قرر مجلس الوزراء في جلسته بتاريخ 8 شباط 2024 تعيين حسّان عودة رئيسا للأركان في الجيش وترقيته إلى رتبة لواء. لكن المُستغرب أن ذلك تمّ على رغم من مقاطعة وزير الدفاع لجلسات مجلس الوزراء وعدم تقديمه لاقتراح بهذا الشأن كونه دستوريا الوزير المختص عملا بالمادة 21 من قانون الدفاع الوطني لسنة 1983 والتي تنص صراحة على التالي: “يعين رئيس الأركان من بين الضباط العامين المجازين في الأركان من الذين لم يسبق أن وضعوا في الاحتياط وذلك بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الدفاع الوطني بعد استطلاع رأي قائد الجيش”.
ولا شكّ أن الطبيعة غير المسبوقة لهذا القرار تشرح لماذا أصرّ محضر مجلس الوزراء على الاستشهاد بدراسة قانونيّة أعدها أمين عام مجلس الوزراء محمود مكيّة تجيز تعيين رئيس الأركان ليس فقط من دون وجود اقتراح لوزير الدفاع بل أيضا في ظلّ رفض هذا الأخير التوقيع على مرسوم التعيين ما يعني أن هذا المرسوم بات يخالف مباشرة المادة 54 من الدستور التي توجب توقيع جميع مقررات رئيس الجمهورية من قبل الوزير المختصّ. وبما أن مجلس الوزراء يتولّى اليوم وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية، فإنّ هذا يعني أن المراسيم التي يصدرها المجلس يجب أن تقترن بتوقيع الوزراء المختصّين وإلا تكون مخالفة للدستور وعرضة للإبطال لتجاوزها حدّ السلطة في حال الطعن بها أمام مجلس شورى الدولة.
ينطلق قرار مجلس الوزراء من وجوب سدّ الشغور في رئاسة الأركان نظرا للظروف الاستثنائية التي يمرّ بها لبنان بسبب العدوان الإسرائيلي واحتمال توسُّع رقعة الحرب ولما لذلك التعيين من “نتائج إيجابية على حسن أداء الإدارة العسكرية”.
ويتبيّن أيضا أن رئيس حكومة تصريف الأعمال قد طلب رسميا في تاريخ 25 تشرين الأول 2023 من وزير الدفاع رفع الاقتراحات اللازمة كي يتمكن مجلس الوزراء من التعيين، لكن وزير الدفاع أحجم عن ذلك بسبب الخلاف بين الفريق السياسيّ الذي ينتمي إليه ورئيس الحكومة. وقد كرّر رئيس الحكومة طلبه هذا بتاريخ 18 كانون الأول 2023 لكن وزير الدفاع رفض مجددا الاستجابة معتبرا “أن التفاهم حول إيجاد الحلول يتمّ بعد الفاهم السياسي”.
ويصل مجلس الوزراء في قراره إلى استنتاج مفادُه أنّ موقف وزير الدفاع هو استنكاف عن القيام بواجبه الدستوري إذ “لا يمكن أن تبقى الحكومة رهينة موقف الوزير السلبيّ مع ما يترتب على ذلك من مسؤوليات تتحملها هي ورئيسها، بحيث يبقى الخيار الوحيد أمامها هو البحث عن الحلول البديلة التي تجد لها سنداً في الدستور ومن شأنها أن تؤمّن استمرارية سير المرافق العامة”.
وهكذا يتبنّى مجلس الوزراء الحلّ الذي ابتكرته دراسة أمين عام مجلس الوزراء حول نظرية “الشكليات المستحيلة” (Formalités Impossibles) التي أقرّها اجتهاد القضاء الإداري في كل من لبنان وفرنسا والتي تقضي بإمكانية تخطّي احترام المعاملات الجوهرية التي يفرضها القانون لصدور قرار ما في ظلّ الظروف الاستثنائيّة أو عند وجود استحالة مادّية أو قانونية لإجراء تلك المعاملات.
وهكذا يعلن قرار مجلس الوزراء أن تمنّع وزير الدفاع عن تقديم اقتراحه يُدخل هذا الاقتراح في عداد الشكليات المستحيلة التي يمكن تجاوزها لتفادي الشغور في الجيش على أن يحلّ رئيس مجلس الوزراء محلّ الوزير بتقديم الاقتراح بوصفه نائبا للقائد الأعلى للقوات المسلحة “والمسؤول الأول عن سياسة الحكومة والمؤتمن بموجب الدستور على ضمان حسن سير العمل في الإدارات”.
