لقد كتب المحلّل النفسي الفرنسي LAPLANCHE في معرض معالجته للبعد النفسيّ لمسألة التعويض الكامل المعادل للضرر في كتابه عن التعويض والمحاسبة بأن “القانون لا يحيي الموتى”. وهو بذلك، يطرح مسألة جدّية تتمحور حول كيفيّة التعويض الكامل على الأشخاص الذين فقدوا أعزّاء وأحبّاء في ظروف قاسية ككارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، حيث تشير المعلومات النهائية إلى استشهاد ما يقارب 204 ضحية وجرح ما يقارب الـ 7000 جريح.
إنّ تحليل مسألة التعويض الكامل المعادل للضرر من هذه الوجهة، يجعل من التعويض أمراً مستحيلاً، إذ أنّه لا يمكن تعويض ما لا يمكن التعويض عنه “أي التعويض عن فقدان الإنسان”. إلاً أنّ النظرة إلى هذه المسألة تختلف عندما ينظر إلى التعويض عن الضرر المادي والمعنوي كحق أساسي وضروري لحماية المصالح المحمية بموجب القانون كالحق في الحياة الكريمة والحق في الكرامة الإنسانية والسلامة الجسدية التي تعتبر حقوقاً أساسية للأفراد، كرسها القانون والدستور اللبناني والاتفاقيات الدولية. وهذا الحقّ بالتعويض الكامل عن الأضرار المادية والمعنوية للأشخاص الذين فقدوا أفراداً من عائلاتهم في كارثة تفجير المرفأ مكرّس بصورة صريحة بموجب قانون الموجبات والعقود التي تنصّ “أن العوض الذي يجب للمتضرر من جرم أو شبه جرم يجب أن يكون في الأساس معادلاً للضرر الذي حلّ به. والضرر الأدبي يعتد به كما يعتد بالضرر المادي” (مادة 134).
انطلاقا من ذلك، يجدر النّظر في الإجراءات التي قامت بها السّلطات اللبنانية لغاية الآن لحماية الحقّ بالتعويض الكامل. فقد أصدرت السّلطات اللبنانية عدّة قرارات وقوانين تحت عناوين مختلفة، بهدف “المساعدة” و” التعويض” على أصحاب الحقوق وورثة الضحايا الذين سقطوا جراء كارثة 4 آب. ويمكن التمييز بين نوعين من التعويضات أو المساعدات الممنوحة لهؤلاء: النوع الأول يمثل مبلغاً مقطوعاً من المال تم إقراره على سبيل الإغاثة لورثة المتوفين وذلك من قبل الهيئة العليا للإغاثة، أطلق عليه تعبير “المساعدة المالية”، والنوع الثاني يمثل تعويضاً “لمدى الحياة” عن طريق إخضاع أصحاب الحقوق إلى نظام خاص بالجيش اللبناني عبر مساواة الضحايا الذين سقطوا بجندي شهيد الواجب في الجيش اللبناني. وبالإضافة إلى هذه التعويضات والمساعدات، أقرّ المشرّع بعض الإعفاءات الضريبية المتعلّقة بتركات المورثين من ضحايا التفجير حيث أخضع جميع الورثة المتضررين إلى الأحكام القانونية نفسها دون أن يأخذ بعين الاعتبار الوضع القانوني (أي الوضع المادي أو المالي) لكل متضرر.
تشكّل هذه الإجراءات صورة من صور تدخّل الدولة لحماية المواطنين المنكوبين من الكوارث التي تسببت بأضرار شاملة، إلاّ أنّ الأسئلة التي تطرح في هذا المضمار تتمحور حول ما يلي: هل أن هذه القوانين والقرارات تتوافق مع مبدأ التعويض الكامل المعادل لضرر الضحايا؟ وهل يمكن أن تشكل نظاماً تعويضياً متكاملاً يمكن الاستناد عليه لمعالجة التعويضات التي نتجت عن كارثة الانفجار أو التي قد تنتج عن كوارث أخرى؟ وهل من شأن الإعفاءات الضريبية التي تم إقرارها أن تؤمن المساواة بين ضحايا التفجير من وجهة نظر القدرات الاقتصادية لكل متضرر؟
هذا ما سوف نتناوله في هذه المقالة التي سنعالج فيها طبيعة المساعدات والتعويضات والاعفاءات الممنوحة للضحايا ومدى انسجامها مع المبدأ الأساسي القائم على وجوب تعويض الضحايا بصورة كاملة ومعادلة للضرر، كلا على حدة.
