أعادت قضية اضراب قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس الى واجهة الاحداث جملة من الاشكاليات المتصلة بمعالجة انتهاكات الماضي واليات اثبات الحق وما ترافق معها من جدل استمر طويلا في أوساط النخبة السياسية والحقوقية.
وقد سلّط اضراب الجوع الذي نفذه قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس ممّن يسمّون أنفسهم ب "المفروزين أمنيا" الضوء على فئة نالها ما نالها من الحرمان بسبب فقدانها الحق في الشغل. الا أن طريقة التعاطي مع هذا الملفّ على المستويين الرسميّ من جهة، والحقوقيّ والسياسيّ من جهة أخرى وما ترافق معها من شدّ وجذب وضغوطات على أكثر من مستوى جعل المسألة تراوح مكانها لفترة طويلة نسبيا.
القضية بدأت تأخذ حيزا هاما ومخصوصا من التعاطي الاعلامي اليومي ، حينما اعلن 24 شخصا منذ 16 مارس / اذار 2015 من قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس / منظمة تضم اطيافا من الشق اليساري / دخولهم فى اضراب جوع بسبب تجاهل ملفهم المحال على أنظار رئاسة الحكومة. وكانت القضية أحيلت الى رئساة الحكومة تبعا لانعقاد جلسة في 6 أوت/ اوغسطس 2014 بين أعضاء من اللجنة الوطنية لإنصاف قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس "المفروزين أمنيا" ورئيس ديوان وزير العدل آنذاك.
وتعرف عملية الفرز الامني لدى الاوساط السياسية والحقوقية على انها طريقة اعتمدها النظام القديم في التضييق على معارضيه باعتماد البحث الأمنيّ، الذي هو عبارة عن تقرير سريّ يتضمن استشارة حول النشاط السياسي للمتقدم للوظيفة. وبناء عليه، يتمّ الفرز ويعتمد كأحد الشروط لدخول الوظيفة العمومية.
وقد جاء تركّز الأضواء على الملف بعد موجة مساندة من قبل بعض المنظمات وخاصة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان بعد دخول 11 من المجموعة خلال الفترة الاخيرة في اضراب جوع وحشيّ ساءت معه الحالة الصحية لعدد منهم. وقد دفع تطوّر شكل الاحتجاج الى هذه المرحلة الحكومة الى عقد جلسة عمل للنظر في هذه الوضعية بتاريخ 17 ابريل 2015 بحضور نواب يمثلون أحزاب الجبهة الشعبية ونداء تونس وحركة الشعب وآفاق تونس. وأفضت الجلسة الى الاتفاق على تكوين لجنة مشتركة تضمّ ممثلين عن رئاسة الحكومة ومجلس نواب الشعب ووزارتي التكوين المهني والتشغيل والشؤون الاجتماعية تتكفل بقبول المضربين عن الطعام ودرس وضعياتهم كلا على حدة لاقتراح تسوية لها. وقد اشترط هذا الاقتراح تعهد المعنيين بالكف عن اضراب الجوع.
وتبعا لذلك، شرعت اللجنة بقبول المضربين وإجراء محادثات فردية معهم على أن تستكمل أعمالها بعد الانتهاء من استدعاء باقي قدماء الاتحاد المعنيين والذين تم حصرهم في 186 حالة. ووفقا لرئيس لجنة تنظيم الاضراب، تمّ الاتفاق صلب اللجنة على أن تتمّ التسوية وفق ثلاث صيغ تتمثل في انتداب جزء منهم في القطاع العمومي وإدماج جزء آخر في مؤسسات خاصة صنف "أ" وتمكين مجموعة من قروض ميسرة لانجاز مشاريع خاصة.
وفي تفريع للقضية من الناحية الحقوقية والقانونية، تطرح مشكلة قدماء الاتّحاد العامّ لطلبة تونس ممن طالهم الاقصاء من الحق في الشغل مسائل أخرى أعمّ وأشمل ترتبط بآليات إثبات الحقّ بخصوص الانتهاكات التي حدثت في عهود الاستبداد وخاصة منها التي كانت تتمّ في أطر ومسارات أشبه بالغرف المظلمة. وتتعدّد رواية مثل هذه الحالات التي تؤكدها أقوال ووقائع وأحداث في المجتمع وتعجز عن اثباتها في الاغلب الأدلة والبراهين التي هي من صميم مرتكزات النظر والبحث القانوني. وفي ضوء هذا التفريع، الأولى لنا أن نتساءل بداية كيف يمكن التدليل على حدوث مثل هذه الانتهاكات؟ ومن ثم، كيف السبيل الى اثبات ذلك ؟
ثم ومن ناحية أخرى، هل يمكن اعتبار قبول الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بهذا الملف واقتراح حلول على المضربين سواء من خلال انتدابهم في الوظيفة العمومية او في غيرها اعترافا بما حصل من ضرر لهؤلاء؟ أم هو مجرد معالجة ظرفية ومحدودة لملف تم فيه قبول مبدأ التفاوض بعد الرضوخ لضغوط مورست من جهات بعينها؟ نقول ذلك ونستحضر في هذا الخصوص ما صرح به رئيس رابطة حقوق الانسان عبد الستار بن موسي في ندوة صحفية سابقة. فقد اعتبر أن الوضع الصحّي للمضربين كارثي وغير معقولولم يعد يحتمل التأخير معتبرا ان هذا الاضراب لن يتوقف الا بتدخل الحكومة مبديا في نفس الوقت تضامنه مع المضربين ومطالبهم التي وصفها بالمشروعة. ودون أن ننسى ماقاله نقيب الصحافيين التونسيين ناجي البغوري حينما صرح أنه سيقع اعتماد كل وسائل الضغط على الحكومة لأجل تفعيل ملف قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس المفروزين أمنيا بشكل مستمر حتى تحترم الحكومة تعهداتها مضيفاً أن لدى الحكومة كل الاجراءات القانونية حتى ترفع الاضراب.
