“
تلوث الهواء في جونيه ليس جديدا. الجديد هو أن يعرف اللبنانيون الذين طالما تغنوا بطبيعة بلدهم، أن سوء الإدارة والفساد وانعدام طرق المساءلة والمحاسبة كلها عوامل تؤدي إلى تحويل بلدهم هذا إلى سلسلة من “مناطق موت” ترتفع فيها بشكل جنوني نسب الإصابة بالسرطان وسواه من الأمراض القاتلة أو المزمنة.
نذكر أن عدد المفكرة رقم 55 الذي حمل تسمية “مناطق الموت” كان غلافه مستوحًى من مداخين معمل الذوق الناشط هنالك. الأهم هو المقالات المنشورة داخله حول هذه المنطقة حيث بيّنت “أشغال عامة” أن التصميم التوجيهي لمنطقة الذوق والذي سمح بإنشاء مناطق كثيفة السكان حول المعمل تم وضعه بعد عقود من إنشائه، ليشكل بذلك أداة قتل إضافية. وهذا ما عبر عنوان المقال: تنظيم الذوق يغيب معمل الموت (المحرر).
“تحتل مدينة جونيه المرتبة الخامسة عربياً و23 عالمياً من حيث نسبة تلوث الهواء”، هي نتيجة دراسة نشرتها منظمة “غرين بيس” (greenpeace) نهاية شهر تشرين الأول 2018. تأتي هذه النتيجة بعد إقرار مجلس النواب اللبناني لقانون “حماية نوعية الهواء” (18 نيسان 2018)، وقانون “الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة” (24 أيلول 2018)، أيضاً بعد إطلاق الإستراتيجية الوطنية لإدارة نوعية الهواء أواخر عام 2017.
النتائج التي توصلت إليها “غرين بيس” مبنية على تحليل لبيانات القمر الإصطناعي “سينتينل ٥ ب” (Sentinel 5p) التابع لوكالة الفضاء الأوروبية. وهي عبارة عن تحليل لبيانات القمر الإصطناعي خلال مدة محددة ممتدة بين 1 حزيران و31 آب. وتحدد الدراسة المناطق الساخنة على صعيد تلوث الهواء بانبعاثات ثاني أوكسيد النيتروجين (NO2) في العالم. معرفة هذه النسب متاح من خلال خريطة تفاعلية على موقع “غرين بيس” الإلكتروني. ويبدو لافتاً، عند الإطلاع عليها، أن التلوث في الدول الأخرى ينحسر فوق مناطق بذاتها، معظمها عواصم ومدن مكتظة. في المقابل، فان التلوث بغاز الـ NO2 يغطي كامل خريطة لبنان، وهو مرتفع في بقع عدة أخرى، من دون أن يرقى إلى مستوى “المنافسة” العالمية فيها، منها طرابلس والنبطية.
“النتائج أضخم مما تبدو”
يوضح مسؤول حملات غرينبيس- المتوسط في العالم العربي جوليان جريصاتي في حديث مع المفكرة أن “إرتفاع نسبة ملوث الـ NO2 يزيد في المناطق ذات الكثافة السكانية بسبب كثرة وسائل النقل”. من هنا يبدو لافتاً أن “تتقدم جونية على مدن كبرى مثل القاهرة ونيودلهي في هذا المجال”.
ففي حالة جونيه التي تقع على ساحل كسروان في جبل لبنان، تتنوع مصادر التلوث بالـ NO2، وهي بالإضافة إلى “وسائل النقل وكثافة السيارات، وجود معمل الذوق لإنتاج الطاقة الكهربائية الذي يعمل على الفيول، وانتشار مولدات الكهرباء الخاصة التي تعمل على الديزل”. هذه النتائج بحسب جريصاتي “هي أضخم مما نقول لأنها لا تأخذ بعين الإعتبار الكثافة السكانية. فعندما نقول أن نسبة التلوث في القاهرة أقل، هذا يعني أنه كذلك على الرغم من وجود كثافة سكانية أكبر فيها، أي أن كثافة سكانية منخفضة جداً أنتجت مستوى أعلى من ملوث ثاني أوكسيد النيتروجين”.
