تماهي القضاة مع المشهد السياسي في مصر: أي تجاوز لمبدأ حيادية القاضي؟


2012-12-06    |   

تماهي القضاة مع المشهد السياسي في مصر: أي تجاوز لمبدأ حيادية القاضي؟

*هشام العماري
في هذا المقال، يعبر كاتب، وهو عضو في نادي قضاة المغرب (الذي تأسس في خضم الربيع العربي كأحد ثماره وبتأثير قوي من حراك نادي قضاة مصر في 2005-2006) عن موقف رافض للحراك القضائي الأخير، والذي رأى فيه تماهيا مع المشهد السياسي. ويسجل القاضي في ختام مقاله علمه بأن من شأن مقاله أن يغضب الذين هم متحفزون للحراك القضائي، لكنه يأمل أن يشكل مقاله بابا لفتح النقاش. والواقع أن الحراك القضائي المصري شكل منذ 2005 محفزا للنقاش بأمور غالبا ما كانت تصنف في العالم العربي ضمن المسلمات. واذ ترحب "المفكرة" بفتح نقاش مماثل، وبكل الآراء في هذا المجال، فانها تذكر بأن احتجاج نادي قضاة مصر ضد الاعلان الدستوري الصادر في 21-11-2012 بدأ على خلفية تضمين الاعلان الدستوري بنودا من شأنها الانتقاص من وظائف القضاء. فالاعلان شكل تدخلا وظيفيا في بنوده الآيلة الى تحصين قرارات رئيس الجمهورية أو أيضا الى تحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى ضد الطعون المقدمة ضدهم، طالما أنه جرد القضاء من وظائفه في هذا المجال، كما شكل تدخلا عضويا من خلال عزل النائب العام بفعل أحكامه (المحرر).
يعرف المشهد القضائي المصري تماهيا مع المشهد السياسي بشكل لم يسبق له مثيل. وقد دشن قضاة مصر الآن مرحلة جديدة في التعاطي مع الشأن السياسي بحيث أصبح الحياد مبدأ مهجورا، ليحل محله مبدأ التدخل في الحياة السياسية والحراك السياسي. فهل يحق لجمعيات القضاة في مصر كتنظيمات مهنية التعبير عن آرائها السياسية كما يقع حاليا؟ بل والاصطفاف مع أحد التيارات السياسية ضد أخرى؟
إن تجسيد استقلال الجمعيات القضائية يقتضي بالضرورة عدم الخوض في سجالات سياسية إلا بما يخدم مبادئ الحق والقانون ومبادئ استقلال القضاء, ومن شأن انخراط القضاة وجمعياتهم في السجال السياسي أن تفقدهم خاصية الحياد والتجرد والاستقلال, وينزع عنهم الدور التحكيمي المفترض فيهم أن يؤدوه.
قد يقول البعض إن تحرك القضاة في مصر هو دفاع عن استقلال السلطة القضائية: إذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل أن يعبر القضاة مسبقا عن عدم دستورية أو عدم شرعية قانون معين قبل عرضه على القضاء للفصل في ذلك؟ أليست هنالك حدود بين القضاة والسياسة؟صحيح لو كانت القضية محل إجماع بين القضاة كافة لقلنا إن المسألة قانونية محضة، أما وأن ينقسم قضاة البلد الواحد إلى شقين ضد أو لصالح مؤسسات سياسية معينة فإن الأمر يدعو إلى القلق لأنه يهدد الأمن القومي للبلد، ويمنح الشرعية لكل تمرد على القانون والنظام والمؤسسات.
نتفق جميعا على أن السلطة القضائية يجب أن تكون قوية وفاعلة ولكن قوتها نابعة من تحصينها ضد الانحياز مع هذا الطرف أو ذاك. لكن أن تصبح السلطة القضائية عونا لفريق سياسي ضد آخر فهنا تفقد هذه السلطة قوتها، وتعلن عن ضعفها ووهنها.
