انقضى الشهر الموعود، وأصدر رئيس الجمهورية أمره عدد 109 المؤرخ في 24 أوت 2021 والذي يتعلق بالتمديد في التدابير الاستثنائية المتعلقة بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب. جاء هذا الأمر الرئاسي مؤسسا على الفصل 80 من الدستور (1) من ناحية وحاملا في طياته بوادر أزمة معلنة (2).
الفصل 80: شمّاعة من ورق
إن ما يلفت النظر في الأمر الرئاسي عدد 109 هو تأسيسه على الفصل 80 من الدستور خاصة وعلى الدستور عموما وذلك لتمديد قرار تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب، بحجة أن أسباب تلك التدابير لا تزال قائمة ولذا توجب التمديد “في تعليق اختصاصات المجلس ورفع الحصانة عن كل أعضائه وذلك إلى غاية اشعار آخر” (الفصل الأول من الأمر). وتطرح عديد التساؤلات في هذا المجال: فبعد شهر من 25 جويلية، ما زلنا نجهل ما هي الأخطار الدّاهمة المهدّدة لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها؟ وماهي الأسانيد لتعليق اختصاص المجلس؟ وما هي الأسانيد التي تجعل من التدابير الاستثنائية دائمة ومتواصلة؟
بعد شهر هل يحق لنا معرفة الخطر الدّاهم؟
عند إعلان رئيس الجمهورية في 25 جويلية “الحالة الاستثنائية” مستندا إلى الفصل 80، لم يذكر أي تفاصيل عن حالة الخطر الدّاهم المهدّد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها والذي يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة. والآن وبعد شهر كامل وبتمديد الحالة الاستثنائية، هل يحق لنا كمواطنين وكمواطنات أن نعلم ما هي هذه المخاطر؟ فلم يعد من الممكن ولا من المقبول مواصلة الإقالات والمداهمات وحجز ملفات هيئات عمومية ومنع السفر والإقامات الجبرية والإيقافات والتتبع العدلي والعسكري دونما أي شفافية.
للتذكير، فإن الفصل 15 من الدستور يوجب على الإدارة أن “تنظم وتعمل وفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة”.
فهل بهذا التعتيم والتعامل الفوقي مع المواطنين والمواطنات يمكن التأسيس لنظام سياسي عادل وشفاف؟ لا نعتقد ذلك، خاصة إذا تعلق الأمر بسلطة أساسية وركيزة النظام السياسي التونسي: مجلس نواب الشعب.
أيّ أساس للتمديد؟ كفى تلاعبا بالفصل 80 وبالدستور عموما
إذا كان الفصل 80 يشرّع لرئيس الجمهورية اتخاذ التدابير الاستثنائية وفقا لشروط محدّدة لم يحترم الرئيس أي منها في إعلان 25 جويلية 2021، فإنّ تمديد هذه التدابير الخطيرة جدا لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يعتمد هذا الفصل ولا غيره من فصول الدستور. فالفصل واضح: ّ بمضي فترة الثلاثين يوما” يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه…” ولكن بغياب هذه المحكمة، فليس من الممكن تفعيله. ولذا لم يعد يستقيم دستوريا استعمال هذا الفصل ولا غيره من فصول الدستور، لأنه لا وجود لأي فصل يمنح الرئيس الصلاحيات التي أقرها لنفسه: تعليق اختصاصات مجلس النواب، رفع الحصانة عن أعضائه، إقالة رئيس الحكومة، تسمية مكلفين بتسيير الوزارات بقرارات منفردة وعزل الولاة وتغييرهم.
ولذا يتوجب التوقّف عن تفعيل هذا الفصل وعن اللجوء إلى الدستور عموما، لأنه تفعيل صوري لشرعية متوهّمة. لتكن هناك شجاعة القول بأننا لم نعد تماما ومنذ 25 جويلية في إطار دستور 27 جانفي 2014. فالانقلاب عليه تمّ منذ ذلك التاريخ ولا مبّرر في اللّجوء إلى هذه الوثيقة التي تجاوزها رئيس الجمهورية في خطابه بتشويهه لكل المؤسسات المنبثقة عنها ولفصولها وآخرها ما صدر عند بخصوص الفصل السادس من الدستور المتعلق بحرية الضمير حين صرّح بأنه لا وجود لأي محكمة دستورية في العالم، يمكنها أن تطبق الفصل السادس.
بقي فقط أن نلفت النظر بأن من يشكّك في وثيقة الدستور عليه أن يشكّك أيضا في القسم الخاص برئيس الجمهورية (الفصول 72 إلى 88 من الدستور).
فهذه الانتقائية والتي تضع شرعية على المقاس لا يمكن إلا أن تؤسّس لمنظومة حكم غربية وبعيدة كل البعد عن الأنظمة الديمقراطية وهو ما لمسناه منذ تفعيل الفصل 80 في 25 جويلية 2021 وما نؤكدّ عليه اليوم نظرا للمخاطر التي تتهدّدنا من أمر تمديد الحالة الاستثنائية.