ما يقوله جريصاتي لهذه الناحية يؤكد على أن عامل رفع مستوى التلوث في هذه المنطقة، لا يقتصر على الكثافة السكانية فيها، ويرتبط بعامل آخر، هو في هذه الحالة التلوث الذي ينتجه معمل ذوق مكايل. وهو ما تؤكده الخريطة ذاتها التي تؤشر على المعمل “بنقطة حمراء”. معمل الجية لإنتاج الكهرباء بدوره “نقطة حمراء”. يقول جريصاتي أن عوامل عديدة تجعل الجية أقل تلوثاً “لا سيما أن الكثافة السكانية فيها أقل بكثير مما يقلل من باقي أشكال الإنبعاثات، وأيضاً بسبب عوامل ترتبط بطبيعة المنطقة وموقع المعمل”.
“كهرباء لبنان” تصدر بياناً توضيحياً
سارعت مؤسسة كهرباء لبنان إلى إصدار بيان لتوضح “أن قطاع الكهرباء هو شبه الوحيد الذي يتخذ بشأنه ما يلزم من إجراءات لتخفيض التلوث الناجم عنه في جميع المناطق اللبنانية التي يتواجد فيها معامل إنتاج وليس فقط في الذوق. يضيف أن “معامل الكهرباء تشكل نسبة قليلة من أسباب تلوّث الهواء بالـ NO2 في لبنان”، مستندةً إلى تقرير وزارة البيئة ضمن الاستراتيجية الوطنية لإدارة جودة الهواء 2015 – 2030، والذي لحظ أن “52% من أسباب تلوث الهواء في لبنان بأوكسيد النيتروجين يعود إلى قطاع النقل فيما الـ 48% المتبقية تتقاسمها ثلاثة مصادر هي: المصانع والمولدات الخاصة ومعامل الكهرباء”.
يجد جريصاتي مقاربة المؤسسة في غير محلها “حيث أن الـ 48% ناتجة عن مصدر موجود في مناطق محددة وثابتة، بينما الـ 52% ناتجة عن وسائل النقل، وهي منتشرة على كافة الأراضي اللبنانية وبعدد هائل”.
تكمل المؤسسة بيانها بتعداد الاجراءات التي اتخذتها لخفض التلوث، وقياسه. لناحية القياس تشير إلى “تركيب محطات خاصة تسمح بمراقبة متواصلة على مدار الساعة لانبعاثات الـ NO2. تركيب أجهزة لقياس كثافة الدخان وأجهزة لقياس نسبة الأوكسجين بما يسمح بمراقبة إنبعاث الدخان الأسود فور حصوله وبالتالي التدخل السريع لمعالجته وتقليص فترة تصاعده. وينتهي بالإشارة إلى أن “مؤسسة كهرباء لبنان” تتخذ ما أمكن من إجراءات (…) في إنتظار توفر الغاز الطبيعي الأقل تلويثاً للبيئة”.
يعلّق جريصاتي على البيان بالقول أنه “من الجيد أن تكون المؤسسة قد وضعت أجهزة قياس لانبعاثات التلوث، لكن لماذا لا تنشر النتائج على موقعها ولا نعرف نتائج هذا الرصد بكل شفافية؟”. أما عن الإنتقال إلى الغاز، فلا يراه جريصاتي حلاً ملائماً. فالمعالجة تكون بالإنتقال إلى “الطاقة المتجددة، وإنتاج للطاقة 24 ساعة للتخلص من المولدات الخاصة”. وهذا الحل “يخفض تكلفة إنتاج الكهرباء، ويسد عجز الدولة في هذا القطاع، كما أنه يؤمن إستقلالاً للدولة بانتاج الطاقة فلا تعود خاضعة لتقلب أسعار الفيول وقرارات الدول المصدرة له”. ويجب أن يتم الإنتقال إلى الطاقة المتجددة على مستووين “اللامركزي من خلال التشجيع على إستخدامه في المنازل، والمركزي من خلال إنتاج الطاقة عبره على صعيد الدولة”.
