لم يتخطّ بعد الجسم الصحافي والحقوقي في لبنان ما تعرّضت له الصحافية مريم اللّحام من انتهاكات قانونية عند توقيفها ومداهمة منزلها في 6 أيلول 2023. فاللّحام التي صدر بحقها مذّكرة بحث وتحرّ في تاريخ 13 أيلول على خلفية رفضها إجراء فحص للبول للكشف عن استخدامها للمخدرات، لا تزال قيد الملاحقة بينما الموضوع الأساس الذي تناولته اللّحام والمتصل بشبهات فساد في قضية أوقاف جمعيّة “البرّ والإحسان” خارج حسابات النيابة العامّة التمييزيّة. وعليه، عقد عدد من الصحافيين مؤتمرًا صحافيًا بالشراكة مع منظمات: العفو الدولية، و”هيومن رايتس ووتش”، وتجمّع “إعلاميون من أجل الحريّة” و”مراسلون بلا حدود” يوم الاثنين 25 أيلول في “بيت عام – صوت وصورة” في الأشرفية أكدّوا فيه على ضرورة عدم استدعاء الصحافيين أمام الأجهزة الأمنية والتأكيد على أنّ الجهة الوحيدة المخوّلة استدعاء الصحافيين هي محكمة المطبوعات وطالبوا بإلغاء العقوبات الجزائية من القوانين التي تشمل التشهير والتحقير والقدح والذم.
وكانت اللّحام قد نشرت على صفحتيها على منصّتَي “فيسبوك” و”إكس” (تويتر سابقًا) في 26 تمّوز 2023 مستندًا يثير شبهة فساد بحق رئيس المحكمة الشرعية السنّية القاضي محمد عسّاف في قضية أوقاف مؤسسة “البرّ والإحسان” التي تملك جامعة بيروت العربية، فاشتكى عليها الأخير أمام النيابة العامّة التمييزية بجرائم القدح والذم والتحقير وحضّ “أبناء الطائفة السنية” عليه. وبدلًا من أن تعتبر النيابة العامّة المستندات التي نشرتها اللحّام إخبارًا وتتحرّك على أساسه، قررت حرف نظرها تمامًا عنه واستدعاء اللّحام إلى التحقيق لدى المباحث المركزية حيث تعرّضت لانتهاكات عديدة.
وعلى الرغم من احتمال تعرّضها للتوقيف، تحدّت اللّحام مذكّرة البحث والتحرّي الصادرة بحقها وأعلنت أمام الرأي العام أنّها ستكمل عملها في التحقيق الاستقصائي حول هدر ملايين الدولارات في وقف جمعية “البرّ والإحسان”، كما ذكّرت بالانتهاكات التي تعرّضت لها خلال التحقيق معها بالإضافة إلى ما تعرّضت له شقيقتها التي “لا ذنب لها إلّا أنّها تواجدت في المنزل أثناء اقتحامه” حسب تعبيرها.
324 مليون دولار لتعزيز حقوق الإنسان والانتهاكات بالجملة
خاطبت اللحّام الرأي العام والقضاء والجهاز الأمني الذي حقّق معها، مشيرة إلى أنّ الانتهاكات التي تعرّضت لها حصلت رغم أنّ هذه المؤسسات تلقت مساعدات من جهات مانحة تعطي أولوية لحقوق الإنسان. وتابعت أنّ المنح التي حصلت عليها تلك الأجهزة والمؤسسات من الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة وكندا وصلت إلى 324 مليون دولار بين العامين 2014 و2021. وكان أحد أهداف هذا التمويل تعزيز حقوق الإنسان والحريّات المدنية وصونها وتعزيز استقلالية القضاء. ورجحت اللحّام أن تكون هذه الأموال صُرفت “على الطريقة اللبنانية” بدلًا من تحقيق هدفها والانتهاكات التي تعرّضت لها لدى المباحث الجنائية خير دليل على ذلك.
الأموال التي تحدثت عنها اللحّام وردت في دراسة أعدّها الباحث أسامة غريزي لصالح مؤسسة سمير قصير “سكايز” بعنوان “الدعم الدولي لقطاعي الأمن والقضاء في لبنان: تأثير مساعدات المانحين على حقوق الإنسان والحريّات المدنية” نُشرت في كانون الثاني 2023. وخلصت الدراسة إلى أنّ “المساعدات فشلت في لجم تزايد انتهاكات الجهات الفاعلة الأمنية والقضائية”. وفصّلت الانتهاكات ضمن فئتين أساسيتين: إساءة استخدام الأدوات القانونية (إجراءات العدالة الجزائية والرقابة) واستخدام القوّة المفرطة والقمع. ورصدت سكايز 792 انتهاكًا منذ العام 2017 تاريخ بدء الرصد، 46% منها في إطار استخدام القوّة المفرط و45% انتهاكات وإجراءات العدالة الجزائية و9% في إطار الرقابة. واستندت اللحّام إلى هذه الأرقام لتؤكد أنّها بصدد رفع تقارير إلى الجهات المانحة بأسماء من تعرّض لها بالانتهاكات.
