قبل أزمة 2019، عرف القضاء أزماتٍ عدّة على مستوى تكوين هيئاته أو التعيينات والتشكيلات. أهمّ تلك الأزمات حصلت في 2005 في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. آنذاك، شهد مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي شغورًا كبيرًا. كما تعيّن على خرّيجي معهد الدروس القضائية أن ينتظروا فترات بلغت بالنسبة إلى فئة منهم 4 سنوات قبل أن يتمّ تشكيلهم في أوّل مركز قضائي. التعطيل الذي حصل آنذاك نتج بشكل خاصّ عن الخصومات والمساومات السياسيّة ومسعى القوى السياسيّة إلى زيادة نفوذها داخل القضاء. وقبل الأزمة أيضًا، تمّ إجهاض مشاريع تشكيلات قضائيّة كثيرة. وما حصل بعد 2019، هو أنّ الأزمة المالية والاقتصادية والنقدية أضافت أسباب تعطيل إلى أسباب التعطيل الرائجة من قبلها. وهذا ما سنحاول رسمه في هذا المقال.
تعطيل الهيئات القضائية
أوّل الهيئات التي أصابها التّعطيل اليوم هي هيئة التّفتيش القضائيّ. فعدا عن أنّ رئيسها بركان سعد قد بلغ سنّ التقاعد في 07/01/2022 من دون أن يُعيّن بديل عنه، فإنّ عدد مفتّشيها العامّين هبط من 4 إلى مفتشة عامّة واحدة. وعليه، يكون مجلس الهيئة المكوّن من رئيسها والمفتّشين العامّين والمختصّ بإحالة القضاة إلى المجلس التأديبي، قد فقد نصابه (3 بالحدّ الأدنى) بعدما انحصرتْ عضويته بمفتّشة عامّة واحدة تمارس في الوقت نفسه مهامّ رئيسة الهيئة بالإنابة. وعليه، تكون الهيئة بفعل تعطيل مجلسها قد فقدت قدرتها على إحالة أيّ قاضٍ تثبت التحقيقات ارتكابه إخلالًا وظيفيًا إلى المجلس التأديبيّ أو تقديم توصية بوجوب وقفه عن العمل إلى وزير العدل، وفق الآلية المُعتمدة في المادة 106 من قانون تنظيم القضاء العدلي. وكانت هيئة التفتيش القضائي قد شهدت من قبل شغورًا مماثلًا في سياق الأزمة السياسية الحادة التي تلت اغتيال الحريري، ممّا حصر دورها في إجراء التحقيقات من دون إمكانية إحالة أيّ من القضاة إلى المجلس التأديبي أيًا تكن جسامة المخالفة المعزوّة إليه[1].
التّهديد نفسُه يواجه مجلس القضاء الأعلى. ففيما انخفض عدد أعضائه إلى 6 بعد تقاعد النائب العام التمييزي (وهو الحدّ الأدنى لتوفّر نصابه القانوني)، من المرجّح أن يجد رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود نفسه وحيدًا بعد انتهاء ولاية سائر الأعضاء في تشرين الأول 2024، ما لم يحصل تحوّل كبير في المشهديْن السّياسي والقضائي لا يوجد حتى اللحظة أيّ مؤشّر إليه. وعليه، ستفقد العدليّة الجهاز الذي يفترض أنّه القيّم على المسارات القضائية، بدءًا من الدعوة لإجراء مباريات أو تعيين الفائزين فيها وصولًا إلى النظر في الطعون على القرارات التأديبية في الهيئة العليا للتأديب.
بالإضافة إلى هاتين الهيئتين، يبقى معهد الدروس القضائية معطّلًا بحكم كونه تحوّل منذ 2022 (انتهاء الدورة الأخيرة) إلى معهد من دون طلاب. وهذا ما ينقلنا إلى تعطيل مباريات الدخول إلى القضاء.
تعطيل مباريات الدخول إلى معهد الدّروس القضائية
حصلت مباراة الدخُول الأخيرة إلى معهد الدّروس القضائيّة في أوائل 2018، وتخرّجت الدفعة الأخيرة من المعهد في 2022. ويعود تأخير الإعلان عن أيّ مباراة جديدة إلى أسباب عدّة: الأوّل، تراجع موارد الدولة بشكل كبير وضمنها الموازنة المخصّصة لوزارة العدل بعد 2019 الأمر الذي حال دون الدعوة لإجراء مباريات جديدة. الثاني، تراجع القدرة الشرائية لرواتب القضاة الأمر الذي دفع العديد منهم لتقديم استقالاتهم أو الدخول في إضرابات طويلة أو الاكتفاء بتأمين الحدّ الأدنى من العمل. وقد بدا بنتيجة ذلك من غير الملائم اجتذاب عناصر جديدة إلى القضاء قبل النجاح في رفع رواتب القضاة بصورة ملموسة وإعادة الاستقرار والطمأنينة إلى الجسم القضائيّ ككلّ.