في مخاطر التمديد في الحالة الاستثنائية: الانفراد بالسلطة وإمكانية الفراغ
لقد بيّن الشهر الأول من إعلان وتنفيذ تدابير الحالة الاستثنائية أن المخاطر المحدقة بالديمقراطية وبدولة القانون عديدة ومخيفة.
في ضرب مقوّمات الديمقراطية
بإعلان تعليق كل اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن كل أعضائه، كانت أوّل ضربة للديمقراطية التمثيلية. فرغم كلّ هناته ومساوئه، يبقى البرلمان فضاءً للنقاش والجدل والخصام السياسي. ولذا عندما تعلّق أعماله، وتصبح الأوامر والقرارات الصادرة عن سلطة أخرى وإن كانت رئاسة الجمهورية، فإننا لا نعلم كيف اتخذت وأسبابها حيث ندركها فقط عندما تصدر في الرائد الرسمي. وهو ما ينافي تماما مع أبسط قواعد الديمقراطية.
عندما يُقال رئيس الحكومة الذي حصل على ثقة مجلس النواب ويعوضه رئيس الجمهورية في جميع اختصاصاته ومهامه دونما أي مسؤولية أمام أي سلطة كانت فذلك أيضا ضرب لقواعد المساءلة والمحاسبة: أساس النظام الديمقراطي…
عندما يعلن رئيس الجمهورية ترأسه للنيابة العمومية في تجاوز صارخ لمبادئ فصل السلط والحملات المستمرة لضرب القضاء، فإن ذلك أيضا ضرب لمبادئ استقلالية القضاء من ناحية ولتوازن السلط ورقابة كل منها على الأخرى.
هذه التدابير الخارجة تماما عن مبادئ الشرعيّة الدستوريّة العاديّة وإن كانت مؤسسة على “الحالة الاستثنائية”، فإنها تضرب بعمق مبادئ وآليات الديمقراطية وتجعل من دولة القانون مبدأ صوريّا.
في ضرب دولة القانون في الصميم
منذ 25 جويلية، لم نعد نعلم ما هي النصوص القانونية المنطبقة، فالدستور يحضر ويغيب طبقا لأهواء ومصالح رئيس الجمهورية يفعلّه متى شاء ويتهجّم عليه متى أراد…
الأوامر الرئاسية تصدر دونما سند قانوني: في تسمية الوزراء وإقالة الولاة وتسمية غيرهم في مداهمة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والاستيلاء على ملفاتها وجعلها تحت رقابة وزارة الداخلية. فما هي النصوص المنطبقة؟ في كل هذه الحالات والوضعيات، لا وجود لنصّ واضح قانوني أو دستوري سوى اللجوء إلى الامر عدد 50 المؤرخ في 26 جانفي 1978 ذلك الأمر السالب للحريات والذي ضرب كل المعارضين والمختلفين من 1978 إلى الآن في اعتداء فجّ على الدستور وعلى كل الالتزامات الدولية لتونس. هذه المخاطر التي نعيشها منذ شهر وقع تمديدها إلى إشعار آخر.
إلى إشعار آخر… وداعا دولة القانون وداعا أيها الاستثناء التونسي
إن اعتماد الفصل 80 للتمديد إلى ما لا نهاية في التدابير الاستثنائية من شأنه نسف كل أمل في عودة سريعة للسير العادي لدواليب الدولة وللشرعية الدستورية أو القانونية.
الآن انتهى العمل بالفصل 80 وبالدستور عموما. لم نعد في أيّ من الشرعيّات المعهودة لا الدستورية، لا القانونية ولا الشعبية: لأن الشعب لم يستشَر في أيّ من هذه التدابير.
“الشرعية أنا” تحن أمام هذه الوضعية الآن لا شرعية إلا شرعية رئيس الجمهورية في شخصه. وهي من أخطر الوضعيات التي يمكن أن تكون فيها دولة ما: انتهت دولة المؤسسات التي علّق أو شوّه أو أُغلق: مجلس النواب، رئاسة الحكومة، القضاء، الهيئات الوطنية، الولايات.. وما يفاقم من هذا الخطر هو إعلان رئيس الجمهورية نفسه عن وجود تهديدات لحياته.
إن الوضعية الراهنة خطيرة جدّا ليس فقط على صعيد الحقوق والحريات ولكن أيضا على سير دواليب الدولة ولو في الحالة الاستثنائية. وكلما طال التمديد في الحالة الاستثنائية، كلّما هدّدت مقومات الدولة وكيان الوطن. ولذا فإن أوّل قرار يجب أن يتخذ هو تحديد سقف زمني لهذا الوضع وإعلان التنظيم الذي سيسري على هذه المرحلة على أمل العودة سريعا إلى السير العادي لدواليب الدولة.