تعقيدات الملف تطال النواحي الاجرائية والقانونية. فكيف ستكون آلية الانتداب في الوظيفة العمومية المعروفة مداخلها القانونية؟ وهل سيتم اعتبار الفترة التي حرم فيها هؤلاء من الشغل طوال السنوات الماضية خاصة ان في الاعتراف تدليل غير مباشر على اعتماد هذا النهج في التعامل مع المتقدمين للمناظرات العمومية خلال تلك الفترة؟ واذا صح فعلا انهم نجحوا في مناظرات سابقة وتم اقصاؤهم، كيف سيتم التعامل مع هذه الوضعية؟ ثم ما هو مصير من صرح بنجاحهم في تلك المناظرات؟ وماذا لو طالب غيرهم ممن اجتاز هذه المناظرات الطعن في شفافيتها؟
أسئلة عديدة حاولت المفكرة القانونية طرحها ومعرفة بعض الايضاحات بشأنها من قبل طرف عمل على هذا الملف في الحكومة السابقة. إلا انه اعتذر عن الادلاء بأي تصريحات وبرّر ذلك بداعي التحفظ.
ومن وجهة نظر أخرى، كيف يمكن ضمان عدم اتساع الملف ليشمل أطرافا أخرى نالها ما نال قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس من اقصاء بدافع انتمائها السياسي في عهود الاستبداد والفساد؟ خاصة حينما يتعلق الأمر بفئة تعرضت بدورها الى أشكال عدة من المحاصرة والتضييق والمنع. ونقصد بها الفئة الاسلامية التي طالما تحدث عن معاناتها قدامى الاتحاد العام التونسي للطلبة، المنظمة التي تم حلها في تسعينيات القرن الماضي وعاودت النشاط مع الثورة. وفي هذه الحالة، كيف سيتم التعامل اذا عمد مثلا الاسلاميون الى نفس الأسلوب في الاحتجاج؟ نسوق ذلك خاصة ونحن نعلم ان تركيبة اللجنة المشتركة التي تتولى معالجة هذا الملف لم تتضمن في عضويتها وجود أي نائب من نواب حركة النهضة. فهل هو موقف له استتباعاته؟ ام انه غياب اقتضته تركيبة اللجنة؟
مسألة أخرى على علاقة بالمستويين الحقوقي والسياسي في طرح هذه المسألة، وهي تتصل باندراج معالجة مثل هذه الملفات في اطار مسارات العدالة الانتقالية التي يفرض أن تتولاها هيئة الحقيقة والكرامة. فهذه الهيئة هي التي تنظر بموجب القانون المنظم لعملها في انتهاكات الماضي ومسألة جبر الضرر. وهنا نتساءل لماذا لم يتم احالة هذا الملف على انظار الهيئة؟ وهو امر أكده للمفكرة القانونية عضو هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي قائلا ان الهيئة لم تتلق أي ملف من هذه الملفات ولايمكن لها بناء على هذا المعطى ان تبدي أي رأي بخصوصه.
يبدو ملف قدماء الاتحاد العامّ لطلبة تونس ملفّا حارقا بأبعاده المتعددة. فهو في تصدره واجهة الأحداث في الفترة الاخيرة وتزامنه مع اضرابات مماثلة في الوسط الغربي والجنوب الغربي من البلاد يجعل من ملف التشغيل العنوان الأكبر لثورة 14 جانفي 2011 مقياسا يتحدد على ضوئه مستوى الاستقرار الاجتماعي بالبلاد. وهو في تناوله السياسي والاجتماعي يختزن ذاكرة مشبعة بالوان الضيم والظلم والإقصاء وهو الى كل ذلك عنوان تحول في المفاهيم يشتغل عليه ليكون أداة ضغط في مسار عمل أجندات النخب السياسية.