ليس احتلال تلامذة المدارس لمشهد الثورة في لبنان نهار الثلاثاء 6 تشرين الثاني 2019، هو الدهشة الوحيدة. أراء هؤلاء ووعيهم السياسي، وتلمسهم لمطالب الشعب عن قرب، وتحديد أجندتهم الخاصة هو الملفت عند جيل يعتبره علماء اإجتماع مع الأهالي والمجتمع عامة أنه جيل الإنترنت وآي باد وألعاب الكمبيوتر، في اتهام غير مباشر بانفصالهم عن الحياة وواقعها.
لكن هؤلاء التلامذة ليسوا أولئك الذين يعتقد البعض بغربتهم عن قضايا وطنهم. هناك في ساحة رياض الصلح التقت المفكرة بالعديد من بينهم وكانت كل هذه الأحاديث والأراء التي تخبر عنهم.
مع استمرار ثورة 17 تشرين أول 2019 وازدياد زخمها، استعاد المجتمع اللبناني “مجتمعه المدني”، بالمعنى المتكامل لمفهوم المجتمع المدني، مع إعادة إنعاش مختلف فئاته ومؤسساته. وشهدنا هذا الأسبوع تحول ساحة رياض الصلح إلى ملتقى لفئات بدت وكأنها دخلت عفوياً في تناوب على تفعيل الثورة وضخ دم جديد وآليات ثورية جديدة فيها. فاستولت النساء وطناجرهن مثلاً على الساحة مساء الأربعاء لتتركن المجال للطلاب والطالبات الجامعيين، طيلة يوم الخميس.
استمرّ توافد مجموعات طلابية معظمها من الجامعات الخاصة تزامناً مع إعتصام طلاب الجامعة اللبنانية في مجمع الحدت. فتداعى جامعيو اليسوعية في منطقة السوديكو ليسيروا نحو رياض الصلح، فيما التقى طلاب جامعة اللويزة بسياراتهم أمام حرمهم متجهين نحو الساحة نفسها. أما طلاب الجامعة الأميركية، فانضم قسم منهم بعد انتهاء اعتصامهم في شارع بليس أمام مدخل الجامعة ومنزل رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة تزامناً مع استدعائه من قبل المدعي العام المالي علي إبراهيم على خلفية ملف ل 11 مليار. ولكن التدقيق في الوجوه يُظهرحضوراً مراهقاً، نعم أنهم تلامذة الثانوي في المدارس الرسمية والخاصة الذين كانوا مفاجأة الثورة يوم الثلاثاء 6 تشرين الثاني، عندما قفزوا عن سور مدارسهم وجالوا يخرجون طلاب الجامعات إلى الشوارع، فيما بدا تغييرا جميلاً لقواعد اللعبة. وهناك، في ساحة رياض الصلح انضموا إلى أقرانهم يشاركونهم الحدث ويهتفون معهم “دعوس يا شعبي دعوس، عاى الحكومة والمجلس” و”نحنا الشعب الخط الأحمر”.
من المدارس إلى الساحات
من الملفت أن جميع التلامذة الذين قابلتهم “المفكرة” أكّدوا مشاركتهم بالإنتفاضة باستمرار، ومنذ اليوم الأول، ولكن قرروا ألّا يعتصموا فقط كمواطنين بل أيضاً تحت هويتهم الطلّابية، وفي كتلة واحدة منسجة تعبر عن هويتها وبالزي المدرسي نفسه أحياناً. ويبرز “تأثير الدومينو” في مشاركة المدارس المتعاقبة، إذ يصرّح طالب من مدرسة الـSainte Famille-وادي شحرور أن “كتير مدارس عم تنزل، وهوليك المدارس عم يدعونا ننزل وبدنا نشارك معهم”. وأتت المشاركة كمبادرة من التلامذة أنفسهم دفاعاً عن مستقبلهم، ومن دون أي دعوة أو تأثير من أي طرف آخر، كما تحاول بعض وسائل الإعلام تصويره. “عم بطّلعو علينا حكي أنو منقبض 15 ألف لننزل. لك مين بدّوا يطالب بحقوق التلميذ؟ طبعاً التلميذ!” يردّ أحدهم. واعتمد جميع الطلاب الثانويون على مجموعات الواتساب للتتنسيق والتواصل في ما بينهم لخلق شبكة من الذين يريدون الإنضمام إلى صفوف الثوار. فنسق تلامذة الـSainte Famille-وادي شحرور مع بعضهم البعض على مجموعة الواتساب الخاصة بصفهم، وأعطوا علماً لإدارة المدرسة من دون أي إشكال لكي تمكنوا من المشاركة في اعتصام وزارة التربية، ومن ثم السير إلى ساحة رياض الصلح. وبرّر أحدهم “لو سكرت المدرسة كنا أكتر بكتير، في كتير ما خلوهن أهلن يأفو صفوفهم”. أما بنات مدرسة القديس يوسف_قرنة شهوان اللواتي ارتدين زي مدرستهن، فعمدن إلى خلق مجموعة واتساب جديدة تضم المهتمات والمهتمين فقط. بعض هؤلاء خضع لامتحانه صباحاً، ثم انضم للإعتصام لاحقاً، بينما قرر البعض الآخر التغيُب عن الإمتحان والنزول إلى الشارع. وتم التنسيق بين المدارس التي قامت بمسيرة في عين الرمانة أيضاً عبر الواتساب. تقول تلميذة من ثانوية ناديا عون الرسمية للبنات، والتي شاركت في المسيرة الطلابية من عين الرمانة إلى رياض الصلح: “قررنا ننظمها (المسيرة) عشية، عملنا غروبات على الواتساب مع غير مدارس صرنا نحن وسعيّد (مدرسة شفيق سعيّد الرسمية) وNotre Dame des Anges والحكمة المهنية وModern Community School حدنا بعين الرمانة. اليوم أجو ناس من مدرسة شفيق سعيد لقدام المدرسة تبعنا، وقفوا لأربع ساعات حتى قبلت المديرة نفل معهم. برمنا بعين الرمانة وقدرنا نّزل تلاميذ الحكمة معنا. رحنا على المعونة بس ما نزلوهم ما قبلو رجعنا رحنا مشي على الأونيسكو على وزارة التربية وبعدين لهون”. وكان من اللافت مشاركة أكثر من مئة تلميذ من ثانوية بيصور بمسيرة يرافقهم أساتذتهم وأعضاء الإدارة. وليست المرة الأولى التي تنظم فيها مدرسة بيصور إعتصاماً مع طلابها في الساحات.
