها أن تكون تفسيريّةً، قبل أن يفوز في انتخابات 23 أكتوبر 2019. تتداول مواقع وصفحات مختلفة تصريحًا له في إحدى الإذاعات الخاصّة يقول فيه إنّ تنقيح القانون الانتخابي خلال السنة الانتخابية هو اغتيال للجمهورية واغتيال للديمقراطية. ولكنّ إرادة النوّاب شاءت أن يتمّ تقديم مبادرة تشريعية لتنقيح القانون الانتخابي، لم تكتفِ بكونها تتزامن مع سنة انتخابية، بل ترِدُ في خضمّ الحملة الانتخابية لرئاسيات 06 أكتوبر القادمة، في سياق سياسي مشحون ومرتبك.
وبسرعة يُمكن وصفُها بالقياسيّة، أحال مكتب المجلس مقترح تنقيح القانون الانتخابي على لجنة التشريع العام داخل البرلمان يوم 20 سبتمبر، لتشرع، بين 23 و25 سبتمبر في الاستماعات ونقاش الفصول وتعديلها وإرسال نُسخ من النسخة المعدَّلة إلى كلّ من هيئة الانتخابات والمجلس المؤقت للقضاء العدلي لإبداء الرأي وإعداد تقريرها والتصويت عليه، إلى حين تمرير المقترح إلى الجلسة العامّة في 27 سبتمبر.
قضم اختصاصات المحكمة الإدارية
يتعلّق التنقيح إجمالًا بإقصاء كلّ من المحكمة الإدارية ومحكمة المُحاسبات عن النّظر في النزاعات الانتخابية ومراقبة تمويل الحملة الانتخابية، وتجريدهما من صلاحياتهما بحُجّة “عدم تشتيت النزاع الانتخابي”، وفق ما جاء في مداخلة النائبة منال بديدة، التي كانت من بين أصحاب المبادرة التشريعية موضوع النقاش. حيث قالت في مداخلتها خلال الجلسة العامّة إنّ دور القضاء ينتهي بإصدار الأحكام. ولكن ما لاحَظَتْه هو أنّ “الشغل الشاغل للمحكمة الإدارية هو إرجاع مترشحين رفضتهم هيئة الانتخابات”، مُضيفةً أنّ “المحكمة الإدارية صارت تلعب دورًا في توجيه الناخبين، وهي غير مُحايدة”. تعتبر النائبة أنّ الجدل الّذي حصل حول النزاع الانتخابي ومآل قرارات المحكمة الإدارية قد يؤدّي إلى بروز شرعيّتَيْن، شرعيّة هيئة الانتخابات وشرعية المحكمة الإدارية، مُشيرةً إلى وجود “مؤامرة خارجيّة لمعاقبة تونس على تمسّكها بسيادتها”. يجد هذا الخطاب السيادوي الّذي لا يحتمله نقاش مقترح تنقيح القانون الانتخابي صداه لدى النائب شكري البحري الذي قال في مداخلته إنّه يشعر بأنّ بلاده مرتَهَنة ومُستهدَفة في أمنها، وإنّ الوقت يسمح دائمًا بمناقشة القوانين التي تمسّ الوطن وأمنه، مؤكّدًا أنّه لن يتهاون في الدّفاع عن السيادة الوطنية، وأنّ هذا التنقيح يصبّ في مصلحة المحكمة الإدارية اعتبارًا لما أثارته من مشكل “عدم الحياديّة”. وفي نهاية الأمر، يرى النائب أنّ الأمر ليس بالخطير طالما أنّ الإحالة تمّت من جهاز قضائي إلى جهاز قضائي آخر. فيما يقول النائب عادل بالضياف عن كتلة صوت الجمهورية إنّ المسألة تتعلّق بتوحيد المسارات القضائيّة وليس سحب صلاحيات المحكمة الإدارية.