الحل على صعيد النقل: توسيع أتوستراد جونيه؟
إثر صدور التقرير، إجتمع وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال سيزار ابي خليل ونواب منطقة كسروان- الفتوح شوقي الدكاش، شامل روكز، روجيه عازار، نعمت افرام وفريد هيكل الخازن، إضافة الى رؤساء البلديات المطلة على خليج جونيه. وأبرز ما طرح فيه ما قاله أبي خليل عن “التقدم باقتراح قانون للسماح بدخول السيارات العاملة على الغاز إلى لبنان”. كذا ما أشار إليه روكز لجهة ضرورة “تلزيم أوتوستراد كسروان بأسرع وقت ممكن لتنظيم السير، وتوجيه نداء للبلديات في المنطقة لتدارك موضوع ازدياد زحمة السير عند بدء إشغال توسيع الأوتوستراد”.
هذه الأمور لا تشكل حلولاً بنظر جريصاتي، لا سيما في ظل مدى إرتفاع نسبة التلوث. فلناحية النقل، المسألة الضرورية هي أولاً “الحاجة إلى نقل عام مشترك، قوامه باصات حديثة غير ملوثة، كذا تسهيل إمكانية التنقل بالدراجات الهوائية”. أيضاً يشير إلى أن “السيارات الأكثر تلويثاً هي عادةً سيارات مرتفعة الثمن، من هنا يجب أن تخضع لضرائب تصاعدية يمكن الاستفادة منها كموارد لتحسين قطاع النقل العام”. أما توسيع الأوتوستراد فهي “بيئياً لا تحمل أي معنى، ذلك أن نسبة التلوث ستبقى نفسها ما دام عدد السيارات في لبنان هي سيارة لكل 3 أشخاص. إذن توسيع أوتوستراد جونية سيخفف من ظهور مستوى التلوث في المنطقة هذه من دون أن يقلل منه”.
“أمام مستويات التلوث المرتفعة هذه، لا يكفي فقط إتخاذ إجراءات لخفض نسبة التلوث إنما أيضاً عدم زيادة هذا المستوى وهنا أتكلم عن محارق النفايات” يقول جريصاتي. ذلك أن “أي زيادة للتلوث مهما كانت قليلة الآن، تحدث فرقاً تراكمي”.
رئيس بلدية الذوق
“أخيراً بات هناك من يتكلم عن هذه القضية على صعيد عالمي” يقول رئيس بلدية الذوق إيلي بعينو للمفكرة. يضيف “في ذوق مكايل رفعنا الصرخة منذ سنة 1984 ونظّمنا ملفاً سميناه الملف الأسود حول هذه القضية، لكننا لم نلقَ إستجابة فعلية ولا نزال نعاني”. الوضع في منطقة الذوق تحديداً “كارثة على جميع الأصعدة، ففي الذوق – القرية وحدها، هناك 250 إصابة بالسرطان”. يوضح بعينو أن لا إحصاءات رسمية، “هذا الرقم هو فقط الذي يمكن معرفته من خلال علاقات الناس بعضهم ببعض بالتالي من خلال التعداد”.
التلوث المرتبط بإنتاج الطاقة الكهربائية في المنطقة يتصل بوجود 3 معامل فيها: المعمل القديم ودواخينه مرتفعة تلوث المناطق البعيدة، والأخر الجديد دواخينه منخفضة وهو كارثي، والباخرة”، وفقاً لـ بعينو. من هنا “توسعة الأتوستراد ليس حلاً لا على صعيد البيئة ولا تخفيف ضغط السير. برأيي، نحن بحاجة إلى أنفاق وطرق بديلة لتخفيف الإزدحام”. بالمقابل “يجب المباشرة بإنتاج الكهرباء عن طريق الغاز الطبيعي”. يؤكد بعينو أنه يوافق على كون “الإنتقال إلى الطاقة البديلة هو الحل الأفضل، وهو ما نريده فعلاً، لكن مطالبتنا بالغاز هو أقرب إلى تسوية للحد من مستوى التلوث لأننا نعاني كثيراً”.
يلفت بعينو إلى أن “أهالي الذوق بصدد التحرك على الأرض في حال لم تتخذ إجراءات قريبة وحاسمة في هذه القضية”. بالمقابل، يؤكد على ضرورة “تطوير دور البلديات في المجال البيئي وتوسيع صلاحياتها، لأننا نعيش بين الأهالي ونعرف مشكلاتهم، ولو كان لنا صلاحيات رقابية وإدارية في موضوع إنتاج الكهرباء لما وصلت الأمور إلى هذا الحد”.
“