بات تعطيل عمل المؤسسات الدستورية من سمات نظام توافق الزعماء في لبنان لا سيما بعد 2005. وهو تعطيل ينسحب على مخلتف السلطات العامة إن كان الفراغ المتمادي في انتخابات رئاسة الجمهورية، أو تأخر تشكيل الحكومة لفترة زمنية طويلة جدا أو حتى تعذر مجلس النواب عن الاجتماع وشلّ جلسات مجلس الوزراء من أجل تحقيق مكاسب سياسية.
ولا بد لنا من التفريق بين نوعين من توقف عمل المؤسسات الدستورية: الفراغ والتعطيل. فالفراغ هو حالة تنبه لها الدستور ووجد حلا لها في أحكامه كانتقال صلاحيات رئيس الجمهورية مؤقتا إلى مجلس الوزراء في حال خلو سدة الرئاسة (المادة 62) أو قيام الحكومة المستقيلة بتصريف الأعمال ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة ومنحها الثقة (الفقرة الثانية من المادة 64). وفيما يتفق التعطيل مع الفراغ لجهة عدم تمكن المؤسسة المعنية من ممارسة دورها الدستوري، فإنه يختلف عنه من ناحية جوهرية لجهة السبب، كون الفراغ يقع في حالات محددة نص عليها الدستور، بينما التعطيل لا سبب دستوري مباشر له، بل مجرد إرادة سياسية اعتباطية لا يمكن للنص الدستوري أن يلحظها في المبدأ.
جراء ما تقدم، نستطيع القول أن الفراغ بالمطلق غير متحقق لأن ذلك يؤدي في نهاية الأمر إلى شل الدولة بكافة سلطاتها وعدم تمكنها من القيام بالدور الذي من أجلها وجدت أصلا، أي الحفاظ على المجتمع بمختلف مقوماته الأمنية والاقتصادية والسياسية. لذلك جاء الدستور لينظم مثل تلك الحالات ليمنع الفراغ الكلي ويجعل منه حالة استثنائية يجب تداركها بسرعة.
لكن الدستور نفسه فرّق بين الفراغ في السلطة التنفيذية والفراغ في السلطة التشريعية. فغياب السلطة التنفيذية في المطلق هو مستحيل كون الشغور في رئاسة الجمهورية يملؤه مجلس الوزراء، واستقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة لا يمنعها من تصريف الأعمال. بينما يختلف الأمر عندما يتعلق الأمر بالسلطة التشريعية إذ يقبل الدستور بفراغ مؤقت وذلك في المادة 25 منه التي تنص على التالي: “إذا حل مجلس النواب وجب أن يشتمل قرار الحل على دعوة لاجراء انتخابات جديدة وهذه الانتخابات تجري وفقاً للمادة 24 وتنتهي في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر”. صحيح أن هذا الفراغ هو لفترة زمنية بسيطة لكنه فراغ حقيقي وفعلي بحيث تختفي السلطة التشريعية طوال تلك الفترة ولا يمكن لأي سلطة أخرى الحلول مكانها إلا في حالة الظروف الاستثنائية.
والحقيقة أن غياب السلطة التشريعية لا يقتصر على امكانية الحل، بل هو يتخذ وجها آخر له يتجسد في نظام العقود الذي يتبناه الدستور اللبناني. فمجلس النواب يجتمع في عقود عادية واستثنائية، وخارج دورات الانعقاد تحتجب السلطة التشريعية بالكامل ولا يحق لها ممارسة صلاحياتها. وهنا يكمن الاختلاف الجوهري بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والذي وضع أسسه الفلسفية المفكر الانكليزي الشهير جون لوك في القرن السابع عشر الذي برر الفصل بين السلطتين من خلال التمييز بين ديمومة السلطة التنفيذية وعدم وجوب ذلك في ما خص السلطة التشريعية. ويشرح المفكر لوك هذا التمييز: “ليس من الضروري أن تكون السلطة التشريعية قائمة دائما، بل ليس من المناسب أيضا. إلا أنه من الضروري أن تكون السلطة التنفيذية قائمة أبدا، إذ ليس من حاجة لوضع قوانين جديدة دائما ولكن ثمة حاجة لتنفيذ القوانين الموضوعة أبدا”[1].