“هذا المقترح لا يمسّ الممارسات الديمقراطية الفُضلى، وأردنا من خلاله إبعاد النزاعات الانتخابية عن تسييس القضاة لأنّ استقلالية القضاء هي ركيزة المحاكمة العادلة، خاصة عندما بدأت المحكمة تستبق الأحداث وتتحدّث عن إمكانية الطعن في نتائج الانتخابات”، تقول النائبة سيرين مرابط، صاحبة المبادرة التشريعية، في تصريح للمفكرة القانونية، مُضيفة أنّ الطعن في نتائج الانتخابات الرئاسية الّذي لوحت به المحكمة الإدارية سيخلُقُ “فراغًا”، علاوةً على أنّ القرارات الصادرة عنها هي قرارات “سياسيّة”. ثمّ تساءلت: “لماذا لم يتمّ التّجريح في القضاة الّذين تربطهم قرابة ما بالمترشّحين؟ ثمّ نحن لم نسحب كلّ الاختصاصات من المحكمة الإدارية، وما قمنا به ليس بدعة وهناك في التجارب المقارَنة حديث على اختصاص القضاء العدلي في النزاعات الانتخابية”.
تعدّدت الأسباب، والرفض واحد
لا يبدو أنّ هناك توافُقًا حول مآل هذه المبادرة التشريعية من داخل البرلمان، ليس احترامًا لقواعد اللعبة الديمقراطية بقدر ما كان رفضًا للخروقات الإجرائية التي شابت هذه المبادرة. ففي مداخلته، اعتبر النائب هشام حسني أنّ المقترح برمّته غير دستوري لأنّ مكتب المجلس انعقد خلال العطلة البرلمانية دون الإعلان عن دورة استثنائية، ليُحيل مقترح القانون على اللجنة المُختصّة. وقال إنّ المحكمة الإدارية أصدرت بيانات سياسيّة تنمّ عن عدم الحياد، واقترح إزاء ذلك تغيير تركيبة الجلسة العامّة للمحكمة الإدارية في حركة قضائية استثنائية وكان يُفضّل ألّا تتغيّر قوانين اللعبة بل أن يتغيّر اللاعبون. فيما قام النائب بلال المشري بعرض المداخلة التي قام بها الرئيس قيس سعيد في إحدى الإذاعات الخاصّة خلال الحملة الانتخابية لرئاسيات 23 أكتوبر 2019 والتي تحدّث فيها عن اغتيال الديمقراطية في صورة تنقيح القانون الانتخابي خلال السنة الانتخابية، وهو ما أدّى إلى سحب الكلمة منه قبل انقضاء التوقيت المُخصّص لمُداخلته والمُقدَّر بثلاث دقائق بحجة أن الكلمة معطاة له وليس لإسماع مداخلة لسواه.
أمّا النّائب محمد علي عن كتلة الخط الوطني السيادي، فهو يرى أنّ هذه المبادرة التشريعية فاقدة للسند الدستوري والقانوني ومتعارضة مع أخلاقيات الفعل الانتخابي والذوق القانوني، ثمّ توجّه بالحديث إلى رئيس المجلس إبراهيم بودربالة بالقول إنّه “مارَسَ كلّ الخروقات القانونية والإجرائية لتعطيل تمرير المبادرَتَيْن التشريعيّتَيْن المتعلّقَتَيْن تِباعًا بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبتنقيح المرسوم 54 سيّء الذّكر”.
الشارع ضدّ التنقيح
خلال الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها الشبكة التونسية للحقوق والحريّات، رُفعت شعارات منادية بإسقاط المنظومة، مُستعيدةً شعارات “قانون المصالحة” الذي مرّ قبل سبع سنوات، في سبتمبر 2017، إلى جانب شعارات أخرى مناهضة لدولة البوليس ولارتهان البرلمان وهيئة الانتخابات لإرادة قصر قرطاج.