1. مساعدات لا تستند إلى معايير واضحة لتحديد الحاجات الملحة لعوائل الضحايا
بعد حوالي أسبوع من حصول كارثة تفجير المرفأ، أصدرت الهيئة العليا للإغاثة برئاسة رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 98 -2020 تاريخ 12-8-2020 والذي قضى بإعطاء “مساعدات مالية” بقيمة 30 مليون ليرة لورثة كل ضحية سقطت نتيجة الانفجار. ولقد استندت الهيئة في صرفِها لهذا المبلغ على مبدأيْ تأمين السّلامة العامّة للمواطنين وتأمين حاجاتهم الملحّة والتخفيف من وطأة الكارثة التي حلّت بهذه العائلات.
إلاّ أنّه وبعد حوالي عشرة أيام على صدور هذا القرار، أصدرت الهيئة قراراً آخر حمل الرقم 103- 2020 بتاريخ 21-8-2020، ميزت فيه بين فئتين عمريتين من ضحايا التفجير، وأعطت مساعدة مالية بقيمة 30 مليون ليرة لورثة كل ضحية فوق العشر سنوات و15 مليون ليرة لورثة كل ضحية ما دون العشر سنوات. كما أشار القرار إلى أن هذه المساعدة تشمل كل ضحية لبنانية أو غير لبنانية وهي تمنح بمعزل عن انتماء الضحية إلى أية مؤسسة حكومية أو جهاز أمني.
لقد أقرّتْ السّلطات العامّة بموجب هذين القرارين بأن تفجير المرفأ هو كارثة، واعترفتْ بأنّ هذه الكارثة تستوجب تدخّل الدولة بهدف حماية المواطنين وتأمين حاجاتهم الملحة عن طريق مساعدتهم مادياً. إلاّ أنّ هذا التدخل لم يرتقِ إلى مستوى تأمين الحماية الحقيقية للمتضررين وتعويضهم عن أضرارهم بصورة كاملة، إذ أنه يمكن إبداء عدّة ملاحظات على مضمون هذين القرارين.
فمن ناحية أولى، لم توضح الهيئة العليا للإغاثة المعايير التي اعتمدتْها لتحديد قيمة المساعدة الماليّة المدفوعة لورثة الضحايا، أو لتبرير سنّ العشر سنوات كأساس للتمييز في قيمة المساعدة الممنوحة لهم وفقاً للفئة العمرية التي ينتمي إليها الذين سقطوا في الانفجار.
ومن ناحية ثانية، إن المساعدة التي منحت هي عبارة عن مبلغ مقطوع منح لأهالي الضحايا من دون أن تؤخذ بعين الاعتبار الحاجات الملحة لكل عائلة منكوبة أو حالتها. ضِفْ إلى ذلك، أنّ قيمة المبلغ الممنوح هي متدنية جداً، ولا تكفي لمستلزمات مراسم الدفن والعزاء لا سيما بعد انهيار قيمة سعر صرف الليرة.
ومن ناحية ثالثة، لم توضح السلطات المختصة الطبيعة القانونية لهذه المساعدة، وما إذا كان سيتم إلحاقها بمساعدات أو تعويضات أخرى وكيف سيتم الاحتفاظ بحق الضحايا بالتعويض الكامل المعادل للضرر، لا سيما وأن هذه المساعدات تتخذ طابع إغاثة المواطنين المتضررين وتأمين المعونة الملحة والعاجلة لهم، وهي استناداً على ذلك لا تتصف بطابع الاستمرارية وتمنح فقط عند حصول الكارثة.
يتضح من هذه الملاحظات، إن إقرار المساعدات للمتضررين من التفجير لا تستند إلى دراسات علمية أو رؤية جدية تحدد ماهية الحاجات الملحة للضحايا، ولا تستند إلى معايير محددة تحفظ من خلالها مبادئ العدالة والانصاف للمتضررين، كما أنها لا تشكل جزءاً من نظام متكامل للتعويض على المتضررين من الكوارث، لا سيما وأن الهيئة لا تشكل صندوقاً للتعويضات عن الأضرار المادية أو المعنوية.
2. تعويضات لا تعادل الأضرار الناتجة عن الخسائر المادية والآلام النفسية لعوائل الضحايا
إزاء عدم تحرك السلطات العامة لتقديم رؤية شاملة للتعويض الكامل بهدف حماية المتضررين والضحايا، وفي ظل عدم وجود نظام أو صندوق خاص لتعويض ضحايا الكوارث في لبنان، تحرّك أهالي الضحايا للمطالبة بحمايتهم من خلال مؤسسات الدولة، وطالبوا بأن يتمّ التعويض عليهم وحمايتهم من خلال الخضوع إلى أنظمة التعويض التي تُطبَّق على أفراد ورتباء المؤسسة العسكرية والمكرسة في قانون الدفاع الوطني. وقد استندوا بذلك إلى سوابق تمّ فيها مساواة ضحايا مدنيين بضحايا/ على غرار ما حصل في سنة 2001، بموجب القانون رقم 381 الذي ساوى الأشخاص المدنيين الذين استشهدوا مع الرئيس رينيه معوض بشهداء بالجيش اللبناني.
وبالفعل، بعد حوالي أربعة أشهر من حصول التفجير، تمّ إقرار القانون رقم 196 – 2020 والذي استعاد التعابير نفسها المنصوص عنها في القانون والاقتراح سابقين الذكر. وعليه، تم اعتبار الأشخاص المدنيون الذين استشهدوا في انفجار المرفأ بمثابة شهداء في الجيش اللبناني، يستفيدون من نفس تعويضات ومعاشات تقاعد جندي استشهد أثناء تأدية الواجب. كما تمّ إفادة هؤلاء من الأحكام عينها المتعلقة بالتقديمات التي تسري على عوائل شهداء الجيش اللبناني.
إن اخضاع أصحاب حقوق الضحايا إلى النظام التعويضي المكرس في قانون الدفاع الوطني من شأنه أن يؤمن لهم الإطار التنظيمي والتمويلي الذي يضمن لهم الحصول على التعويض بمعزل عن انتهاء التحقيقات وصدور الأحكام وتوزيع المسؤوليات الجزائية والمدنية والتي قد تمتد لوقت طويل. إلاّ أن الأسئلة التي تطرح في هذا المضمار تتمحور حول نوع التعويضات التي يمنحها لهم هذا القانون، وما إذا كان يحق لهم الحصول على كافة التقديمات التي تعطى لعوائل شهداء الجيش؟ وما هي الصعوبات التي تعترض الضحايا في إطار تحصيل حقوقهم بالتعويض؟ وأخيراً ، هل أن هذه التعويضات تمثل تعويضاً كاملاً عن كافة الأضرار التي لحقت بهم جراء التفجير؟
في الواقع، إن الجواب على هذه الأسئلة يستدعي بداية تحديد الحقوق التي تمنح لعائلة الجندي المتوفي بموجب قانون الدفاع الوطني، والإضاءة على الصعوبات العملية التي تعترض أهالي الضحايا في معرض تحصيلهم لهذه الحقوق.
فمن جهة، يمنح قانون الدفاع الوطني لأصحاب الحقوق من عائلة الجندي المتوفي في الخدمة عدّة أنواع من التعويضات، ونذكر منها المعاش التقاعدي الشهري والذي يعادل 75% من قيمة الراتب الأساسي للجندي الخاضع للمحسومات التقاعدية للرتبة والمخصص للدرجة العليا من الرتبة التي تعلو رتبته مباشرة، والإعانة المالية التي تعادل راتب سنة، بما فيها التعويضات المتممة لراتب المتطوع المتوفي. بالإضافة إلى تقديمات أخرى منصوص عنها في قوانين وقرارات مختلفة، وأبرزها: الاستفادة من الطبابة والمعالجة المجانية، وتسجيل الأولاد في المدارس على نفقة الدولة في حدود الاعتمادات المخصصة لذلك في الموازنة.
ومن جهة أخرى، إن وضع هذا القانون موضع التنفيذ كشف عن الصعوبات التي يواجهها أهالي الضحايا. فمن ناحية أولى، لم تصدر مراسيم تطبيقية لتوضيح الأصول والاجراءات الواجب اعتمادها لضمان حقوق الضحايا بالحصول على التعويضات الكاملة المكرسة بموجب القانون رقم 196-2020. ومن ناحية ثانية، تحاول السلطة المولجة بتسيير عملية التعويض أي الجيش اللبناني الإيحاء بأن التعويض الوحيد الذي يمنح لعائلات الضحايا هو التعويض المرتبط بالمعاش التقاعدي وتحديداً ما نسبته 75% من قيمته، دون سائر التعويضات المنصوص عنها بصورة صريحة بموجب القانون المذكور والمرتبطة بتقديمات عوائل الشهداء. وممّا يزيد الصعوبات حدّة وتعقيداً، عدم قدرة الضحايا كما الباحثين القانونيين على الوصول إلى المعلومات المرتبطة بالقرارات والتعاميم التي توثق بصورة مفصلة ما تشمله تقديمات وتعويضات عوائل الشهداء، ممّا يمس بحق عوائل الضحايا بالحصول على المعلومات لمعرفة حوقهم والقيام بما يلزم لحمايتها وتحصيلها.
في الحقيقة، إن انتهاج السلطات المختصة لهذه الوجهة يبرز الصعوبات العملية المرتبطة بتطبيق قواعد وأحكام قانون الدفاع الوطني على المدنيين، لا سيما وأن عملية احتساب التعويضات ترتبط بصورة أساسية بسنوات خدمة المتطوعين في الجيش والتعويضات المتمّمة لراتب المتطوع خلال خدمته. كما أن سلوكها يعكس النيّة المبطّنة لدى السلطة بعدم الاعتراف بحقوق الضحايا بالتعويضات المكرّسة بموجب القانون 196-2020، وينمّ عن عدم رغبة أو استعداد المؤسسة العسكرية على احتضان الضحايا أصحاب الحقوق ومعاملتهم بصورة متساوية مع عوائل شهداء الجيش.
بالإضافة إلى العقبات المرتبطة بتطبيق القانون المذكور، لا بدّ من إلقاء الضوء على مسألتين أساسيتين ترتبطان بعدم كفاية هذا القانون لتأمين التعويض الكامل المعادل لضرر الضحايا:
– المسألة الأولى، مرتبطة بعدم استجابة النظام التعويضي المكرس في قانون الدفاع الوطني لمبدأ أساسي في عملية تحديد التعويض والمتمثلة بوجوب تقديره بصورة ذاتية، وهذا يعني أنه لا بدّ من أن يتم التعويض على كل ضحية بالاستناد إلى حاجاتها وخسائرها الناتجة عن التفجير، (لتبسيط المسألة نذكر المثل التالي: إن تقدير التعويض المرتبط بأضرار عائلة تتألف من خمسة أشخاص فقدت المعيل الوحيد لها يختلف عن تقدير التعويض لعائلة تتألف من شخصين يعاني أحدهم من إعاقة كاملة ودائمة، فالتعويض لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار العوامل المرتبطة بكل حالة على حدة). وعليه، إن التعويض الكامل المعادل للضرر، إلى جانب وجوب تقديره بصورة ذاتية، لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار كل عنصر من عناصر الضرر بهدف التعويض عن كافة عناصر الضرر وبصورة كاملة.
– المسألة الثانية، مرتبطة باقتصار هذا النظام على التعويض على جزء من الأضرار المادية وعدم شموله للأضرار المعنوية العادية أو الأضرار المعنوية الاستثنائية الناجمة عن فقدان المتضررين لأفراد من عائلاتهم بفعل كارثة التفجير. علماً أن الأثر النفسيّ الذي سببته هذه الكارثة يدخل في إطار الأضرار المعنوية الاستثنائية التي تنتج عن الكوارث الجماعية العنيفة وتؤدّي إلى أضرار شاملة وتترك أثراً استثنائياً مؤلماً على العديد من المتضررين. كالاضطراب النفسي الجماعي الناجم عن التفجير (الاكتئاب أو الغضب، الاستحالة في التركيز أو الاستمرار في نشاطات فكرية أو جسدية، شعور بالذنب لمن بقي على قيد الحياة أو نجا من التفجير)، وكقلق الانتظار الذي يصيب الضحايا والمتضررين (المتعلق مثلاً بالبحث عن الضحايا من بين الأنقاض، صحة الأقارب والأحباب، تأمين السكن واعادة الاعمار والمعيشة، سير العدالة ونتائج التحقيقات، نوعية التعويضات ومدى الاستفادة منها) وككيفية تناول وسائل الاعلام للتفجير (تغطية إعلامية متطفلة تمس بكرامة وخصوصية المتضررين والضحايا وحقوقهم الأساسية، تغطية إعلامية متكررة لمشاهد التفجير والدمار والدماء والضحايا والمآسي).
3. إعفاءات ضريبية تمييزية
بالإضافة إلى انعدام الرؤية الواضحة حول كيفية حماية الضحايا والتعويض عليهم بصورة معادلة للضرر، تابعت السلطات المختصة انتهاج “الأساليب الدعائية” القائمة على الإيحاء للرأي العام وللضحايا أنفسهم بتشريع قوانين للمساعدة وللتضامن معهم. إلاّ أنّ التعمق في قراءتها وتحليلها يبين لنا مخالفاتها الفاضحة للدستور وللمبادئ القانونية الأساسية باعتبارها قوانين تمييزية وبعيدة كل البعد عن فكرة تعويض الضحايا كلٌّ بحسب الضرر الذي أصابه.
وبالفعل، وبعد حوالي أسبوعين من حصول كارثة التفجير، أقرّ المشرع اللبناني القانون رقم 185-2020 والذي يرمي الى تمديد المهل ومنح بعض الإعفاءات من الضرائب والرسوم. وقد جاءت “الفقرة رابعاً” من هذا القانون لتعفي ورثة اللبنانيين الذين قضوا في انفجار المرفأ من رسوم الانتقال على جميع الحقوق والأموال المنقولة وغير المنقولة المتعلقة بتركات مورثيهم . إن الإجراء الضريبي المرتبط بالإعفاء من رسوم الانتقال على التركات هو تكرار لحلول تشريعية سابقة، كالقانون رقم 66-2016 بتاريخ 19/10/ 2016 المرتبط بورثة ضحايا كارثة الطائرة الجزائرية، والقانون رقم 115/2010 بتاريخ 26 حزيران 2010 المتربط بورثة ضحايا الطائرة الأثيوبيّة الحاصلة في تلك السنة والقانون رقم 275 الصادر في 15 نيسان 2014 والذي أعفى تركات ضحايا الجيش والأجهزة الأمنية المسلحة من هذه الرسوم.
في الحقيقة، بالرغم من ضرورة التضامن مع ضحايا التفجير، إلاّ أن الاعفاء من الأعباء الضريبية لا بدّ أن يراعي كما فرض الضرائب مبدأ المساواة بين المكلفين. والمقصود بمبدأ المساواة هنا تحديد التكليف الضريبي أو الإعفاء منه وفقاً للوضع القانوني أو القدرات المالية لكل مكلّف. وبالتالي، يقضي عدم التمييز بين المكلفين بانتهاج إجراءات ضريبية مختلفة وفقاً لأوضاع المكلفين القانونية المختلفة. فبنتيجة إعفاء من هذا القبيل،
سيحصل بعض الورثة على “منفعة” ماديّة كبيرة نتيجة الإعفاء (وهي حال الذين يرثون من ضحايا أثرياء)، فيما يحصل آخرون على لا شيء (حال الذين يرثون ممَن لا يملكون إلا القليلً).
في الواقع، لقد اعتبر المشرع بأن هذا القانون يهدف إلى “إعطاء المواطنين والمؤسسات لحظة لالتقاط الأنفاس”، إلاّ أن التحليل القانوني لأحكامه يبين بصورة لا جدل فيها جملة من المخالفات الدستورية والقانونية:
– لقد خالف هذا القانون المبدأ الدستوري القائم على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز، مع الإشارة إلى أن تطبيق هذا المبدأ في نطاق القانون الضريبي يقضي بأن تتم المساواة في تحمل الأعباء الضريبية أو الإعفاء منها وفقاً للأوضاع القانونية وللقدرات المادية لكل مكلف.
– لقد أساء هذا القانون استخدام فكرة المنفعة l’avantage المطبقة في القانون الضريبي والتي ترمي إلى تطبيق مبدأ المساواة بين المكلفين أمام الأعباء الضريبية والإعفاءات منها بحسب القدرات المادية لكلّ مكلف. كما أنه طبق هذه الفكرة بصورة تخالف المنطق ومنح جانب من المتضررين منافع مادية على حساب المالية العامة دون الاستناد الى معايير محددة وواضحة. مع الإشارة إلى أن إخضاع المكلفين المتضررين إلى معايير محددة للإعفاءات قد تساهم في تمويل صندوق لتعويضات أضرار كارثة المرفأ. بمعنى أنه لو حاولت السلطات المختصة دراسة هذه المسائل الضريبية بصورة معمقة وهادفة، لكانت جعلت الاختلاف في الوضع المادي للمتضررين المكلفين وسيلة فضلى لتأمين جزء من مصادر التعويض على المتضررين والضحايا في انفجار المرفأ، كل ذلك تحت سقف مراعاة الأحكام والمبادئ القانونية التي ترعى عدالة الضريبة والمساواة بين المكلفين.
– لقد استكمل هذا القانون تكريس مبدأ التمييز بين المواطنين المتضررين إزاء المشاركة في تحمّل أو الإعفاء من الأعباء الضريبية، بحيث حرّر بعض الورثة من الرسوم المتوجبة عليهم والتي قد تصل إلى مبالغ من غير الممكن تبرير الإعفاء منها من دون أن يؤسس لنظام تعويضي يحمي جميع المتضررين من تفجير المرفأ.
خلاصة:
يتضح ممّا تقدم، بأن غياب النظام القانوني الخاصّ بتعويض ضحايا الكوارث قد أدى إلى إقرار مساعدات وتعويضات مجتزأة وغير مبنية على أسس ورؤية واضحة لحجم الضرر وكيفية تقدير تعويضه بهدف حماية حق المواطن الضحية بالتعويض الكامل عن الأضرار الجسيمة الناتجة عن كارثة التفجير. كما أن الإجراءات المتبعة لحصول الضحايا على حقوقهم في المساعدات والتعويضات يعتريها العديد من الشوائب التي تمسّ بكرامة الضحايا أثناء تحصيلهم لحقوقهم المشروعة. بالإضافة إلى ذلك، فإن إقرار الإعفاءات الضريبية قد جاء مخالفا للقانون والدستور وبعيدا عن الدور الذي يمكن أن يلعبه النظام الضريبي والذي من شأن حسن تنظيمه وتطبيقه بناء مجتمع موحد ومتضامن في ظل الأزمات الكارثية ككارثة انفجار المرفأ. باختصار، إن هذه الإجراءات كشفت مجدداً عن فوضى التعويضات والمساعدات والإعفاءات الذي تنتهجه السلطة في كارثة انفجار المرفأ كما كشفت عن انعدام الرؤية الهادفة إلى حماية جميع المواطنين من قبل الدولة ومؤسساتها العامة.