” بعد 17 تشرين تخلينا عن كل شي”
عندما سئلوا عن أحزاب السلطة، أكّد التلامذة أن لا تعامل ولا ولاء لأيّ منها، بل أكثر من ذلك ها هم يثورون عليها. لم يخجل البعض من الإعتراف بأنه ورث حزبيّة سياسية معينة أو اتّبعها عن قناعة، ولكن أتت الثورة لتقلب الحالة رأساً على عقب. وأفادت تلميذة من ثانوية بيصور أنه “إذا كان في ميول سياسي بطّل في هلأ. أنا كان عندي ميول للحزب الإشتراكي من ورا أهلي ورفقاتي، يعني من ورا الـpeer pressure (ضغط الأقران) أحياناً، بس هلأ ولا أي 1% ميول لأي حزب من بعد الثورة”. أما تلميذ آخر من وادي شحرور فعبر عن نفس الخروج عن قيود الولاء السياسي: “كان في (ميول سياسي). بعد 17 تشرين تخلينا عن كل شي”. وقد يدل هذا التخلّي الجذري عن الأحزاب بين اليوم والآخر على ضعف العلاقة التي تربطهم أصلاً بهذه الأحزاب. وأكّد البعض الآخر بأنه لطالما كان مستقلاً، مع نبرة فخر، وكأن الولاء السياسي هو نوع من وصمة عار في بعض المجموعات. “اعتبر أنو أنت مقتنع أنو زعيمك منيح. إذا في تفاحة وحدة معفنة بالصندوق، بعفنوا كلن”.
“نحنا مش الصغار، نحن يلّي عايزين التغيير أكثر شي”
كان ردّ الطلاب واضحاً بما يخص سبب انضمامهم إلى ساحة رياض الصلح بشكل خاص والثورة بشكل عام: بناء دولة لبناء مستقبلهم فيها. من جهة، عبّرت تلميذة مدرسة القديس يوسف عن موقفها الذي وافقت تماماً عليه زميلاتها الواقفات من حولها:”نحنا مش صغار. نحن لح نتخرج . نحنا يلّي عايزين التغيير أكثر شي. كلنا عم منقدم لبرّا وما بدنا”. من جهة أخرى، أفاد طالب من مدرسة شفيق سعيّد الرسمية: “أنا ما فيني فوت على جامعة غير الجامعة اللبنانية. الجامعة اللبنانية تابعة للدولة بس محتلينها الأحزاب وكل الناس بتعرف هيدا الشي. لازم تنتمي لألن مش بس تعطي جهدك وأنا ما بدي أحزاب بدي وحدة وطنية. وكمان أنا ضد السرقة اللي عم بتصير بالبلد. أنا بطلع ببيّي قاعد عم بفكر كيف بدو يدبرها لآخر الشهر، ما عم يقدر يضاين مع سرقة الأموال عبر الضرائب”. وسحب دفتر من حقيبته وفتحه على صفحة مطالب أخرى تضمنت تجهيز المدارس الرسمية بالتدفئة “بدل ما يركبو كاميرات”، حق التلميذ بالتعبير عن رأيه في الصف، تحسين التكنولوجيا في التعليم، صيانة مباني المدارس الرسمية، وتأمين فرص عمل. “الثورة عم بتطالب بالحق وهول المطالب عن جد من الحق”. وأخيراً لم تخل مقابلة من تحدث التلامذة عن ضرورة تطوير المناهج المدرسية، من منهج التاريخ الذي يتوقف عند العام 1946، إلى صف التربية الذي بات بعيداً عن أي واقع، إلى إلزامية صفوف الفلسفة لطلاب العلوم وصفوف الرياضيات لطلاب الإجتماع والإقتصاد. فلتسقط الرياضيات.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.