وقد تحوّل هذا التبرير النظري إلى مبدأ سلم به العديد من الفقهاء إذ يكرره “اسمان” في مؤلفه المرجعي[2].
إن حتمية ديمومة السلطة التنفيذية هو ما جعل الفراغ فيها مستحيلا بأي شكل من الأشكال، وهو السبب الذي يدفع غالبية الدساتير في العالم إلى تدارك كل الاحتمالات التي قد تؤدي إلى غياب دائم أو مؤقت في المؤسسة التي تتجسد فيها تلك السلطة.
لكن هذه المنطلقات الفلسفية التي تحكم عمل المؤسسات الدستورية تعاني من تناقض كبير في الحالة اللبنانية. فقد نصت الفقرة الخامسة من المادة 65 من الدستور على أن مجلس الوزراء “يجتمع دوريا في مقر خاص…”. فدورية انعقاد مجلس الوزراء الذي أناطت به المادة 17 من الدستور السلطة الاجرائية هو تجسيد لمبدأ الديمومة الذي وضعه لوك. فرئيس مجلس الوزراء في المبدأ لا يحق له التمنع عن دعوة الحكومة إلى الاجتماع كون صلاحيته بالدعوة تقتصر على تحديد الزمن الأنسب لاجتماع الوزراء والتنسيق بينهم واطلاع رئيس الجمهورية على جدول الأعمال مسبقا. فدورية الاجتماع تجعل من الدعوة صلاحية مقيدة وغير استنسابية هدفها الأساسي تأمين انتظام عمل المؤسسات الدستورية بشكل عام، والمحافظة على ديمومة السلطة التنفيذية بشكل خاص.
إن مبدأ الديمومة الذي يقره الدستور هو عينه الذي يفشل هذا الأخير بشكل صارخ في حمايته. فقد قام اتفاق الطائف على تناقض دفين بين مبدأ الديمومة من جهة وتبني آليات تحكم عمل مجلس الوزراء هي عينها التي تنظم طريقة عمل مجلس النواب من جهة ثانية. فمجلس الوزراء لا يجتمع إلا بنصاب محدد (الثلثان) وهو يتخذ قراراته توافقيا أو بالتصويت، لا بل أن علاقة رئيس الجمهورية به شبيهة بعلاقته مع مجلس النواب لجهة رد القوانين إذ يعود لرئيس الجمهورية أيضا رد قرارات مجلس الوزراء (المادة 56).
إن كل هذه الآليات الدستورية علاوة على الطبيعة التوافقية للنظام اللبناني حوّلت مجلس الوزراء فعليا إلى مجلس نيابي مصغر. وأوضح تجليات هذا الأمر هو اضمحلال مبدأ الديمومة عبر تمنع رئيس الحكومة أحيانا عن دعوة مجلس الوزراء، أو مقاطعة أحيانا أخرى عدد من الوزراء للمجلس ما يمنع من تأمين النصاب الضروري لممارسة السلطة التنفيذية صلاحياتها. لذلك يشكل تعطيل مجلس الوزراء خرقا للدستور وهو يؤدي عمليا إلى فراغ في السلطة التنفيذية أي إلى ضرب ماهية هذه الأخيرة كون الديمومة هي كما رأينا جزء من جوهرها. فنظام توافق الزعماء يؤدي حكما إلى منح هؤلاء سلطة أمر واقع يستبدل ديمومة مؤسسات الدولة باستنسابية توافق المصالح السياسية.
[1] جون لوك، في الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت، 1959، ص. 231.
[2] A. Esmein, éléments de droit constitutionnel français et comparé, Tome second, 1921, p. 153: « On pourrait ajouter que, si la permanence est une condition essentielle pour le pouvoir exécutif, dont l’action ne saurait s’interrompre un seul instant, elle n’en est point une pour le pouvoir législatif, car il n’est pas besoin de toujours légiférer et à tout instant »
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.