أثار تعميم داخلي لوزيرة التربية والتعليم العالي ريما كرامي مرتبط “بالقوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء المتعلّقة بالشؤون الإداريّة” استياءً وعلامات استفهام لدى العاملين في القطاع التربوي بسبب فقرة وردت فيه، تُقيّد الإدلاء بتصاريح إعلامية شفهيّة أو كتابيّة أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، رغم كونه داخليًا موجّهًا إلى إلى “المسؤولين عن الوحدات الإداريّة والموظفين العاملين فيها والمسؤولين عن المدارس والثانويات والمعاهد الرسميّة”.
وورد في نصّ الفقرة المستندة إلى المادة 15 من المرسوم الاشتراعي رقم 112 الصادر في العام 1959 والمتعلّق بنظام الموظفين، ما نصّه: “عدم إعطاء أي معلومات أو تصاريح أو توجيهات لوسائل الإعلام سواء كتابيّة أو شفهيّة أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي بما يختصّ بالشؤون الإداريّة وغيرها المتعلّقة بهذه الوحدات الإداريّة أو الثانويات أو المدارس الرسميّة أو بالمعاهد الفنيّة أو بأفراد الهيئة التعليميّة، وحصر هذه الأمور بوزيرة التربية أو بالمديرين العامين، وبرؤساء الوحدات والموظفين الذين يُصرّح لهم خطيًّا بذلك من المراجع المذكورة كلّ في ما يخصّه”.
استياء العاملين في مجال التربية من التعميم نجم عن عدّة أسباب، حسب ما كرّر غير معني تواصلت معهم “المفكرة القانونيّة”. أوّلًا أنّ وزيرة التربية التي يتوقّعون أنّها تحمل روحًا تغييريّة، ذكّرت في تعميمها بإجراءات تستند إلى نص قانوني قديم تتعارض بعض مواده ولاسيّما ما ورد في المادة 15 والمتعلّق بحريّة التعبير والإضراب، مع العهد الدولي للحقوق المدنية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ثانيًا أنّ التعميم صدر عن وزيرة آتية من الأسرة التربويّة، عارفة بالتجاوزات التي حصلت في حقّ عدد من الموظفين خلال العهود الماضية وأحوال الهيئات التعليمية وهي أمور تفرض إعلاء الصوت. ثالثًا أنّه صدر عن وزيرة في حكومة ترفع شعار “الإصلاح والإنقاذ” لا يمكن أن تُحقّق أهدافها من دون جوّ تسوده حرّية التعبير وبمشاركة فعّالة من الموظفين المعنيين وليس فقط من الوزراء والمديرين العامين.
ويحرص مستشار وزيرة التربيّة د. عدنان الأمين على التوضيح بأنّ التعميم موجّه إلى الموظفين في مواقع إداريّة ولا يتحدّث عن منع بل يذكّر بالآليات المتّبعة ولم يقصد في حال من الأحوال الحقوق المكتسبة للتعبير عن الرأي أو العمل النقابي أو الشأن التربوي ولا يشمل أبدًا الأساتذة، فحق الأساتذة في التعبير عن الرأي والعمل النقابي حق مكتسب أصلًا كحقّ جميع الموظفين.
وفي حين لا يستبعد الأمين إمكانيّة أن تكون صياغة الفقرة التي تحدّثت عن قيود التصريح وطولها قد تسبّبا ببعض اللغط والالتباس، يوضح أنّ التعميم موجّه إلى من هم في مواقع إداريّة أي لديهم معلومات تخصّ إداراتهم، وأنّه يقصد تسريب المعلومات تحديدًا التي تعني الوحدات ومؤتمن عليها المسؤول أو الموظف الإداري فقط، أمّا الحديث بالشأن التربوي أو النقابي أو المطالبة بحقوق أو التعبير عن الرأي فلم تقصد بطبيعة الحال من التعميم.
تعميم يثير مخاوف رغم تأكيد الوزارة أنّه لا يستهدف الأساتذة
صحيح أنّ التعميم حدّد أنّه موجه إلى “المسؤولين عن الوحدات الإداريّة والموظفين العاملين فيها والمسؤولين عن المدارس والثانويات والمعاهد الرسميّة” أي أنّه لم يذكر الأساتذة، وصحيح أيضًا أنّه حدّد محتوى الحديث الذي يحظر على هؤلاء الإدلاء به من دون تصريح بأنّه “.. ما يختص بالشؤون الإداريّة”، إلّا أنّ الأساتذة اعتبروا أنفسهم معنيين وذلك لأنّهم يعرفون أنّ المرسوم الذي استند عليه التعميم يشملهم ولأنّهم عانوا ما عانوه من محاولات كمّ الأفواه ولاسيّما خلال ولاية الوزارة السابقة، على حدّ تعبير منسّق عام التيار النقابي المستقل علي الطفيلي. كما أنّ التعميم أورد بعد تحديد محتوى الحديث عبارة “وغيرها المتعلّقة بهذه الوحدات الإداريّة أو الثانويات أو المدارس الرسميّة أو بالمعاهد الفنيّة أو بأفراد الهيئة التعليميّة” ما يحتمل التأويل في نظر البعض، فكان المطلوب التحديد، حتى لا يوضع التعميم في إطار كمّ الأفواه.