“الدال على الهدر المالي في لبنان كالدال على مشنقته”
في شهادتها في المؤتمر، قالت اللحّام إنّ البعض يعتقد مخطئًا أنّ معركة “الحرّيات لا تزال مسألة فكرية ولم تُصبح سياسية بعد”. واعتبرت أنّ القضاء الذي يترك المحرّضين على الإعلام وينحاز إلى “إعلام التحريض والكراهية” فيما يتجاهل الملفات الكبرى كانفجار مرفأ بيروت وأموال المودعين “يعتقلنا بسبب آرائنا”. ورأت أنّ توقيفها لم يكن لأنّها عبّرت عن رأي بل “لأنني اقترفت جرم الإشارة إلى الفساد بالاسم، والدال على الهدر المالي في لبنان كالدال على مشنقته، بخاصّة أنه وفي حالتي كانت الجهة التي أدلّ عليها تتربّع على عرش المحكمة الشرعية السنّية في لبنان” قاصدة رئيس المحكمة الشرعية السنّية القاضي محمد عسّاف. وتابعت “تجرّأت كإمرأة محسوبة على الرّعية من رفع الصوت في وجه سلطة دينية ومرجعية عليا، بالمستندات والوثائق وبالأدلة الدامغة”، “وعليه كان لا بدّ لهذا النظام من محاولة تأديبي وإرجاعي إلى سرب الخائفات الطائعات، الصامتات عن الحق وإن رأين الباطل” بحسب تعبيرها.
وذكّرت اللّحام بالانتهاكات التي طالتها في هذا الملف، ولفتت إلى أنّها وصلت إلى حدّ “تسريب التحقيق الذي من المفترض أن يكون سريًا إلى الإعلام مع الكثير من عدم الدّقة”، قائلة: “بإشارة قضائية لأعلى سلطة عدلية في لبنان، جُرّدت من صفتي الصحافية، وألبسوني ثوب الإجرام بسبب تغريدة”.
وكيلة اللّحام المحامية ديالا شحادة اعتبرت أنّ “البلد من دون حريّة إعلام تسقط وراءه جميع الحريّات”، وبخاصّة في الوقت الذي يواجه فيه لبنان أسوأ أزمة في تاريخه وهناك حاجة للإعلام الحر. وشجبت شحادة “تحوّل القضاء إلى أداة لتطويع الصحافيين”، مشددّة على أنّ “ما حصل مع اللّحام من ناحية الطلب منها التعهّد والاعتذار وحذف المنشور كما ودخول بيتها والولوج إلى حاسوبها الشخصي من دون موافقتها، ومصادرة الحاسوب هي جميعها إجراءات غير قانونية”. وذكّرت شحادة بالانتهاكات التي يتعرّض لها الصحافيون في لبنان منذ سنوات، مشيرة إلى أنّه سبق اغتيال الصحافيين سمير قصير وجبران تويني مضايقات إلّا أنّ القضاء لم يتحرّك لحمايتهما. واعتبرت أنّ “المطلوب من المجتمع الحقوقي والصحافيين والإعلاميين الراغبين بحماية الحريّات أن يتصدّوا لما يحصل اليوم برعاية النيابات العامّة”. وشددت على “ضرورة عدم تلبية الاستدعاءات القضائية على مستوى النيابات العامّة”.
منظمة العفو تُطالب بإلغاء المواد التي تجرّم التحقير وإلغاء تجريم القدح والذم
تعليقًا على ما تعرّضت له اللحّام من انتهاكات، رأت الباحثة لدى منظمة العفو الدولية سحر مندور أنّ “القوانين الجزائية التي تجرّم التحقير والتشهير (القدح والذم) تنتهك التزامات لبنان تجاه الاتفاقيّات الدولية الموقع عليها”. وأضافت: “القوانين الحالية تحمي الأشخاص من ذوي السلطة والمناصب وتجرّد الأشخاص الناقدين من الحماية”. وأشارت إلى أنّ قانون العقوبات وقانون المطبوعات وقانون القضاء العسكري تتضمّن مواد تنصّ على عقوبات جزائية ضدّ التشهير والتحقير، والتي تجعل الصحافي مهدّدًا بعقوبات تصل إلى مدّة ثلاثة سنوات سجن، وهو “تكريس لواقع من التجاوزات على كافة المستويات”.
وأشارت مندور إلى حملة “رأيي مش جريمة” التي أطلقتها منظمة العفو الدولية في آب الماضي بهدف مطالبة السلطات اللبنانية إلغاء المواد التي تجرّم التحقير وإلغاء تجريم القدح والذم، وشرحت أنّ المنظمة “رصدت تصاعد استخدام هذه المواد في الأعوام الأخيرة، فبين عامي 2019 و2022 رُصد 75 استدعاءً”. ولفتت إلى أنّه في “العام الحالي وحده رصدنا 10 قضايا حصل فيها استدعاءات، وجميعها ادّعى فيها نافذون من ذوي السلطة، وتبيّن لنا أنّ جميع هذه القضايا لم يتوفّر فيها أي مضمون فيه حضّ على العنف أو الكراهية أو تهديد للسلم الأهلي”. ويُشار إلى أنّ منظمة العفو الدولية تعتبر أنّ “قوانين التشهير والتحقير في لبنان لا تتماشى مع التزاماته بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وعادةً ما تُستخدم من قبل السلطات والأفراد ذوي النفوذ لمضايقة وترهيب ومعاقبة الأفراد الذين ينتقدونهم”.
من جانبه شدّد الباحث في منظمة “هيومن رايتس ووتش” رمزي قيس على أنّ “استدعاء الصحافيين وانتهاك حقوقهم بهذا الشكل هو انتهاك للحد الأدنى لحقوق الإنسان وبخاصّة انتهاك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”. وعلّق قيس أيضًا على مسألة المنح التي تقدّمها الدول المانحة للأجهزة الأمنية والقضائية داعيًا هذه الجهات إلى التأكّد من التزام الدول بأهداف المنح وطالب “بإسقاط الملاحقة بحق اللّحام”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.