“أن يُمنحَ تمويل الحملة لجهاز غير مختصّ في الرقابة المالية، وهو القضاء العدلي، وأن يُحَال القضاء الإداري الذي يتطلب تكوينًا مُعيّنًا إلى تمويل الحملة إلى غير المختصّين ومن يفتقرون إلى الكفاءة في هذا المجال، هو اختطاف وتحويل وجهة للقانون والمؤسسات. كلّ هذا بسبب وضعية القضاء التي يجب التحدّث عنها، إثر تشويه القضاة وعدم ترسيم المعفيين منهم في جدول المحاماة ورفض عودتهم إلى العمل”. تقول الناشطة شيماء عيسى في تصريح للمفكرة القانونية، خلال حضورها في الوقفة الاحتجاجيّة. وتضيف: “نجد أنّ المجلس المؤقت للقضاء مُعطَّل، وكل العمليّة تُدار في الإدارة وعلى مستوى السلطة التنفيذيّة، والقضاء العدلي يتحمّل النُّقَل التعسّفيّة والتجريد من الخطّة والإيقاف عن العمل. وبالتالي فإنّ القضاء العدلي مضمون والقضاء الإداري غير مضمون”.
“النوّاب نصّبوا أنفسَهم أوصياء على هذا الشّعب، ويريدون التصدّي “للمؤامرات” ويستبقُون قرارات المحكمة الإدارية بحجّة “حماية مصداقيّة المحكمة الإدارية”. هذا القانون وَقِح، ولم أجد توصيفًا أبلغ من هذا. ليفُز قيس سعيّد، وليضَعْ نفسه أمام مسؤولياته ومواقفه السابقة الّتي قال فيها إنّ تنقيح القانون الانتخابي في سنة انتخابيّة هو اغتيال للديمقراطية واغتيال للجمهورية. لو يختم قيس سعيّد هذا القانون سيغتال رسميًّا الديمقراطيّة في تونس”، يُصرّح هشام العجبوني، القيادي بحزب التيار الديمقراطي للمفكّرة القانونية.
من جهته، يقول حسام الحامي منسّق ائتلاف صمود للمفكرة القانونية: “هم يتّهمون المحكمة الإدارية غير محايدة. فهل النوّاب محايدون؟ ما يحصل اليوم هي مهزلة تاريخيّة، كان بإمكان السلطة التنفيذيّة تقديم مبادرة تشريعية ولكنّها تملّصت من مسؤوليّتها وزجّت بالبرلمان في هذه المبادرة. حسب النظام السياسي الحالي، نحن إزاء منظومة مُختلّة والسلطة التنفيذيّة تتحكّم في كلّ مفاصل الدّولة وفي بقيّة السُّلَط، وبالتالي تمرّر ما تشاء عبر المؤسسات، وقد رأينا قرارات هيئة الانتخابات وشروط الترشح التي تمت إضافتها وروزنامة الترشح وإقصاء مترشحين أنصفتهم المحكمة الإدارية، والآن نرى مترشّحًا في السّجن، وهو مُتّهم بقضايا كان يُمكن بمقتضاها أن يخوص حملته وهو بحالة سرَاح”، ويضيف: “دوْرُنا كمجتمع مدني هو إيصال هذه الأفكار وتوضيحها للمواطن ليفهم ماذا يحدث. السلطة ستسقط من تلقاء نفسها لأنّ ممارساتها لا تسمح لها بالمواصلة، ولكننا سنواصل المراكمة في ظلّ هذا العمل البيداغوجي مع المواطنين.”
ورغم المحاذير التي رفعتها الجهات الرافضة لهذه المبادرة، إلا أنّ البرلمان أصرّ على إتمامها وتنقيحها والتصويت عليها قبل تسعة أيام من الانتخابات، في انتظار أن يختمها الرئيس لتُصبح قانونًا نافذًا، يُضاف إلى القوانين الأخرى التي قُدّت على المقاس.