نشرت المفكرة الجزء الأول من دراسة للزميل نجيب فرحات بشأن تعميم النائب العام التمييزي حول وثائق الاتصال ولوائحالاخضاع، والتي حدد فيها المخالفات القانونية. وهي تنشر هنا الجزء الثاني الذي يتصل بامكانيات الطعن في هذا التعميم (المحرر).
إن المخالفات الفادحة لأحكام القانون ولا سيما للمادة 24 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي تضمّنها تعميم النيابة العامة التمييزية رقم 62/ص/2014 تاريخ 6/8/2014 تدعو إلى التساؤل حول المرجع القضائي الصالح للنظر في أي طعن قد يوجّه إليه وحول الطبيعة القانونية لهذا التعميم.
أ- في جهة القضاء الصالح للطعن في تعميم النيابة العامّة التمييزية رقم 62/ص/2014: من الثابت أن الإجتهاد يفرّق بين الأعمال المتعلّقة بتنظيم (organisation) المرفق القضائي ومنها التدابير بإنشاء أو إحداث المحاكم أم بإلغائها وبشؤون القضاة ومسارهم الوظيفي، وبين الأعمال ذات الطبيعة القضائية المتعلّقة بسير (fonctionnement) المرفق القضائي مثل الأحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها فضلاً عن اعمال المرفق العدلي التنفيذية مثل التدابير العدلية كمذكرات الجلب والإحضار والتوقيف وتحريك الحق العام والتدابير بتنفيذ الأحكام العدلية أو المتعلّقة بها والتدابير التي تؤدي إلى تسيير هذا المرفق القضائي، إذ أن الأعمال المتعلّقة بسير المرفق القضائي غير خاضعة أصلاً لمراقبة مجلس شورى الدولة، بينما الأعمال العائدة لتنظيم القضاء وبالمسار الوظيفي للقضاة تبقى خاضعة لرقابة مجلس شورى الدولة نظراً لطبيعتها الإدارية ما لم ينص القانون على خلاف ذلك[1].
وانطلاقاً من هذه المعايير، وطالما من الواضح أن تعميم النائب العام التمييزي متّخذ بصفته رئيساً لقضاة النيابة العامّة حسبما تؤكده المادة 13 من قانون اصول المحاكمات الجزائية، وأن الدافع الأساسي إلى إصداره هو قرار صادر عن سلطة إدارية متمثلة بمجلس الوزراء يحمل الرقم 10 تاريخ 24/7/2014، فضلاً عن عدم احتواء هذا التعميم على أية أحكام تطال شخصاً او مجموعة أشخاص بالإسم بحيث اتسم بوصف شامل عام وجاء بقواعد عامّة غير شخصية موجّهة على نحو مجرّد دون تحديد بالإسم ما يجعله صادراً بصيغة الأنظمة وهو الأمر المحظور في الأعمال المتعلقة بسير المرفق القضائي وأهمها الأحكام وذلك سنداً للمادة الثالثة من قانون أصول المحاكمات المدنية والتي تشكّل مبدأ عاماً واجب الإتباع عند وجود نقص في القوانين والقواعد الإجرائية الأخرى سنداً للمادة السادسة من القانون المذكور.
وعليه، يكون ثابتاً مما تقدّم أن التعميم هو عمل متعلّق بتنظيم المرفق القضائي وبالتالي يكون خاضعاً لرقابة القضاء الإداري.
وفي هذا المضمار، تقتضي الإشارة إلى ان بلاغات البحث والتحري الصادرة أو التي يتم تنفيذها بناء على التعميم المذكور وخلافاً لأحكام القانون، كالبلاغات التي تكون ساقطة حكماً لانقضاء المدة القانونية أو يتم تنفيذها وعدم إسقاطها بناء على التعميم المنوّه عنه.
فإن النظر في قانونية هذه البلاغات أو في إسقاطها هو من الأمور التي تتعلّق بسير مرفق القضاء وليس بتنظيمه وبالتالي يتوجّب على صاحب العلاقة أن يراجع القضاء العدلي الجزائي بشأنها.
هذا مع العلم أن تنفيذ بلاغ بحث وتحري موافق للتعميم رقم 62/ص/2014 ومخالف للقانون وبالتالي احتجاز حريّة احد الأشخاص على أساسه يخضع لأحكام المادة 402 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تفيد أنه:«على كل من النائب العام الإستئنافي أو المالي ومن القاضي المنفرد الجزائي،كل ضمن حدود اختصاصه،عندما يبلغه خبر توقيف أحد الأشخاص بصورة غير مشروعة أن يطلق سراحه بعد أن يتحقّق من عدم مشروعية احتجازه.إذا تبين لأي منهم أن هنالك سبباً مشروعاً موجباً للتوقيف فيرسل الموقوف في الحال غلى المرجع القضائي المختص وينظم محضراً بالوقائع.
إذا أهمل أي منهم العمل بما تقدّم فيلاحق مسلكياً».
وهنا نشير إلى أن التحقق من عدم مشروعية الإحتجاز يولي القضاة المذكورين في المادة 402 أعلاه صلاحية تقدير صحّة التعميم في كل مرّة تعرض عليهم حالة احتجاز استناداً إليه، وهذا الأمر يجد سنده بما استقر عليه العلم والإجتهاد الإداريان لناحية منح المحاكم العدلية الجزائية حق تقدير صحّة القرارات الإدارية التنظيمية بحيث تمتنع عن تطبيقها في حال عدم مشروعيتها دون ان يكون لها حق إبطالها [2].