إن هذا التطور القانونيّ الخطير يحتّم علينا تحليل هذا القرار والدراسة التي استند عليها من أجل تسويغ هكذا خرق للنظام الدستوري في الدولة اللبنانية.
أولا: مخارج قانونية لنزاع سياسي
يعكس قرار مجلس الوزراء الطبيعة السياسية لمجلس الوزراء في لبنان اليوم الذي بات عبارة عن تكتل بين قوى حزبية لديها مصالح متضاربة. فتمنّع وزير ما عن الالتزام بتعليمات الحكومة أو رفضه للتوقيع على مرسوم أقرّته هذه الأخيرة هو أمر يخلّ بمبدأ التضامن الوزاري المنصوص عليه في المادة 66 من الدستور والمكرّس أيضا في المادة 28 من المرسوم رقم 2552 تاريخ 1 آب 1992 (تنظيم أعمال مجلس الوزراء) إذ نصت صراحة على التالي: “إن قرارات مجلس الوزراء ملزمة لجميع أعضاء الحكومة وفقا لمبدأ التضامن الوزاري وعلى الوزير المختص تبعا لذلك الالتزام بتوقيع مشاريع المراسيم تنفيذا لهذه القرارات”.
فبغضّ النظر عن صوابية موقف الوزير، من المفترض أن يؤدّي خرق مبدأ التضامن الوزاري إلى عقوبة سياسية تفضي إلى استقالة الوزير أو إقالته أو سحب حقيبته الوزارية. وقد عرف لبنان بعد 1990 جميع هذه السوابق عندما نزعت حقيبة الموارد المائية والكهربائية سنة 1993 من جورج إفرام لصالح الياس حبيقة (ومن ثم جرت اقالة الوزير إفرام)، ومرة ثانية سنة 1994 عبر نزع وزارة الداخلية من بشارة مرهج لصالح ميشال المر. ولا شك أن نزع الحقيبة من الوزير المشاكس هو تدبير لجأ إليه حينها رئيس الجمهورية الياس الهراوي بالاتفاق مع رئيس الحكومة رفيق الحريري كون إقالة الوزراء بعد تعديلات اتفاق الطائف باتت صعبة جدا وتحتاج إلى موافقة ثلثي مجلس الوزراء. لذلك تم اعتماد هذا الحل الذي يقضي بإصدار مرسوم بتعديل تشكيل الحكومة وذلك بتبديل الحقائب، أي أن يتم نزع الحقيبة من الوزير المشكو منه وتعيينه فقط كوزير دولة، ومنح حقيبته لوزير آخر، ما يؤدي عمليا إلى حرمانه من صلاحية توقيع المراسيم، لأن وزير الدولة ليس مختصا بإدارة وزارة معينة من وزارات الدولة المختلفة.
وقد اعتبر مثلا العميد “جورج فيديل” أنه في حال جرى تصويت ما داخل جلسة لمجلس الوزراء، فإنه يتعين على الأقليّة أن تقبل وتنضمّ لرأي الأكثرية إذ لا توجد “معارضة” داخل الحكومة. فقط عبر استقالته، يتمكن الوزير من استعادة حريته والتعبير عن رفضه لقرارات الحكومة[1].
وقد حصل هذا الأمر بالفعل عندما رفض وزير العمل شربل نحاس لأسباب مبدئية وقانونية التوقيع على ما بات يُعرف بمرسوم بدل النقل رغم إقراره في مجلس الوزراء سنة 2012. وانتهى الأمر حينها بتقديم شربل نحاس لاستقالته وصدور المرسوم رقم 7573 تاريخ 23/2/2012 حاملا توقيع وزير العمل بالوكالة نقولا فتوش.