وفيما جرت محاولات مؤخّرًا للدعوة إلى المباراة في القضاءين الإداري والعدلي، فقد تمّ التراجع عنها بفعل قرب انقضاء ولاية أعضاء مجلس القضاء الأعلى فضلًا عن عدم توفّر اعتمادات مالية. هذا مع العلم أنّ الدعوة إلى أيّ مباراة قريبة لن تؤتيَ ثمارها إلّا بعد 4 سنوات من تاريخها، نتيجة الوقت الذي تستغرقه إجراءات المباراة والمدّة التي سيتعيّن على الفائزين فيها قضاءها للتخرّج من المعهد وأنّ من شأن تعطيل مجلس القضاء الأعلى أن يزيد من احتمالات تأخير المباريات.
ومؤدّى ذلك هو تراجع عدد القضاة في السنوات المقبلة بنتيجة بلوغ أو قرب بلوغ العديد منهم سنّ التقاعد أو تقدّم قضاة آخرين باستقالات على خلفيّة عدم رضاهم عن شروط العمل. ففيما يبلغ عدد القضاة العدليين اليوم 531 قاضيًا (بمن فيهم القضاة الموضوعين في الاستيداع المؤقّت خارج الملاك والقضاة الوزراء والقضاة المنتدبين)، فإنّ عدد القضاة الذين بلغوا سنّ التقاعد ما بين 2020 حتى آخر تموز 2024 يبلغ 37 وعدد آخر يبلغ 40 سيصل سنّ التقاعد خلال السنوات الستّ المقبلة (حتى آخر 2030).
وعليه، فإنّ نسبة الشغور سترتفع من 33% إلى 38% في آخر 2030 على افتراض عدم حصول أيّ مباراة دخول إلى المعهد قبل نهاية 2026؛ وهي نسبة يرجّح أن ترتفع بنتيجة استمرار نزيف الاستقالات داخل القضاء بفعل غياب أيّ إصلاح مالي أو إداري. وكانت “المفكرة القانونية” قد وثقت 25 استقالة لقضاة منذ بداية الأزمة في تشرين الأول 2019 (نرجّح أنّ 7 منها حصلت لأسباب تتّصل بملاحقات تأديبية وإحداها لأسباب صحية فيما حصلت 18 منها بدافع الأزمة). ويُنتظر أن تتفاقم مفاعيل الشغور بنتيجة انخفاض الإنتاجية في السنوات الماضية وتاليًا تراكم الملفّات والاختناق القضائي الحاصل على مستوى أغلب المحاكم في السنوات الماضيّة.
تعطيل التشكيلات القضائية
أمر آخر يميّز حالة التّعطيل السّائدة هو تعطيل التشكيلات القضائية. إذ تمّ إجهاض جميع مشاريع التّشكيلات المُقترحة بعد 2017، وأبرزها مشروع التّشكيلات الشاملة في نيسان 2020 بنتيجة رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم إصدارها. ثم عاد وزير المالية ليعطّل مشروعيْ تشكيلات قضائيّة لملء رئاسات الغرف في محكمة التمييز. وقد حصل ذلك رغم تعيين 103 قضاة جدد من خرّيجي معهد الدروس القضائيّة بين 2019 و2022. وعليه، وبفعل صدور التشكيلات القضائية، انتظر هؤلاء أشهرًا طويلة قبل أن يتمّ تكليفهم بمهامّ قضائية بموجب انتدابات صدرت عن وزارة العدل بموافقة مجلس القضاء الأولى: الانتدابات الأولى صدرت في 30/3/2021 وشملت 32 قاضيًا تمّ تعيينهم في 10/10/2019 بعدما تمّ إعلان أهليّتهم في 19/8/2019، والانتدابات الثانية صدرت في 8/2/2024 وشملت 69 قاضيًا صدرت مراسيم تعيينهم في 18/11/2021 (33) و25/8/2022 (4) و20/10/2022 (32) بعدما تمّ إعلان أهليّتهم تباعًا في 13/4/2021 و13/6/2022 و11/10/2022.
وعليه، تبلغ الطاقة القضائية المهدورة بنتيجة تأخّر قرارات انتداب القضاة 194 سنة “عمل قضائي” إذا احتسبنا التأخير بدءًا من تاريخ إعلان أهليّتهم و168 سنة “عمل قضائي” إذا احتسبنا التأخير بدءًا من تاريخ صدور مراسيم تعيينهم.