ويعتبر الطفيلي أنّه بطبيعة الحال تُتيح المادة 15 من نظام الموظفين المجال أمام إجراءات تعسّفية، ولكن ما ورد في تعميم الوزيرة تحديدًا يبدو أنّه حدّد الأمور الإداريّة ولم يقترب من الجانب النقابي أو المطلبي أو التعبير عن الرأي أو الحقوق الخاصة بالأساتذة أو الموظفين أو حتّى الحقوق بشكل عام، ومن الطبيعي أن تُناقش الأمور الإدارية ضمن الأطر الإداريّة مضيفًا: “نحن نفترض أنّ الجو إيجابي ولكن العبرة في التنفيذ”.
من جهتها ترى رئيسة رابطة الأساتذة المتعاقدين في التعليم الأساسي الرسمي في لبنان نسرين شاهين أنّ الرابطة والأساتذة يعتبرون أنفسهم غير معنيين وإذا كانوا معنيين فهم سيستمرّون بالتعبير عن مطالبهم وآرائهم وفي حال تعرّض أيّ أستاذ لأي إجراء بسبب حديثه عن أمور تمسّه داخل المدرسة أو عن فساد، ستتحرك الرابطة كما كانت تتحرّك سابقًا. وترى شاهين أنّ الوزيرة وانطلاقًا من حسن ظنّ الأساتذة والعاملين في القطاع التربوي بها، مُطالبة بتحديد نوع المعلومات التي يحظر الحديث عنها ومن المقصود بالتعميم.
ويعتبر أستاذ ثانوي رفض ذكر اسمه أنّه حتّى لو كان الأمر قانونيًّا وبعض ما فيه يُساهم في انتظام العمل الإداري، ولكنّه لا يميّز بين من يسرّبون معلومات إداريّة من الوزارة لأهداف شخصيّة ومن يعبّر عن رأيه ويُعلي الصوت ضدّ الفساد وللمطالبة بحقوقه، قائلًا: “التعميم فضفاض، كان يجب أن يشرح بأنّه ليس المقصود التعبير عن الرأي أو المطالبة بالحقوق”.
تعميم يُطلق المطالبة بإلغاء المادة 15
تؤكّد أستاذة الثانوي سهام أنطون أنّها ترفض القوانين التي تتعارض مع حقوق الناس ومنها حريّة التعبير عن الرأي وأنّ هذا التعميم مبني على قانون تخطاّه الزمن. وقد استعمله الوزير السابق عباس الحلبي لإسكات المعارضين، بدل أن يُصلح من سياساته التربويّة، خصوصًا حين كانت الرابطة متقاعسة عن الدفاع عن الأساتذة. وبرأي أنطون، الوزيرة الجديدة ليست أبدًا في موقع قمع حريّة الرأي والتضييق على الموظفين مضيفة: “أداء الوزارة سيكون تحت نظرنا، ونتحضّر لنقدّم لها اقتراحات تعديل لعدد من القوانين البالية، وأنا أدعو الجميع لإعطائها فرصة، لأنّ المهمّة أمامها شائكة والتركة ثقيلة”.
ويرى الأستاذ الثانوي حسن مظلوم أنّ القانون الذي ارتكز عليه التعميم وضع أساسًا لكمّ الأفواه، وأنّه حتّى لو كان التذكير به هو أمر روتيني يبقى سيفًا مصْلتًا على رقاب الموظفين، مشيرًا إلى أنّ هذه المادة استخدمت ضدّه لإيقاف راتبه لعام كامل واعتباره مستقيلًا قبل أن تُعاد وتُحلّ الأمور ويُعاد إلى التعليم.
ويعتبر الأستاذ الثانوي صادق الحجيري أيضًا أنّ القانون الذي استند عليه هذا الجزء من التعميم مضى عليه الزمن بحكم الأمر الواقع، وأنّ أسباب التذكير به غير مفهومة ولاسيّما أنّه حتّى في ولاية الوزير السابق عباس الحلبي والذي مورست فيها العديد من العقوبات الكيديّة المرتبطة بالتعبير عن الرأي سواء من خلال تصاريح إعلامية أو مناشير على وسائل التواصل الإجتماعي لم تكن تُعلّل العقوبات بهذا القانون. وأشار الحجيري إلى أنّه يستبعد أن يكون هناك أي مفاعيل حقيقيّة لهذا التعميم وخاصة على الأساتذة، وفي حال حوسب أستاذ أو موظّف على تصريح يتعلّق بحقوقه أو رأيه بموجب هذا القانون ستكون سابقة غير مقبولة ولاسيّما من الوزارة الحالية. ويؤكّد الحجيري أنّ صوت الأساتذة سبقى عاليًا “لأنّه لم يبق لهم ما يخسرونه”.
ويعتبر مظلوم أنّ الأسرة التربويّة كانت تنتظر الحديث عن تعديل قانون الموظفين الحالي بما يتناسب مع ما وقّع عليه لبنان من اتفاقيات دوليّة ومع روح العصر الجديد، وأن تدفع الوزارة نحو تحويل الرابطة إلى نقابة، “فهذه التغييرات التي تتناسب مع تطلّعاتنا، في ما خصّ حريّة التعبير والعمل النقابي” أو تُعزّز أجواء حريّة التعبير والمشاركة من أجل الإصلاح”.
من جهة أخرى يعتبر مظلوم أنّ أخطر ما في هذا التعميم، أنّه يأتي في وقت بات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي المنبر الوحيد للأساتذة والموظفين في ظلّ عدم قيام الهيئات الرقابية بواجباتها، ومع التدخلات السياسيّة التي تمنع حتّى تنفيذ قرارات قضائيّة وهذا ربما ما كان أكثر وضوحًا في قضيّة نسرين شاهين.
تواصلت “المفكرة” أيضًا مع عدد من الموظفين ومديري المدارس فاعتبر معظمهم أنّ التعميم يأتي بروحيّة القوانين المرعيّة الإجراء وأنّ هذه القوانين تُساهم في سير عمل الإدارة وتنظيمها على حدّ تعبير مديرة ثانوية عدنان الجسر الرسمية المختلطة السيدة نبيلة بابتي معتبرة أنّ “هناك آليّات وأطر تتيح للأستاذ أو الموظّف المطالبة بحقوقه والتعبير عن رأيه وطالما التعميم يهدف إلى التنظيم نحن معه”.
ويقول موظّف آخر فضّل عدم ذكر اسمه أنّ المشكلة ليست في التعميم بل في قانون الموظفين نفسه ففي حين يُساهم بانتظام العمل الإداري من جهة إلّا أنّه قد يُستخدم لعرقلة الحقّ في الوصول إلى المعلومات وإلى أداة ترهيب للموظّف في وقت يحتاج الإصلاح إلى شفافيّة بالتعاطي ولاسيّما مع الإعلام.
من جهته، يستغرب المدير التنفيذي للمرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين الدكتور أحمد الديراني أن تُذكَر الآن المادة 15 من قانون الموظفين أو يُلمّح إليها خارج إطار الحديث عن ضرورة تعديلها أو إلغائها ولاسيّما من وزراء في الحكومة الحاليّة من المفترض أنّهم يحملون نفسًا إصلاحيًّا، مشيرًا في اتصال مع “المفكرّة” إلى أنّ هذه المادة سقطت ليس فقط لمخالفتها كلّ اتفاقيّات منظمة العمل الدوليّة ولاسيّما الاتقاقيّة 87 والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل أيضًا في الشارع وعبر الممارسة.
وبما أنّنا نتحدّث عن وزارة التربيّة، يُذكّر الديراني وللمفارقة أنّ الأساتذة أسقطوا هذه المادة في الشارع في سبعينيّات القرن الماضي وفي ظلّ حكومة صائب سلام عمّ رئيس الوزراء الحالي نوّاف سلام. فبعدما اتُخذ قرار بفصل 300 أستاذ من الخدمة أضرب الأساتذة ورفعوا الصوت وأعادت أصواتهم وتحرّكاتهم الأساتذة إلى العمل. ويُشير الديراني إلى أنّ الأساتذة مارسوا حقّهم في الإضراب والتعبير واضطّرت السلطة إلى التفاوض معهم ما يعني الاعتراف بحقّهم في الإضراب والتعبير وهما من الحقوق المكتسبة حتى من خلال الممارسة ليس فقط بالقانون.
انطلاقًا ممّا تقدّم، قد تكون المطالبة بتعديل قانون الموظفين وإلغاء المادة 15 من الأمور الأساسيّة التي يجب الدفع نحوها وذلك انطلاقًا من الدور الذي قد تؤدّيه لإعاقة الحقّ في الوصول إلى المعلومات وقمع الموظفين أو ترهيبهم ما قد يعيق بدوره مكافحة الفساد والإصلاح. فطالما هذه المادة موجودة طالما قد تلجأ إليها السلطة ولعلّ أقرب مثال تجربة تأسيس نادي القضاة. فبعدما استنفد مجلس القضاء الأعلى الحجّج لمنع تأسيس هذا النادي، رفع لواء المادة 15 وأصدر تعميمًا في 7/11/2018 يعتبر فيه أنّ لا حق للقضاة بإنشاء جمعيات سندًا إلى هذه المادة. وكان لافتًا حينها استخدام هذه المادة على الرغم من رفض المجلس في العامين 2017 و2018 أي ربط بين أنظمة القضاة وأنظمة الموظفين العامين بحجّة أنّ القضاء سلطة وليس وظيفة. وبطبيعة الحال أُسقطت هذه الحجّة وحصل نادي القضاة على العلم والخبر كجمعيّة في العام 2019.وعند الحديث عن المادة 15 لا بدّ من التذكير بالدور الذي أدّاه رئيس هيئة الشراء العام جان العليّة في تسليط الضوء على صفقات الكهرباء المشبوهة والفيول المغشوش، وذلك عبر تخطيه محظورات هذه المادة.