وهكذا يتبين أن الحلّ الدستوري في نظام برلماني يعمل بشكل سليم يتخذ شكل العقوبة السياسية عبر تقديم الوزير لاستقالته أو إقالته أو سحب حقيبته. لكن جميع هذه الحلول غير متوفرة في لبنان ليس فقط بسبب تشظّي مجلس الوزراء والتناحر السلطويّ الذي يهيمن عليه لكن أيضا بسبب الشغور في رئاسة الجمهورية الذي يجعل من إقالة الوزراء أو تبديل حقائبهم من الأمور المستغربة جدا. فالمخارج القانونية التي اقترحتها دراسة أمين عام مجلس الوزراء تعكس في الحقيقة الطبيعة التوافقية للسلطة التنفيذية بعد 1990 إذ بات الوزير بعد تعيينه يتمتّع باستقلاليّة كبيرة تخوّله التحرّر من رئيسيْ الجمهورية والحكومة لا بل من مجلس الوزراء نفسه، وهو لا يخضع عمليّا إلا للجهة السياسيّة التي قامت بفرض تعيينه في الحكومة.
ثانيا: نظرية “الشكليات المستحيلة” المستحيلة
لجأ مجلس الوزراء إلى نظرية الشكليّات المستحيلة لتخطّي امتناع وزير الدفاع عن التوقيع انطلاقا من دراسة أمين عام مجلس الوزراء لتفادي الشغور في “الظروف الاستثنائية” التي يمرّ بها لبنان والمنطقة. وفي حال وضعْنا جانبا أنّ هذه الدراسة تمّ وضعُها بطلبٍ من مجلس الوزراء قبل التصويت على قانون التمديد لقائد الجيش، تثور تساؤلات مشروعة حول لماذا لم يتم تعيين قائد جديد للجيش انطلاقا من نظرية الشكليات المستحيلة بدل التمديد للقائد الحالي بقانون تحيط بدستوريته شكوك كبيرة. وعليه، لا بد من معرفة مدى انطباق هذه النظرية على قرار تعيين الرئيس الجديد للأركان.
وقد أعلن مجلس شورى الدولة في أكثر من قرار له أن يمكن عدم “التقيّد بالأصول والمراسم الجوهرية عند استحالة إمكانية تطبيقها” كون نظرية الشكليات المستحيلة “تتحقق عند وجود ظروف استثنائية أو عند إستحالة مادية أو قانونية لإتمام الإجراء المعين أي لأخذ الاقتراح أو الرأي او الموافقة” (قرار رقم 375 تاريخ 12/2/2008).
لكن التمعّن في قرارات مجلس شورى الدولة يُظهر أن الأصول والمعاملات الجوهريّة التي يمكن تخطّيها عملا بنظريّة الشكليّات المستحيلة تكون فعليّا بسبب استحالة إتمامها كعدم إمكانية وضع جداول ترشيح الضباط لرتبة عقيد بسبب فقدان مجلس القيادة في قوى الأمن الداخلي لنصابه، علمًا أن القانون يفرض وضع تلك الجداول من قبل مجلس القيادة. لذلك وبسبب فقدان مجلس القيادة نصابه وتعذّر اجتماعه لوضع تلك الجداول “وطبقا لنظرية الشكليات المستحيلة، بات بإمكان المدير العام لقوى الأمن الداخلي وضع هذه الجداول منفردا” (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 394 تاريخ 6/2/2018).
وكذلك الأمر بالنسبة لمرسوم إنهاء خدمة أستاذ في الجامعة اللبنانية اتُّخذ من دون موافقة مجلس الجامعة كما يفرضه القانون. فقد اعتبر مجلس شورى الدولة أنّ قرارات إنهاء الخدمة بعد موافقة مجلس الجامعة هو من “الأصول أو المراسم الجوهرية التي من شأنها إفساد العمل الإداري المتخذ في حال عدم احترام تلك الأصول” لكن “بما أن أخذ موافقة مجلس الجامعة كان أمرا مستحيلا لكون المجلس لم يكن بتاريخه مكتملا وفق الأصول وأن أمر التقيّد بالموافقة المسبقة كان مستحيلا ولا يمكن إيعاز تلك الاستحالة إلى فعل الإدارة أو إلى إهمال أو تهاون الادارة ذاتها ما دام أن مجلس الجامعة لم يكتمل بسبب عدم وجود ممثلين عن أفراد الهيئة التعليمية وبسبب عدم وجود ممثلين أيضا عن الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة” ( قرار رقم 549 تاريخ 13/7/1994).
فنظرية الشكليات المستحيلة تنطبق في المبدأ عند وجود استحالة قانونية (فقدان نصاب أو عدم اكتمال أو تعيين الهيئة المخولة إبداء رأيها أو موافقتها على القرار المزمع صدوره) أو استحالة مادية (حرب أو كارثة طبيعية أو ظرف استثنائي قاهر يجعل من اجتماع هذه الجهة مستحيلا).
