مركز البسمة الطبّي للتلقيح الاصطناعي الذي استهدفته إسرائيل حيث قضت على 5000 من الأجنّة
في تاريخ 13 آذار 2025، أصدرت “اللجنة الدولية المستقلّة المعنيّة بالتحقيق في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وإسرائيل” تقريرًا يركّز على الاستخدام الإسرائيلي المنهجي للعنف الجنسي والإنجابي والجندري ضدّ الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية وفي الداخل منذ 7 تشرين الأوّل 2023. هذا التقرير الذي يستقي عنوانه: “أكثر مما يمكن أن يتحمّله بشر” من شهادة أم غزّاوية، مثقل على طول صفحاته التسعة وأربعين بشهادات فلسطينية مروّعة تروي تفاصيل العنف والألم والإذلال التي شهدنا على بعض منها خلال العام الماضي، من استشهاد جمانة أبو القمصان مع توأمها فيما كان الوالد يستحصل على وثيقة ولادتهما، واستشهاد الطفلة هند رجب، وجرائم الاغتصاب في سجن “سيدي تيمان”.
يتناول التقرير السياسة الإسرائيلية في استخدام العنف الجنسي والجندري كوسيلة لإخضاع الشعب الفلسطيني ومنعه من ممارسة حقّه في تقرير المصير (نتناوله في القسم الأوّل). لكن أهميته الكبرى تكمن في كونه صادرًا عن لجنة تحقيق دولية دائمة تتطرّق للمرّة الأولى بوضوح إلى أعمال الإبادة الجماعية في فلسطين، ولكونه المرجع الأوّل الذي يصنّف الممارسات الإسرائيلية بأنّها “فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة” أي كفعل إبادي يضاف إلى ممارسات إسرائيل الإبادية (القسم الثاني). كما أنّه يدحض الحجج الإسرائيلية عن قدرة القضاء الإسرائيلي على تأمين العدالة والمحاسبة عن الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون في حق الفلسطينيين، فيدعو إلى اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الوطنية (القسم الثالث).
ومن المتوّقع أن يُساهم هذا التقرير في دعم الحجج التي قدّمتها جنوب إفريقيا في دعوى الإبادة الجماعية المقامة ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، كما إلى دعم الإجراءات التي اتخذتها المحكمة الجنائية الدولية في حق المسؤولين الإسرائيليين لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.
وقبل عرض خلاصات هذا التقرير الهام، نتوّقف بداية للتذكير بمهام هذه اللجنة وأعمالها السابقة.
ما هي لجنة التحقيق الدولية المستقلّة؟
في 27 أيار 2021، وعلى خلفية أحداث الشيخ جرّاح وانتفاضة الوحدة في كامل فلسطين، قرر مجلس حقوق الإنسان إنشاء “لجنة تحقيق دولية مستقلة مستمرة للتحقيق داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وداخل إسرائيل في جميع الانتهاكات المزعومة للقانون الدولي الإنساني وجميع الانتهاكات والتجاوزات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الإنسان التي سبقت 13 نيسان/أبريل 2021 ووقعت منذ هذا التاريخ”. وهي تتألف من رئيستها نافانيثيم بيلاي (جنوب أفريقيا) وميلون كوثاري (الهند)، كريس سيدوتي (أستراليا).
بالإضافة إلى طابعها الدائم، خلافًا للجان التحقيق السابقة التي أنشأتها الأمم المتحدة حول فلسطين، فإن مهامها تشمل مهمّة التحقيق في “جميع الأسباب الجذرية الكامنة وراء التوترات المتكررة وعدم الاستقرار وإطالة أمد النزاع”. كما لها دور توثيقي من خلال تحديد الوقائع والظروف وجمع وتوحيد وتحليل الأدلة وتحديد هوية المسؤولين بغية ضمان مساءلة مرتكبي الانتهاكات. ولها أيضًا أن تقدّم توصيات إلى الدول الثالثة من أجل ضمان احترام القانون الدولي الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة.
ومنذ إنشائها، قدّمت اللجنة أكثر من تقرير إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الانتهاكات في فلسطين، وخلصت إلى أنّ “الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أصبح الآن غير قانوني بموجب القانون الدولي، بسبب ديمومته وبسبب الإجراءات التي تتخذها إسرائيل لضمّ أجزاء من الأرض بحكم الواقع والقانون”، وأنّ “إسرائيل لا تنوي إنهاء الإحتلال، ولديها سياسات واضحة لضمان السيطرة الكاملة على الأرض الفلسطينية المحتلّة، وأنّها تعمل على تغيير التركيبة السكانية من خلال الحفاظ على بيئة قمعية للفلسطينيين وبيئة مؤاتية للمستوطنين الإسرائيليين”. وقد استندت محكمة العدل الدولية على توثيق اللجنة وخلاصاتها لإصدار رأيها الاستشاري بشأن عدم قانونية الاحتلال.
ومنذ السابع من أكتوبر، أصدرت اللجنة تقريرين حول “النتائج المفصلة للعمليات العسكرية والاعتداءات التي وقعت في الأرض الفلسطينية المحتلّة” وتقرير إضافي ثالث، وخلصت فيها إلى “استخدام إسرائيل للتجويع كأسلوب حرب”، ودانت “العقاب الجماعي والأعمال الانتقامية التي مارستها السلطات الاسرائيلية”. كما بيّنت أنّ تصريحات المسؤولين الإسرائيليين تهدف إلى “إزالة الصفة البشرية عن الفلسطينيين بشكل منهجي وبالأخص الرجال والصبيان الفلسطينيين”.
وفي أيلول 2024، نشرت تقريرًا رابعًا حول الهجمات الاسرائيلية على المنشآت الطبية وعلى الأفراد العاملين فيها، وبشأن معاملة المعتقلين في إسرائيل ومعاملة الرهائن لدى الجماعات الفلسطينية المسلّحة. وخلصت فيه إلى انتهاك اسرائيل لعدد واسع من حقوق الإنسان كالحق في الحياة، والرعاية الصحية وعدم التمييز والكرامة الإنسانية والحقوق الإنجابية، كمّا وصّفت الممارسات الإسرائيلية على أنّها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من ضمنها جريمة الإبادة (extermination).
وهي إذ أشارت في التقرير الرابع إلى العنف الجندري والجنسي والإنجابي، وتطرّقت إلى “المعاناة الجسدية والنفسية الفورية للنساء والفتيات، التي سيكون لها آثار طويلة الأمد على الصحة العقلية والقدرة الإنجابية والخصوبة للشعب الفلسطيني ككل” وإلى مساهمة إسرائيل “بشكل متعمد في خلق ظروف حياة أدت إلى تدمير أجيال من الأطفال الفلسطينيين والشعب الفلسطيني ككل”، إلّا أنّها لم توصّف بشكل صريح الممارسات الإسرائيلية على أنّها أعمال إبادة جماعية (genocide).
واكتفت حينها بالتوصية بضرورة امتثال إسرائيل لكافة التدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية، وبضرورة اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع ارتكاب أي من أفعال الإبادة الجماعية. كما أوصت جميع الدول الأعضاء بالامتثال لكافة التزامات القانون الدولي، بما في ذلك الالتزام باتفاقية منع الإبادة الجماعية. أمّا تقريرها الخامس والأخير، فهو التقرير الأوّل الذي توصّف فيه اللجنة بعض الممارسات الإسرائيلية كأفعال إبادة جماعية، وهي جريمة دولية تُضاف إلى قائمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المتهّمة بها إسرائيل.
يذكر أنّ اللجنة لم تتلقّ أي رد من إسرائيل على طلبات الحصول على معلومات العديدة التي قدّمتها اللجنة، ومن ضمنها المعلومات المتعلّقة بالتحقيقات الجارية وجهود المساءلة، لتكون بذلك منسجمة مع موقفها حول رفض التعاون مع لجنة التحقيق ومع موقفها التاريخي من مجلس حقوق الإنسان، الذي لطالما رفضت تقاريره التي تدين أفعالها.
1. العنف الجنسي والجندري كوسيلة لإخضاع الشعب الفلسطيني
في البيان الصحافي للإعلان عن التقرير، صرّحت رئيسة اللجنة نافانيثيم بيلاي (جنوب أفريقيا) أنّه “لا يمكن الهروب من استنتاج مفاده أن إسرائيل قد استخدمت عنفًا جنسيًا وجندريًا ضدّ الفلسطينيين لترويعهم وإدامة نظام من الاضطهاد يقوّض حقهم في تقرير المصير”. وقد توسّعت اللجنة في تقريرها لتوثيق كلّ من العنف الجندري والجنسي والإنجابي، موضحة أنّ العنف الجندري لم يقتصر على النساء فقط، بل شمل الرجال أيضًا (فقرة 8، 20).
استهداف مباشر للنساء الفلسطينيات
أشارت اللجنة إلى أنّ النساء يمثلن ثلث الضحايا من العدد الإجمالي للشهداء (فقرة 23)، ويرجع ذلك إلى توسيع معايير الاستهداف الإسرائيلي لتشمل عددًا أكبر من المنازل الخاصة والمباني السكنية، مما يؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، بمن فيهم أفراد العائلات. كما وثقت اللجنة عدة تصريحات للقوات الإسرائيلية يمكن تفسيرها على أنّها تصريح ضمني بمنح الجنود الإذن باستهداف المواقع المدنية في غزة (فقرة 26).
إلى جانب ذلك، استهدفت القوات الإسرائيلية بشكل مباشر مركزًا متخصصًا بالعناية بالنساء المعنّفات حيث تم تدمير الطابق الذي كان يؤوي النساء الناجيات وأسرهنّ بالكامل، بينما ظلّ باقي المبنى سليمًا (فقرة 85). كما وثقّت عدة حالات استهداف مباشر بالقنص لنساء وفتيات حصلت خارج إطار أي عمليات عسكرية، من بينهنّ الطفلة هند رجب وعائلتها وأختها ليان (فقرة 29-38).
كما وجدت اللجنة أنّ النساء كنّ ضحية لاعتداءات جنسية شملت العنف اللفظي، التحرّش، التهديد بالاغتصاب، الإذلال، والإجبار على خلع الحجاب، في إطار انتقامي واضح. وتشير اللجنة إلى أنّ العنف الجنسي ليس ظاهرة جديدة في سياق الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لاحظت تصاعدًا في استخدامه كأسلوب للإذلال الجماعي، بما في ذلك تصوير وتوثيق هذه الاعتداءات لنشرها لاحقًا (فقرة 81). كما وثقت اللجنة خطابات الجنود الإسرائيليين وكتاباتهم على الجدران، التي تعبر عن رغبة في “استعادة الشرف الإسرائيلي” من خلال الاعتداء على النساء الفلسطينيات.
بالإضافة إلى ذلك، وثّقت ممارسة التشهير الرقمي (doxing)، حيث تمّ نشر معلومات شخصية عن الضحايا بقصد إذلالهنّ وعزلهنّ اجتماعيًا. ولم يقتصر هذا الأمر على نشر جنود إسرائيليين لمعلومات حول نساء في غزة، بل تطرّقت اللجنة إلى نشر وزير الأمن الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، على حسابه في منصة X صورًا لنساء فلسطينيات معتقلات من الضفة الغربية ومن أراضي 1948، على إثر نشرهنّ مواد متضامنة مع غزة. وفي ثلاث حالات، نشر بن غفير أسماء النساء إلى جانب صورهنّ، بينما في المقابل، وعلى الرغم من نشر صور معتقلين فلسطينيين ذكور، لم تُكشف أسماؤهم، وغُطيت وجوههم في معظم الأحيان للحفاظ على هويتهم (فقرة 82-92).
ووجدت اللجنة أنّ الحصار والمجاعة، اللذين شكلا أدوات حرب ممنهجة، أثّرا بشكل مباشر على النساء بخاصة على أكثر من 155 ألف امرأة حامل وأم مرضعة، نظرًا لاحتياجاتهنّ الغذائية الخاصة وضعفهنّ. وأدّى سوء التغذية قبل وأثناء الحمل والرضاعة إلى فقر الدم، تسمّم الحمل، النزيف، وفاة الأم، وفاة المولود والولادة المبكرة. كما أعاق نقص العناصر الغذائية نموّ أجساد وعقول الأطفال بشكل سليم (فقرة 59-68).
وأكّدت اللجنة أنّ تدمير القطاع الصحي، بما فيه تدمير مستشفيات الأمومة وأجنحة الأمومة في المستشفيات، أدّى إلى تعرّض الأمهات الحوامل والحديثات الولادة لمخاطر كبيرة، حيث لم يتمكنّ من الحصول على رعاية طبية مناسبة، مما تسبّب في زيادة الولادات المبكرة وحالات الإجهاض القسري. وتؤكد شهادة طبيبة أنّ الإجراءات الإسرائيلية والقصف المتكرر منذ أكتوبر 2023 سيكون لهما تأثيرات طويلة الأمد على خصوبة النساء في غزة، مضيفة أنّ مدى تأثير هذه الصدمات على الأجنة والمستقبل الديموغرافي للفلسطينيين لا يزال مجهولًا (فقرة 47).
أما فيما يتعلق بالدورة الشهرية، فوجدت اللجنة أنّ انعدام الوصول إلى المياه الضرورية للحفاظ على النظافة الشخصية أدّى إلى تفشي الأمراض بين النازحات، خصوصًا التهابات المهبل والمسالك البولية لدى النساء والفتيات. كما لجأت العديد منهنّ إلى استخدام بدائل منزلية غير آمنة للفوط الصحية، مما زاد من خطر العدوى التناسلية، التي قد تؤدي إلى العقم، ومضاعفات الولادة، وزيادة خطر الأمراض المنقولة جنسيًا (فقرة 72-77).
عنف جنسي ممنهج ضدّ الرجال
أشارت اللجنة بدايةً إلى ضرورة التمييز بين المقاتلين والرجال المدنيين. ففي حين زعمت القوات الإسرائيلية أنّها قتلت حوالي 17,000 من عناصر حماس وأعضاء الفصائل المسلّحة الأخرى، وبالنظر إلى أنّ العدد الإجمالي للوفيات بين الذكور البالغين في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 بلغ حوالي 16,735، فإن هذا يعني ضمنيًا أنّ إسرائيل تعتبر جميع الرجال البالغين في غزة مقاتلين وأهدافًا مشروعة (فقرة 7). عادةً، لدى ذكر حصيلة الضحايا، يتمّ الإشارة إلى عدد النساء والأطفال لوجود قرينة على صفتهم المدنية، من دون أن يشكّل ذلك تبريرًا لقتل الرجال. وهذا ما أكّدت عليه اللجنة حين أشارت إلى أنّه لا يمكن بأي حال اعتبار كلّ رجل فلسطيني مقاتلًا.
علاوة على ذلك، وثقت اللجنة الانتهاكات الجنسية ضدّ الفلسطينيين الذكور خلال العمليات البرّية في غزة، ولكن أيضًا داخل السجون الإسرائيلية، ومن قبل المستوطنين في الضفة الغربية، ممّا يبرز نمطًا منهجيًا من العنف الجنسي يستخدم كأداة للإذلال والإخضاع ضدهم (فقرة 200). بالفعل، وثقت اللجنة أكثر من عشر حالات لفلسطينيين ذكور في أوضاع مهينة، حيث خضعوا لأفعال ذات طبيعة جنسية، بما في ذلك العري القسري الكامل في الأماكن العامة وهم مجبرون على اتخاذ أوضاع خاضعة مثل التقييد على الكراسي، الركوع، أو الاستلقاء على الأرض معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي. كما تم توثيق حالات تعذيب جسدي أثناء هذه الانتهاكات، إضافةً إلى لقطات رقمية لفلسطينيين أسرهم الجنود الإسرائيليون وهم مجرّدون من ملابسهم. كما سجلت اللجنة حالتين موثقتين لمستوطنين مدنيين قاموا بتصوير وتوثيق اعتداءات جنسية على فلسطينيين (فقرة 94).
هذه الممارسات تحمل بعدًا جندريًا واضحًا، حيث استُهدف الرجال تحديدًا بهذه الأساليب كوسيلة للعقاب والترهيب، بدءًا من لحظة الاعتقال وطوال فترة الاحتجاز، بما في ذلك أثناء التحقيقات وعمليات التفتيش. وشملت هذه الانتهاكات حالات اغتصاب موثقة داخل السجون، حيث قامت اللجنة بتفصيل التعامل الرسمي الإسرائيلي مع واقعة الاعتداء الجنسي التي جرت في سجن “سيدي تامين”، كما التصريحات الرسمية والإعلامية والتظاهرات المرتبطة بها، ووجدت أنّ السلطات لم تتخذ أي إجراء لمعاقبة مرتكبي الاعتداء بل جرت محاولات لوقف أي ملاحقات، وخرجت تظاهرات وتصريحات علنية من وزراء لكفّ يد النيابة العامة وإطلاق سراح الفاعلين، ممجّدةً إياهم باعتبارهم “أبطالًا” ينبغي حمايتهم (فقرة 155-156).
خلصت اللجنة إلى اعتبار أنّ هذه الممارسات لم تكن فردية، بل هي منهجية، ولها بعد جندري واسع، واستنتجت أنّ تصوير الاعتداءات ونشرها إنّما يهدف إلى إهانة المجتمع الفلسطيني بشكل عام، عبر كسر صورة الرجولة النمطية مما يولّد شعورًا بالخجل والخضوع والدونية (فقرة 191). كما وجدت أنّ معاملة الرجال والفتيان كانت متعمّدة في إطار الانتقام من هجمات 7 أكتوبر 2023، من خلال “تأنيثهم” وإيذاء إحساسهم بالكرامة (فقرة 202).
2. منع الإنجاب كفعل إبادي يضاف إلى ممارسات إسرائيل الإباديّة
للمرة الأولى، اعتبرت اللجنة أنّ اسرائيل اقترفت الإبادة الجماعية عن طريق “فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل جماعة معينة” بحسب الفقرة (د) من المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية. ويشكّل الاستناد إلى هذه الفقرة سابقة في المقاربة القانونية للعنف الإسرائيلي في حق الفلسطينيين، إذ لم تشر إليها لغاية الآن أيّ من المراجع الدولية التي صنّفت جرائم إسرائيل بالإبادة الجماعية، لا سيما قرارات محكمة العدل الدولية في الدعوى المقامة من جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل، وتقريري المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيزي، فضلًا عن التقارير الصادرة عن جهات حقوقية مثل تقرير منظمة العفو الدولية.
واستندت اللجنة بشكل خاص إلى التدمير العمدي لمراكز الخصوبة في غزة كدليل واضح على هذا التوجه. إذ استهدفت القوات الاسرائيلية مركز البسمة للتلقيح الصناعي، وهو أكبر عيادة خصوبة في غزة، عبر القصف، مما أدى إلى تدمير نحو 4,000 جنين محفوظ، بالإضافة إلى 1,000 عيّنة من الحيوانات المنوية والبويضات غير المخصّبة (فقرة 41). ولم تجد اللجنة أي دليل على أنّ المركز كان هدفًا عسكريًا مشروعًا وقت الهجوم. وأشارت إلى أنّه اعتبارًا من كانون الثاني 2025، لم يعد هناك أي خدمات إنجابية عاملة داخل قطاع غزة. بناء عليه، اعتبرت اللجنة أنّ هذا التدمير كان بمثابة تدبير متعمد لمنع الولادات بين الفلسطينيين في غزة، وأنّ هذا التدمير كان بهدف القضاء على الفلسطينيين في غزة كجماعة، سواء بشكل كلي أو جزئي، ولم تجد أي تفسير آخر معقول لهذه الأفعال (فقرة 175).