ب-في الطبيعة القانونية للتعميم:من الثابت في مضمون التعميم أنه ليس من عداد الإجراءات الداخلية المحض mesures d'ordre intérieur التي تصدر عن الرئيس التسلسلي – وهو النائب العام لمحكمة التمييز في حالتنا الحاضرة- بمواجهة مرؤوسيه – وهم جميع قضاة النيابة العامة سنداً للمادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية- بقصد تسيير العمل العادي للمرفق العام على نحو يكفل اداءه وتسييره على وجه أفضل وفقاً لمقتضيات المصلحة العامّة.
فالتعميم المذكور يتضمّن أحكاماً تنظيمية، وليست فردية، منشئة لوضعية قانونية جديدة ويخلق بذاته حقوقاً ويفرض موجبات غير منصوص عنها في القانون، ولا سيما في المادة 24 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وهو بالتالي لا يقتصر على تفسير أحكام القانون، لا بل يؤثر في حقيقة ما تضمنه ومداه ومفعوله على المشبه فيهم والمشكو منهم وهم من الأشخاص الثالثين من غير مرؤوسي النائب العام التمييزي.
وقد استقرّ الإجتهاد في هذا المجال على ان التدابير الإدارية غير القابلة للطعن هي تلك التدابير الداخلية mesures d'ordre intérieur))،هي تلك التدابير الداخلية غير التنظيمية أو الفردية (mesure individuelles) الخاصة بالإدارة ودوائرها دون سواها والتي لا يكون لها اية مفاعيل على الوضع القانوني للمختصين أو المعنيين بها،وأن التدابير الإدارية الداخلية،كالتعليمات والتعاميم،تشكّل قراراً إدارياً نافذاً بحد ذاته وقابلاً للطعن أمام القضاء، عندما تضيف موجبات جديدة على المعنيين بها بالشكل الذي تؤدي معه إلى التأثير في مركزهم او وضعهم القانوني(affectant leur ordonnancement juridique )، أو تطال بمفاعيلها الأشخاص الثالثين غير المعنيين بها، كما هي الحال بالنسبة للتعليمات أو التعاميم التنظيمية (circulaires réglementaires) التي تتضمن إنشاء قاعدة عامّة ملزمة[3].
وعليه، واستناداً إلى المعايير المتقدّم ذكرها، فإن تعميم النيابة العامة التمييزية رقم 62/ص/2014،لا يشكّل تعميماً داخلياً صرفاً إنما هو تعميم يتضمّن أحكاماً تنظيمية ما يتوجب معه القول بقابليته للطعن امام القضاء الإداري.
هذا مع الإشارة إلى أن الطبيعة التنظيمية للتعميم رقم 62/ص/2014 كانت تفرض أخذ رأي مجلس شورى الدولة بشأنه كمعاملة جوهرية قبل إصداره عملاً بالمادة 57 من نظام المجلس المذكور. اما وقد صدر التعميم المنوّه عنه دون استشارة المجلس فيكون قد خالف صيغة جوهرية متعلّقة بالإنتظام العام واستوجب الإبطال[4].
وأخيراً يجدر التأكيد على أنه في حال الرغبة بالطعن في التعميم المشار إليه أمام مجلس شورى الدولة، فإن ذلك يوجب تمتّع مقدّم الطعن بالصفة والمصلحة اللازمة لقبول المراجعة سنداً للمادة 106 من نظام مجلس شورى الدولة[5]،وإننا نرى أن المحامين، تبعاً لذلك، هم ممن تتوافر فيهم الصفة والمصلحة اللازمتان للطعن في التعميم وذلك بالإستناد إلى نص المادة الأولى من نظام آداب مهنة المحاماة ومناقيةب المحامين لدى نقابة المحامين في بيروت، والصادر بتاريخ 8/2/2002 ،والتي تنص على ما حرفيّته:«المحامون نخبة في المجتمع رسل العدالة وحماة الحقوق والمدافعون عن الحريّات العامّة وسيادة القانون وسموّ الدستور ومنعة القضاء واستقلال السلطة القضائية والقضايا الوطنية»
[1]– يراجع:مجلس شورى الدولة،قرار رقم 17/97-98،تاريخ 9/10/1997،القاضي السابق زاهي حداد/الدولة –وزارة العدل،والمراجع الواردة فيه.
[2]– يراجع:د.محيي الدين القيسي،القانون الإداري العام،منشورات الحلبي الحقوقية ،الطبعة الأولى 2007،ص:259-265؛أيضاً:د.فوزت فرحات،القانون الإداري العام،الكتاب الثاني(القضاء الإداري – مسؤولية السلطة الإدارية)،الطبعة الأولى، 2004، ص:55.
[3]– يراجع:مجلس شورى الدولة،قرار رقم 188/2009-2010،تاريخ 10/12/2009،جمعية مصارف لبنان/الدولة –وزارة المالية؛أيضاً:مجلس شورى الدولة،قرار رقم 135/2003-2004،تاريخ 18/11/2003،جمعية الدفاع عن الحقوق والحريات/الدولة.
[4]– يراجع:مجلس شورى الدولة،قرار رقم 188/2009-2010،تاريخ 10/12/2009،جمعية مصارف لبنان/الدولة –وزارة المالية.
[5]– تنص المادة 106 من نظام مجلس شورى الدولة على أنه:« لا يقبل طلب الابطال بسبب تجاوز حد السلطة إلا ممن يثبت أن له مصلحة شخصية مباشرة مشروعة في ابطال القرار المطعون فيه».