وإذا كان مجلس شورى الدولة الفرنسيّ في أكثر من قرار[2] له قد توسّع في هذه النظريّة، بحيثُ اعتبرَ أن التمنّع المقصود عن إبداء الرأي بهدف عرقلة صدور القرار يدخل في نظرية الشكليات المستحيلة، لكن يصعب معرفة كيفية تطبيق هذا الأمر على صلاحيات منحها الدستور للوزير بينما الشكليات المستحيلة تتعلق دائما بأصول ومعاملات أوجدها القانون وليس الدستور.
وما يفاقم من عدم إمكانية اعتبار رفض وزير الدفاع اقتراح أسماء للتعيين بمثابة العرقلة التي تدخل في الشكليات المستحيلة، هو أنّ مجلس شورى الدولة في لبنان يعتبر أن توقيع الوزير الدّستوريّ يدخل من ضمن قواعد الصلاحيّات والاخْتصاص وليس من ضمن المعاملات والمراسم الجوهرية التي تعيب العمل الإداري من حيث الشكل فقط. فخلافا للاجتهاد الفرنسي -الذي يشكّك فيه الفقه- والذي يعتبر أن غياب توقيع الوزير هو عيب شكلي وليس من عيوب الاختصاص[3]، قضى مجلس شورى الدولة في لبنان أن توقيع الوزير المختص ليس معاملة جوهرية تتعلق بشكل المرسوم بل هو يدخل في قواعد الاختصاص إذ “إن توقيع الوزير المختص المرسوم ليس أمرا شكليا لازما فحسب بل أنه من المقوّمات الجوهرية لتكوين المرسوم الصادر لتعلقه بالصلاحية وعلى هذا فإنّ خلو مرسوم ما من توقيع الوزير المختص يجعل هذا المرسوم عملا إداريا باطلا لصدوره عن سلطة غير صالحة” (قرار رقم 133 تاريخ 4/12/1997).
وهكذا يتبين أن رئيس الحكومة لا يمكن له بأيّ شكل من الأشكال أن يحلّ مكان وزير الدفاع عبر اقتراح أسماء على مجلس الوزراء من أجل تعيين رئيس جديد للأركان كونه ليس الوزير المختص. ولا يمكن استبعاد وزير الدفاع عبر نظرية الشكليات المستحيلة، كون غياب وزير الأصيل يمكن استدراكه قانونا عبر وجود الوزير الوكيل الذي يحقّ التوقيع على جميع المراسيم واتخاذ جميع القرارات التي تعود قانونا للوزير الأصيل. لكن وزير الدفاع ليس غائبا ولا يمكن للوزير الوكيل أن يحلّ محله ما يعني أن القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء صدر بشكل مخالف للدستور وهو قابل للإبطال عند الطعن فيه أمام القضاء الإداري، ولا شيء يمنع أن يقوم وزير الدفاع نفسه بتقديم الطعن كما حدث عندما قدم وزير الدولة جورج إفرام سنة 1993 طعنا ضد المرسوم الذي سحب منه حقيبة الموارد المائية والكهربائية.
ثالثا: النفاذ الحكمي للمرسوم
احتوى قرار مجلس الوزراء بتعيين رئيس الأركان على عبارة إشكالية هي أقرب إلى اللغز، إذ أعلن حصول التعيين “بعد أن تنازل الوزراء الذين وافقوا على القرار عن الحقّ في طلب إعادة النظر به المنصوص عنه في الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور ما يجعله نافذا حكما”.
إذ أن المادّة 56 من الدستور تمنح رئيس الجمهورية صلاحيّة طلب إعادة النظر في أيّ قرارات لمجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما وفي حال امتنع رئيس الجمهورية عن توقيع المرسوم أو ردّه إلى الحكومة خلال هذه المهلة، يعتبر المرسوم أو القرار نافذا حكما ووجُب نشره. وقد صدرتْ بالفعل بين 2006 و2008 العديد من المراسيم من دون توقيع رئيس الجمهورية بسبب الخلاف السياسي الذي كان قائما بين رئيس الجمهورية إميل لحود وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة. وقد نشرت هذه المراسيم من دون أيّ توقيع. لكن هذا لا يعني أنّها لم تكن موقّعة إذ هي تحمل تواقيع رئيس الحكومة والوزراء المختصّين عند إحالتها إلى رئاسة الجمهورية كون توقيع رئيس الجمهورية هو دائما التوقيع الأخير إذ يستحيل وصول مرسوم إلى هذا الأخير في حال لم يكن موقعا من رئيس الحكومة والوزير المختص.