إن الفصل بين السلطات القائم على التوازن والتعاون فيما بينها يقتضي عدم تدخل أي سلطة في عمل السلطة الأخرى إلا عبر الآليات التي يسمح بها القانون، أما وأن تتدخل السلطة القضائية في عمل السلطة التنفيذية أو التشريعية كما يقع الآن في مصر، وأن يقف النائب العام في وجه رئيس الدولة بمظهر الخصم والمعارض، وهو الذي كان في الأمس القريب يبارك كل خطوات النظام البائد، كل ذلك يطرح سؤال الحياد والاستقلال بكل الحاح.
في المقابل، وقبل المصادقة على دستور ما بعد الثورة، يتعين على الرئيس الأول باعتباره ضامنا لاستقلال السلطة القضائية أن يفعل كل ما من شأنه أن يحول دون انقسام أعضاء السلطة القضائية حتى تظل هذه السلطة ملجأ وملاذا للجميع لا تميز بين الألوان والتيارات السياسية، وذلك بتوفير الأمن والاطمئنان للقضاة بأن الفيصل بين الجميع هو القانون ولا شيء غيره، وألا يكون القضاة موضوع تضييق أو حشد أو تحريض أو غير ذلك.
حذار أن تفقد قاعدة فصل السلطات كل مدلول لها، فينتقل القضاة إلى رجال سياسة بخلفيات سياسية، وينتقل السياسيون إلى قضاة لا يعيرون للأحكام القضائية أي اهتمام أو احترام بل يعتبرون أنفسهم أهلا لإصدار الأحكام عوضا عن القضاة. حذار أن يتطاول القضاة على مجال التشريع فيطبقوا ما شاءوا من القوانين وينسخون ما شاءوا منها. حذار أن ينهار النظام الدستوري في أي بلد لينفرط العقد الاجتماعي ويعود المواطنون إلى حالة الفوضى واللانظام.
قد يحتج البعض بأن كل دولة لها نظامها ولها خصوصيتها ولها قضاؤها. ولكن المجمع عليه هو أن مبدأ استقلال القضاء مبدأ عالمي كوني انساني قد يختلف في الشكل لكنه واحد في المبدأ والمضمون والغاية.
وإذا كان القاضي مؤتمنا على حماية حقوق وحريات المواطنين فإن هذه الحماية رهينة باحترام القوانين والنظم والمؤسسات، والقاضي لا يقوم بديلا عن السلطة التشريعية في إلغاء ما يشاء من القوانين إلا طبقا للقوانين المنظمة لشروط إلغاء القواعد غير الدستورية، سواء فيما يخص طريقة إثارة الدفع بعدم الدستورية أو من خلال مسطرة الإلغاء أو من حيث أثر ونتيجة الإلغاء لا يحكمه في ذلك تواجد سياسي معين، وإنما يحكمه ضميره المتشبع بروح التجرد والحياد والولاء للقانون والحق والعدالة. أما وأن ينتظم القضاة في تكتلات للإعلان المناصرة أو المعارضة لقانون معين فذلك من شأنه أن يؤثر بشكل خطير على نظام توزيع السلطات في الدولة، ويوجد أزمة سياسية حقيقية تهدد الأمن والنظام العام.
أن يكون القضاة أحزابا وسط أحزاب أو دولة داخل الدولة فهذا تهديد حقيقي لتماسك الدولة ووحدة القضاء. إن التزام القضاة بواجب التحفظ والحياد والتجرد هو حق للمواطن والمجتمع والدولة حتى يتسم القضاء عنوانا للثقة والتقدير من طرف الجميع، وصمام أمان يحتوي جميع التناقضات، ويستوعب تضارب كل المصالح في الدولة بميزان القانون والحق والإنصاف.
إنها وجهة نظر قد تغضب الكثير ممن هو متحمس ليلعب الحراك القضائي دوره في الإصلاح والتغيير ولكنها قناعة شخصية أتمنى أن تكون أرضية للحوار والمناقشة.
*عضو المكتب التنفيذي في نادي قضاة المغرب  

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مقالات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني