بالإضافة إلى حَوصلة أهمّ النّتائج المُضمّنة بتقرير جرد وضبط وضعيّة القروض والهبات المسندة للدّولة التّونسية وللمؤسّسات العموميّة من سنة 2011 إلى غاية 2021 (والتي تناولناها في الجزء الأول من هذا المقال)، تتضمّن الوثيقة التي تحصّلت عليها المفكّرة القانونيّة نتائج أعمال المتابعة المنجزة في الغرض إلى غاية شهر جوان 2023. في هذا الصّدد تُفيد الوثيقة أنّ هيئة الرّقابة العامّة للماليّة تولّت متابعة عيّنة من 8 وضعيّات، تخصّ المشاريع الأكثر خطورة من حيث الضّرر المالي المُسجّل وضعف أنظمة الرّقابة الدّاخليّة وتعطّل الإنجاز وضعف استهلاك التّمويلات الخارجيّة. لكنّ الملفت للانتباه، أنّ الهيئة لم تتلقَّ ردودًا بخصوص الإجراءات والتّدابير التي اتّخذتها مصالح الوزارات المعنيّة بالتّجاوزات، باستثناء 3 مشاريع فقط إلى غاية جوان 2023. لذلك يبدو أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيد لا يتقاسم نفس الرّهان السّياسي مع حكومته بخصوص عمليّة الجرد التي أرادَ لها أن تكون حجّة إدانة واضحة على اختلاس المال العام من حكّام العشريّة التي سبقته. في المقابل، يتقاسمان حالة العجز في صياغة بدائل قادرة على وضع حدّ للإخلالات التي تمّت معاينتها في التّقرير.
إلى جانب ذلك، تَحتوي الوثيقة على مَهمَّات التّدقيق التي قامتْ بها هيئة الرقابة المالية سنة 2022، والتي تلَت تقديم تقرير جرد القروض والهبات لرئيس الجمهوريّة. شملتْ مهامّ التّدقيق حسابات 40 مشروعا وقع تمويلها بـ24 هبة و34 قرضا (بمعدّل حوالي 3 قروض شهريّا وهو نفس المعدّل المسجّل منذ سنة 2011) لدى 14 جهة مانحة. وقد خَلُصت إلى تسجيل نفس النّقائص التي تضمّنها التّقرير، على غرار التّأخير الملحوظ في استكمال المشاريع مقارنة بالآجال التّعاقديّة وتواضع استهلاك موارد القروض والهبات وسوء إعداد الدّراسات وعدم تحيينها عند اللّزوم، وضعف حماية وصيانة الأصول والمعدّات. ويُعدّ ذلك أمرا بديهيّا، لأنّ نفس الأسباب تؤدّي إلى نفس النّتائج. وقد شملت أعمال الهيئة البرامج والمشاريع ذات الطّابع الخصوصي والمرتبطة بجائحة “كوفيد-19″، والتي لم تكن بدورها بمنأى عن سوء التصرّف.
جائحة الكوفيد-19: محطّة أخرى لإثبات قصور أجهزة الدّولة
شهدَت إدارة الجائحة جملة من الإخلالات والخروقات في جميع المستويات. تَعود هذه الإخلالات بالدّرجة الأولى إلى طبيعة الهيكلة الإداريّة وأسلوب الحوكمة النّمَطي، وليس إلى الإدارة الظرفية للأزمة الصحيّة المُستجدّة. كان هناك وعي لدى السّلطة آنذاك بحالة القصور المؤسّساتي في التعاطي مع الأزمة وانعكاساته المحتملة على تفاقم استشراء الفساد وسوء التصرّف في البلاد. لذلك أرادت الحكومة أن تتقاسم المسؤوليّة السياسية مع رئيس الجمهوريّة، وأرادَ هذا الأخير أن يلعب دورا في في إدارة الجائحة. في إطار ذلك، أحدِثَت بأمر حكومي لجنة خاصّة لدى وزارة الدّفاع برئاسة المدير العام للصحّة العسكريّة للإشراف على جميع الطّلبات العموميّة ذات الطّبيعة الطبيّة. غير أنّ تقرير الجرد سيُثبت أنّ اللّجنة المذكورة لم تتمكّن من الوقوف حائلا أمام الإخلالات والنّقائص التي دوّنتها عمليّة التّدقيق، بالإضافة إلى أنّها ساهمت في تعميق البيروقراطيّة والتشتّت الإداري.
عرفت سنة 2020، قفزة في مستوى عجز الميزانيّة بلغ 13.4%، وفي مستوى حجم الدّين العمومي الذي ناهز 90% من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب تعطّل النّشاط الاقتصادي واللجوء إلى القروض والهبَات كمصادر لسدّ معظم النّفقات الطّارئة جرّاء الجائحة. في هذا السّياق، شملَت عمليّة التّدقيق حسابات “برنامج اقتناء وسائل الحماية الفرديّة” و”برنامج اقتناء اللقاحات المضادّة لفيروس كوفيد19″، المموّلًين بقرضًين من البنك الدولي للإنشاء والتّعمير. خلُصَ التّدقيق إلى عدم احترام الآجال التعاقديّة لتسليم بعض الكميّات من وسائل الحماية الفرديّة، ما أفضَى إلى تجاوز خطايا التأخير التي لم يقع تطبيقها 2.1 مليار دينار. ويُفيد التّقرير أيضا أنّ وزارة الصحّة حمّلت المسؤوليّة للصّيدليّة المركزيّة التي لم تُحرّك ساكنا. علاوة على ذلك، انتهى التّقرير إلى عدم القيام بأيّة عمليّة تدقيق فنيّة لوسائل الحماية الفرديّة التي استُهلِكت جميعها منذ 2020، أي أنّ وزارة الصحّة لم تقمْ البتّة بالتحقّق من توزيع وتسليم واستخدام معدّات الحماية الفرديّة.
تُشير أعمال الهيئة في ضبط مسارات القروض والهبات -في مناسبات عدّة- إلى درجة من التّراخي الإداري تتجاوز أحيانا المنطق عند الحديث عن تسيير الدّول. في هذا الصّدد، سنجد مثلا أنّ الصيدليّة المركزيّة، وفي إطار “برنامج إقتناء اللقاحات المضادّة لفيروس كوفيد19″، قامَت بخلاص كميّات من التّلاقيح من نوع «PFIZER» بقيمة 129.410 مليون دينار بناءً على فواتير تقديريّة لغياب الفواتير الأصليّة الصّادرة عن المزوّد. وضمن نفس البرنامج، تؤكّد نتائج مهمّة التّدقيق غياب الدقّة في تحديد وزارة الصحّة حاجياتها من اللقاحات، وهو ما أدّى إلى حدوث خسائر ماليّة. على سبيل الذّكر، عايَنَ فريق الرّقابة وجود 528.270 جرعة لقاح من نوع «PFIZER» بقيمة حوالي 10.3 مليون دينار مُنتهية الصّلوحيّة في مستودعات الصيدليّة المركزيّة، وقد وقعَ التّمديد في صلوحيّتها بـ6 أشهر إضافيّة (من 30 مارس إلى غاية 30 سبتمبر 2022). في الوقت الذي تُقرّ فيه عمليّة الرّقابة بانتهاء صلوحيّة التّلاقيح، فإن الصيدليّة المركزيّة تُفيد -في ردّها على ذلك- أنّه تمّ الاحتفاظ بالكميّة المذكورة لاحتمال التّمديد في قابليّة استعمالها لأنّها قابلة للتطبيق بأثر رجعي[1]. كما أقرّ التّقرير بوجود 640.180 جرعة من لقاح «JANSSEN» تقدّر بـ13.352 مليون دينار مُخزّنة في مستودعات الصيدليّة المركزيّة إلى أجل غير مسمّى، رغم تعليق استعمالها لأسباب طبيّة منذ ماي 2022.
كما شملتْ أعمال التّدقيق “برنامج الحماية الإجتماعيّة للتصدّي العاجل لجائحة كوفيد-19″، والذي تمّ تمويله بقرض من البنك الدّولي للإنشاء والتّعمير. ورغم محدوديّة آثاره الاجتماعيّة -على غرار سابقيه- لم يَخلُ إنفاق هذا القرض من التّجاوزات التي كشفَتها عمليّة الجرد. وسيتمّ تسجيل عدّة نقائض تنظيميّة سَتكون بدورها مدخلا لجملة إشكالات لاحقة، على غرار عدم إحداث خليّة التّدقيق الدّاخلي والتأخّر في إحداث اللجان الفنيّة الخاصّة وغياب محاضر تسليم واستلام المهامّ بين المسؤولين المتعاقبين على إدارة البرنامج، إضافة إلى نقص الإمكانيّات البشريّة لوحدة التصرّف في البرنامج. وقد تركّزت تحفّظات هيئة الرّقابة العامّة للماليّة حول عدم احترام شروط الانتفاع بالمساعدات الماليّة الظرفية والاستثنائية. إذ وقعَ تَمتيع حوالي 3800 شخص بالمساعدات لا تتوفّر فيهم المقاييس الاجتماعيّة التي تمّ تحديدها في القرار المشترك سنة 2021 بين وزارة الشؤون الإجتماعيّة ووزارة الاقتصاد والماليّة. إلى جانب ذلك، وقعَ تسجيل تجاوزات مُتعلّقة بالمنتفعين القارّين بالمنحة الشّهريّة للعائلات الفقيرة، والذين تمتّعوا آليّا بالمساعدات الماليّة الاستثنائيّة، حيث تمّت ملاحظة حوالي 2500 منتفع لا تتوفّر فيهم شروط الانتفاع بالمنحة الشّهريّة أصلا، من بينهم 924 يشتغلون في القطاع العامّ.
التّمويلات الخارجيّة: اختلاس أم أزمة هيكليّة؟
خلال الاجتماع الذي عقده رئيس الجمهوريّة بوزيرة الماليّة ومحافظ البنك المركزي بتاريخ 3 أوت 2022 -والذي تمّ فيه استعراض تقرير جرد وضبط القروض والهبات المُسندة للدولة التونسية والمؤسسات العموميّة- شدّد الرّئيس على ضرورة ترتيب الآثار القانونيّة للتّجاوزات الواردة بالتّقرير. كما أشار إلى وجود “هبات استفاد منها أشخاص” وأضاف قائلا: “بدأ الكشف عمّن كانوا يدّعون زورا وبهتانا خدمة الشعب ويُصَادقون على القوانين، باسمه في حين أن الشعب منهم براء ولن يتنازل عن حقه في المحاسبة”. يَظهر هنا الرّبط المباشر بين ما تمّ تصويره على أنّه وضعيّات “اختلاس” لأموال الشّعب وبين دوائر الحكم السّابقة لمنظومة 25 جويلية. وقد أثبت قيس سعيّد منذ تفرّده بالحكم، أنّ تمثّله للإنجاز السّياسي يرتكز على المحاسبة القضائيّة التي تنسجم مع رواية المؤامرة. فالإخلالات والتّجاوزات التي أتتْ عليها عمليّة التّدقيق (والتي تهمّ جميع الوزارات وتمسّ كامل مراحل المشاريع من الدّراسة إلى التّنفيذ) تبدو مُشَخصَنة في خطاب الرّئيس، وهكذا فإنّ محاسبة الأشخاص المسؤولة عن ذلك كفيلة لوحدها بالقضاء على الفساد السياسيّ والإداريّ وخلق نمط عمل جديد داخل الجهاز التّنفيذي، قوامه “الأخلاق” والنّجاعة.
بالعودة إلى مضامين الوثيقة التي بحوزتنا، والتي تشمل أهمّ النّتائج المضمّنة بتقرير الجرد وأعمال المتابعة المنجزة في الغرض إلى حدود جوان 2023، لم تتوصّل عمليّة التّدقيق إلى تحميل مسؤوليّة مباشرة لشخصيّات تقلّدت مناصب في الدّولة، أو بمعنى أدقّ إلى تحديد عمليّات اختلاس واضحة المعالم بالنسّبة إليهم. وخصوصا في مسألة الهبات التي لم يقع حصرها بدقّة، لأنّه بسبب نقائص وإخلالات إجرائيّة وتشريعيّة (على غرار غياب إجراءات موحّدة للتصرّف في الهبات وغياب إطار تشريعي يلزم بإخضاع موارد الهبات لمجلة المحاسبة العموميّة) فُتِحَ الباب لسوء التصرّف فيها.
يمثّل سوء حوكمة المال العام حالة موضوعيّة لا يمكن إنكارها، وهو أكبر العناوين التي قامت عليها الثّورة. لكنّ المسار السّياسي الذي انطلق بعد 2011، فَشل في بلورة مشروع حكم ديمقراطي وطني. وَاصلت مختلف التّحالفات التي مَسكَت بزمام السّلطة الإعتماد في الجوهر على بنية الدّولة القديمة وتوظيف أجهزتها، التي نشأت وترعرعت في فضاء استبدادي، لفائدة مصالحها السّياسيّة. لذلك لا يُمثّل الفساد ظاهرة معزولة أو ظرفيّة في تونس، عكس ما يحيل عليه الخطاب الرّئاسي في أنّ الفساد حالة طارئة خلال العشريّة اللاحقة لاندلاع الثّورة والسّابقة لحكمه، إذ أنّ حوصَلَة تقرير جرد الموارد الخارجيّة تُدعّم واقع أنّ سوء التصرّف في المال العامّ راجع بالأساس لأسباب هيكليّة تفاقمت عبر عقود.
بل أكثر من ذلك، فإنّ الخلل الأساسي يَكمن في بنية الإدارة التّونسيّة المهترئة بفعل التّقادم والتوظيف السّياسي. فقد وصل توظيف الإدارة في النّظام السّابق إلى حدّ تركيز أجهزة عموميّة لخلق أطر قانونيّة للاستيلاء على الملك العامّ. على غرار إحداث وزارة أملاك الدّولة والشّؤون العقّاريّة سنة 1990 والتي تمثّل مثالا صارخا ومعلوما في استغلالها من قبل النظام السّابق وبطانته للسّطو على الملك العامّ والخاصّ. لذلك يقبع الجهاز الإداري اليوم تحت وطأة البيروقراطيّة والتشتّت الإداري والتشريعي وتضخّم النّصوص القانونيّة لقطاع بعينه أو غيابها، وسوء توزيع العنصر البشري الذي أفضى إلى اكتظاظ بعض الإدارات مقابل تسجيل نقص فادح في أخرى. بالإضافة إلى أشكال التّنظيم العتيقة، والمَركزيّة المفرطة أحيانا وضعف الرّقمنة والرّقابة.
في هذا السّياق، وجبَ التّأكيد على أنّ الخلل الأصلي يَكمن في هَيكلة المنظومة، والذي أدّى بشكل طبيعي إلى سوء التصرّف (له تبعات إداريّة) والفساد (له تبعات قضائيّة). إذ أنَّ حجم التّمويلات الخارجيّة الضّخم، مقارنة بحجم الناتج المحلي الإجمالي -التي تحصّلت عليها تونس منذ 2011- لم ينعكس على مستوى التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ليس بسبب نهب كلّ تلك التّمويلات وإنّما بالأساس وببساطة لأنّ الدّولة تقوم بتخصيص وإنفاق أموالها بشكل سيّء. هذه المنظومة وصلت حدّ العبث وأصبح لها تكلفة باهظة جدّا على المجتمع. رغم الجدل الذي يُخاض سنويّا على ضعف ميزانيّة الاستثمار العمومي فإنه لا يقع صرفها في مجملها، مما يفضي إلى التّرفيع في كلفة المشاريع (ارتفاع أسعار السّلع والخدمات) وكلفة تمويلها (تغيير شروط التّمويل) بسبب تغيير الجدولة الزّمنيّة. ومع ذلك، لا يقع احترام الجدولة الجديدة مما يؤدّي إلى إلغاء جزء من التمويل دون استكمال المشروع الذي يَفقد نجاعته الوظيفيّة. هذا دون الحديث على تجاوزات المقاولين والمزوّدين بسبب ضعف الرّقابة وتخلّف الدّولة عن سداد مستحقّاتهم، ولكن بالأساس بسبب أحكام الأمر المنظم للصّفقات العموميّة التي تشكّل أحيانا مدخلا للغشّ والتحيّل نتيجة مبدأ منح الصّفقة لصاحب العرض المالي الأقلّ ثمنا.
من الضّروري عدم تكريس الإفلات من العقاب عبر محاسبة كل المسؤولين على التّجاوزات سواء إداريّا أو قضائيّا، ولكن في إطار قانوني وشفّاف، بعيدا عن رمي التّهم جزافا ووصم “الجميع” بالتورّط في الفساد. من المتوقع أن لهذا الخطاب قدرة تعبويّة، لأنّه يتوافق مع المزاج العامّ في الوقت الرّاهن، لكنّه في المقابل لا يُصلح أحوال الدّولة. فنَجاعة التصرّف في المال العامّ والقدرة على الإنجاز يتطلّبان برنامجا شاملا يُعالج أوّلا العوائق الهيكليّة، وهذا لا نرى له أثرا في القول والفعل الرّئاسي.
[1] لا يذكر التّقرير مآل تلك الكميّة سواء تمّ إستعمالها أو إتلافها، كما يغيب التّدقيق حول مسألة التمديد في صلوحيّة جرعات اللقاح وإمكانيّة إستعمالها بأثر رجعي طبيّا.