وهكذا يتبين أن قرار مجلس الوزراء باعتبار المرسوم نافذا حكما هو من قبيل المناورة التي تهدف على ما يبدو إلى نشر المرسوم في الجريدة الرسمية خاليا من توقيع جميع الوزراء المختصين (أي رئيس الحكومة ووزير الدفاع ووزير المالية)، وذلك بهدف تغطية غياب توقيع الوزير الدفاع. ولا شكّ أن هذا ابتكار غير مسبوق إذ لا وجود لشيء اسمه تنازل رئيس الجمهورية عن حقّه بطلب إعادة النظر في المرسوم كون رئيس الجمهورية إما يوقع على المرسوم أو يعيده إلى مجلس الوزراء أو ينتظر انقضاء المهلة الدستورية من دون اتخاذ أي من الخطوتين ما يجعل المرسوم نافذا حكما. وبالتالي لا يمكن اعتبار المراسيم نافذة حكما بمجرد إعلان رئيس الجمهورية رغبته بعدم التوقيع عليها أو عدم ردها إلى الحكومة بل يجب انتظار انقضاء المهلة الدستورية لذلك.
ولا شك أن شغور رئاسة الجمهورية يضعنا أمام وضعية دستورية غير مسبوقة. إذ أنّ مجلس الوزراء وافق على مرسوم التعيين، ما يعني أن عليه الآن بصفته الجهة التي تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة إصدار المرسوم مذيّلا بتوقيع الوزراء المختصّين، وهو الأمر الذي يجب أن يحصل بداهة كون مجلس الوزراء وافق على المرسوم ولا يعقل أن يرفض لاحقا إصدار المرسوم. لكن الرغبة السياسيّة بتجاوز توقيع وزير الدفاع قد تدفع رئيس الحكومة إلى منع إصدار المرسوم خلال المهلة الدستورية ما يعني أنه سيصبح نافذا حكما ويتم نشره من دون أيّ توقيع كي يتم إخفاء المخالفة الدستورية المتمثلة بغياب توقيع وزير الدفاع. لكن هذه الخدعة الشكليّة لا تستقيم كون المراسيم التي تصبح نافذة حكمًا هي فقط تلك التي وافق عليها مجلس الوزراء وحملت تواقيع جميع أعضاء الحكومة المعنيين حتى لو جرت العادة في لبنان بنشرها خالية من أيّ توقيع (وهو أمر مستغرب أيضا).
وقد رفض مجلس شورى الدولة في رأي استشاري له حول تعديل النظام الداخليّ لمجلس الوزراء إضافة الفقرة التالية إلى المادة 28: “وفي حال تمنّع أحد الوزراء عن التوقيع ضمن مهلة عشرين يوما من تاريخ إيداعه مشروع المرسوم يعتبر المرسوم نافذا دون توقيعه”. وقد علل المجلس رفضه هذا وفقا للتالي: “وبما أن توقيع الوزير المختص على المرسوم هي الطريقة الدستورية التي بموجبها يتولى الوزير (…) إدارة مصالح الدولة وتطبيق الأنظمة والقوانين (…) فتوقيع الوزير المختصّ المرسوم ليس أمرا شكليا لازما فحسب بل إنه من المقوّمات الجوهرية لتكوين المرسوم الصادر. وعلى هذا فإن خلو مرسوم ما من توقيع الوزير المختص يجعل من المرسوم عملا إداريا باطلا” (رأي رقم 14 تاريخ 18/11/1993). وهكذا صدر مرسوم تعديل النظام الداخلي لمجلس الوزراء في 31 كانون الثاني 1994 من دون إضافة هذه الفقرة عملا برأي مجلس شورى الدولة. ولا شك أن رأي مجلس شورى الدولة ينسجم مع النظام القانوني الحالي المعمول به في لبنان كون فرض مهلة على الوزير يحتاج إلى نص دستوري كما هي الحال مع رئيس الجمهورية.
وتبلغ الغرابة الدستورية أشدّها عندما يُضيف قرار مجلس الوزراء أنه وافق على إصدار مرسوم التعيين وكالة عن رئيس الجمهورية، ما يعني أن المرسوم ليس نافذا حكما كونه جرى إصداره من قبل الجهة المختصة ولم يتمّ انتظار انقضاء المهلة الدستورية بغية اكتسابه صيغة النفاذ الحكمي. ففي مطلق الأحوال، في حال تمّ نشر المرسوم مع التواقيع، سيكون خاليا من توقيع وزير الدفاع ما يجعله صادرا عن جهة لا صلاحيّة لها. أما إذا نشر من دون أي توقيع من منطلق أنه بات نافذا حكما، فهذا أيضا لا يصحّ طالما أنّ توقيع وزير الدفاع على المرسوم لم يكن موجودا في الأساس.
خلاصة القول، تعكس أزمة التّمديد لقائد الجيش ومن ثم تعيين رئيس جديد للأركان مدى تطويع الدستور والقانون لخدمة الصراع السياسي بين أركان السلطة في لبنان. فقد تحوّل المنطق القانونيّ إلى مجرّد ذريعة تهدف إلى إيجاد المخارج والحلول لتبرير أي قرار كان. فهذه الشكليات باتت مستحيلة ليس لسبب قانوني مشروع بل لأن هذه النظرية هي الوحيدة التي تبرّر تخطّي وزير الدفاع بسبب غياب أي إمكانية لاستقالته أو إقالته ما يعني أن الاستحالة الفعلية هي تلك المتعلقة بوضع السلطة التنفيذية نفسها المستقيلة في ظل شغور رئاسة الجمهورية والخلاف السياسي المستحكم بين مكوناتها. بمعنى أنّ الظرف المستحيل هو نتيجة أداء السلطة الحاكمة ولا يعقل أن تتذرّع الحكومة بهكذا استحالة سياسيّة لإيجاد حلول قانونية عملا بفتوى غبّ الطلب قد تؤدي إلى استبعاد توقيع أي وزير في المستقبل. وهنا تظهر عبثية تطبيق هذه النظرية في حال كان المسؤول الذي يصرّ على عدم اقتراح أو توقيع مرسوم ما هو رئيس الحكومة نفسه، إذ لا يمكن تصوّر صدور مراسيم من دون توقيع هذا الأخير لأن هذا التوقيع -واستطرادا توقيع الوزير المختص- هو من الأسس الدستورية التي يقوم عليها النظام البرلماني، ولا يمكن تخطيها استنادا إلى اجتهاد أوجده القضاء الإداري لمعالجة أوضاع محددة ومحصورة وليس خلافات سياسية مستحكمة بين أعضاء الحكومة. فمع تعيين رئيس الأركان، حلّق الخيال الدستوري عاليا في فضاء لا نظير له إلى درجة يمكن معها القول أن قدرة السلطة السياسية على الابتكار باتت مثيرة لنوع من الإعجاب المستهجن.
[1] « Si un vote a lieu, la minorité est censée se rallier à l’avis de la majorité. Il n’y a pas d’opposition dans le Cabinet. Ce n’est qu’en démissionnant que les dissidents peuvent retrouver leur liberté d’action et de critique » (Georges Vedel, Manuel élémentaire de droit constitutionnel, Recueil Sirey, 1949, p. 444, réédition Dalloz, 2002).
[2] « Considérant qu’il ressort des pièces du dossier que si les commissions nationales de première instance et d’appel, qui avaient été consultées, conformément aux dispositions des articles 5 et 8 de l’arrêté du 19 novembre 1980, sur la demande de qualification présentée le 23 juillet 1990 par Mme X, n’ont pas été à nouveau consultées avant que n’intervienne la décision attaquée du 17 juin 2004, cette circonstance résulte de ce que de nombreux praticiens ayant refusé d’y siéger, cette consultation constituait, eu égard aux tentatives successives et infructueuses de les réunir, une formalité impossible ; que, dans ces conditions, l’absence de consultation n’entache pas d’irrégularité la procédure suivie » (CE, 7 décembre 2005, Mme X., n° 271211).
[3] « L’exigence que ces actes soient en principe contresignés est importante. Sans doute, les dispositions qui l’imposent ont (selon une jurisprudence dont le bien-fondé ne paraît pas évident à tous) la nature de règles de forme et non de règles de compétence » (René Chapus, Droit administratif général, Tome 1, 15eme édition, 2001, p. 214).