بالإضافة إلى ذلك، وثقت اللجنة التدمير المنهجي لمنشآت الرعاية الصحية الجنسية والإنجابية في جميع أنحاء غزة، بما في ذلك المستشفيات المتخصصة بأمراض النساء وأجنحة الولادة. وقد نفذت السلطات الإسرائيلية هذه الهجمات بالتوازي مع فرض حصار خانق منع وصول المساعدات الإنسانية الأساسية، بما في ذلك الأدوية والمعدّات اللازمة لضمان سلامة الحمل والولادة ورعاية حديثي الولادة. كما منعت السلطات الإسرائيلية المرضى من مغادرة غزة لتلقي العلاج في الخارج. وخلصت اللجنة إلى أن هذه الممارسات أدت إلى تدمير جزئي للقدرة الإنجابية للفلسطينيين في غزة (فقرة 218).
كما اعتبرت أنّ الضرر الذي لحق بالنساء الحوامل والمرضعات والأمهات الجدد في غزة سيؤثر بشكل أكيد على صحتهنّ النفسية وقدرتهنّ البدنية في الإنجاب والخصوبة على المدى الطويل. وبالتالي، فقد ارتكبت القوات الإسرائيلية أيضًا فعل الإبادة عبر “إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا” أي الفقرة (ج) من المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية.
3. غياب معايير العدالة في القضاء الإسرائيلي وضرورة تفعيل المحاسبة دوليًا
بالإضافة إلى الاعتماد على شهادات الضحايا والشهود الفلسطينيين، استندت اللجنة على كمّ واسع من المحتوى الرقمي لتتثبّت من الانتهاكات. واللافت، أنّ جزءًا كبيرًا منه مصوّر ومنشور من قبل الجنود الإسرائيليين أنفسهم. واعتبرت اللجنة أنّ هذا بحد ذاته يؤكّد الثقافة الواضحة للإفلات من العقاب داخل القوّات الإسرائيلية، حيث يعتقد الجنود أنّهم لن يُحاسبوا أبدًا على الجرائم التي ارتكبوها. وهو ما يدلّ على تشجيع ضمني من القيادة المدنية والعسكرية العليا لهم. ولفتت اللجنة إلى عدم كفاية صدور توجيهات إسرائيلية للجنود بعدم تنفيذ أعمال انتقامية وعدم تصوير مقاطع فيديو للانتقام، إذ بدلًا من محاسبة المرتكبين، ركزت الجهود الإسرائيلية على توجيه الجنود بعدم نشر الصور والفيديوهات، وتوجيه وسائل الإعلام في إسرائيل لتمويه وجوه الجنود في الصور والفيديوهات، وهي إجراءات يمكن اعتبارها جزءًا من حماية المشتبه فيهم من التعرّف عليهم والتحقيق معهم. (فقرة 147-151).
وخلصت اللجنة إلى عدم إمكانية الاتكال على النظام القضائي الإسرائيلي لتحقيق العدالة ومحاسبة الجناة. فالقضاء الإسرائيلي لا يستوفي المعايير الدولية للعدالة في تعامله مع الفلسطينيين، إذ يعجز عن ضمان محاكمات عادلة بسبب طبيعته التمييزية في تطبيق القانون. ويُستخدم التشريع المحلي لملاحقة الفلسطينيين وتبرئة منتهكي حقوقهم، ما يجعله غير صالح لمحاسبة العسكريين والمدنيين الإسرائيليين على الجرائم المرتكبة في حق الفلسطينيين. واعتبرت اللجنة أنّه، في ظل غياب أي إجراءات جدية من السلطات الإسرائيلية، لا يمكن التذرع بمبدأ التكامل لعرقلة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية (فقرة 161).
وهذا ما يدحض الحجج الإسرائيلية المعتادة بوجوب الاعتماد على سلطاتها القضائية كونها دولة “ديمقراطية” ولديها قضاء مستقل، والتي كانت قد أثارتها للاعتراض على صلاحية المحكمة الجنائية الدولية من ملاحقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت لارتكابهما جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في غزّة.
بناءً على ذلك، أكدّت اللجنة ضرورة تفعيل المساءلة الدولية، سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية أو من خلال المحاكم الوطنية في دول أخرى يمكنها ممارسة اختصاصها القضائي الشامل لملاحقة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.