الأهم من ذلك أنّه بمراجعة تشكيلات 2017، يتبدّى حصول شغور كبير خلال السنوات الماضية في المراكز الأهمّ فيها (أمثلة على ذلك: 80% في رئاسات غرف محكمة التمييز و43% في رئاسات غرف محاكم الاستئناف). وفيما تمّ معالجة هذا الشغور من خلال الانتدابات والتكليفات، فإنّ ذلك غالبًا ما حصل بصورة ارتجالية وأدّى بفعل ذلك إلى مزيد من البلبلة على صعيد العمل القضائي. وليس أدلّ على ذلك من تعطيل الهيئة العامّة لمحكمة التمييز بعد تقاعد أغلب رؤساء غرف التمييز من دون تعيين بدائل أصيلين عنهم، أو أيضًا تعطيل المجلس العدلي بفعل فقدان نصاب انعقاده بعد تكليف جمال الحجّار (رئيس غرفة تمييز) مهام نائب عام تمييزيّ.
تعطيل العمل في المحاكم
أخيرًا، شهدنا منذ بداية الأزمة تعطّل العمل في محاكم عدّة بنتيجة عوامل عدّة، تنوّعت أسبابها وأشكالها. أهمها الآتية:
- قوانين تعليق المهل التي سرى مفعولها من 18 تشرين الأوّل حتى آخر آذار 2021. وقد تمّ تبريرها بالأزمة السياسية والمالية فضلًا عن وباء كورونا،
- اعتكافات القضاة وتوقّفهم عن العمل. وقد تواصلت بشكل أو بآخر، بشكل منظّم أو غير منظّم، احتجاجًا على سوء ظروف العمل القضائي وانهيار القيمة الشرائية لرواتبهم، علمًا أنّ الاعتكاف الأطول والأشمل امتدّ من تموز 2022 إلى كانون الثاني 2023 بعد حصول القضاة على ضمانات بمداخيل مالية غير مؤكّدة المصدر وغير ثابتة القيمة، تعوّض عن جزء من القدرة الشرائية التي خسروها بفعل الأزمة. وقد سجّل تفاوتٌ في استجابة القضاة للإضراب وبشكل عام التزام نسبيّ في مواصلة النظر في قضايا الموقوفين والقضايا الملحّة، وإنْ أعلن عدد من القضاة ممارسة الإضراب الوحشي في بعض الفترات وصولًا إلى التوقّف عن النظر حتى في هذه القضايا. وإذ تفهّم مجلس القضاء الأعلى أو هيئة التفتيش القضائي مبدأ الإضراب، فإنّ أيًا منهما لم يتدخّل لوضع ضوابط له منعًا لتحوّله إلى إضراب وحشيّ،
- إضرابات المساعدين القضائيين التي تكرّرت ولو بشكل متقطّع في 2021 و2022، وقد أخذت بعض هذه الإضرابات طابعًا مناطقيّا،
- إضراب المحامين في بيروت الذي استمرّ من 28/05/2021 إلى 23/09/2021،
ورغم إعلان القضاة رجوعهم عن الاعتكاف في 5/1/2023، فإنّ العديد منهم عادوا إلى العمل بصورة جزئيّة فيما يشبه الإضراب المقنّع علمًا أنّ عددًا منهم أفادوا “المفكرة” أنّ مجلس القضاء الأعلى طالبهم عند فكّ الاعتكاف، بالعمل قدر الممكن أو جزئيًا طالما أنّهم لم يحصلوا بعد على كامل حقوقهم. وإذ قدمنا تكرارًا كتبًا للحصول على معلومات عن عدد الدعاوى الواردة إلى المحاكم أو المفصولة منها أو أيضًا عدد الدعاوى العالقة والمتراكمة، وذلك إلى مراجع عدّة (مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي ووزارة العدل)، بهدف تقدير ارتِدادت الأزمة على إنتاجية القضاء واختناق المحاكم، فإنّ أيًا من هذه المراجع لم يزوّدنا بأيّ معلومة. وقد أفادتنا وزارة العدل حرفيًا في سياق تعليل ردّ طلبنا، أنّه ليس بحوزتها هكذا أرقام، وأنّ الحصول عليها يتطلّب مجهودًا وموارد بشرية ليس باستطاعتها تأمينها الآن.
يبقى أنّ التعطيل لا يزال يضرب حاليًا بشكل خاص عددًا من المحاكم، منها الهيئة العامة لمحكمة التمييز والمجلس العدلي ومجالس العمل التحكيمية. كما أنّه يؤثر بشكل كبير على التزام المراجع الجزائية بمهل التوقيف كما على التزام القضاء المستعجل بالأصول المستعجلة. وهذا ما ندرسه على حدة في هذا الملف المخصّص لتعطيل القضاء.
نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لتحميل الملف بصيغة PDF
[1] “محاسبة القضاة: الطريق الرسمية مهملة والزواريب تزدهر”، المفكرة القانونية، 2018-04-04.