رغم أن “إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون” إلا أنه “لا يجوز إنشاء أي منها بالهيئات النظامية”؛ هكذا نصت المادة (76) من الدستور الحالي، في سابقة دستورية في القانون الدستوري المصري. فبموجب هذه المادة، لا يحق للعاملين بأية هيئة نظامية[1] أن ينشئوا فيها نقابات أو اتحادات، وهو ما يناقض الاتجاه العام في ديمقراطيات العالم وفي المواثيق الدولية لحقوق الإنسان[2]، التي تؤكد على حق العمال في تنظيم أنفسهم للمطالبة بحقوقهم وللدفاع عنها.
من ضمن الهيئات النظامية المعنية بهذه المادة هيئة الشرطة بقطاعاتها. فرغم أن هيئة الشرطة هي هيئة مدنية في المقام الأول[3]، ما ينبغي أن يعطي العاملين بها الحق في تشكيل النقابات والاتحادات أسوةً بأقرانهم في الوزارات وجهات العمل الأخرى، إلا أنه، وتطبيقًا للمادة (76) من الدستور، حُرم العاملون بهيئة الشرطة، من هذا الحق في قانون النقابات الجديد.[4]
إلا أن المشرّع لم يكتفِ بما سبق في حق العاملين بقطاع الأمن الوطني. فقد جاء بالقانون رقم (175) لسنة 2020 [5]، الذي يعدل قانون هيئة الشرطة رقم (109) لسنة 1971 (والمُشار إليه بـ “قانون هيئة الشرطة“)، بنص جديد يتوسع في منع العاملين بقطاع الأمن الوطني من أي حقوق تنظيمية مهما كانت مسماها (جمعية، رابطة، ائتلاف…)؛ من ضمن المواد الواردة بالفصل المستحدث الذي تمّ إدراجه بالباب الرابع من قانون هيئة الشرطة، تحت عنوان “أحكام خاصة بقطاع الأمن الوطني”.[6]
وقطاع الأمن الوطني[7]، هو جهاز الأمن الداخلي المعني بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والخطرة وما يرتبط بها من جرائم أخرى ومواجهة التهديدات التي تستهدف الجبهة الداخلية[8]؛ وهو الوريث الشرعي لجهاز مباحث أمن الدولة سيء السمعة، وذلك بموجب قرار وزير الداخلية رقم (445) لسنة 2011 [9]، والذي كان يهدف لتغيير الصورة القاتمة للجهاز الناتجة عن ممارساته القمعية. جدير بالملاحظة بأن القرار سالف الذكر مطعون في شأنه في قضية أمام المحكمة الإدارية العليا بدعوى أنه يعيد الجهاز سيء السمعة مع تغيير مسماه، ولم تفصل المحكمة في شأن هذه القضية حتى اليوم.[10] ويبدو لنا أن المشرع قد ارتأى تخصيص فصلٍ كاملٍ لقطاع الأمن الوطني في صدر قانون هيئة الشرطة لفرض استقراره.
ومن هذا الاعتناء الذي لاحظناه من قِبَل المشرع، لنا أن ندرك مدى حساسية هذا القطاع بالنسبة للدولة، لكونه المعني الرئيسي ببسط سيادتها وسيطرتها في رحاب الجمهورية، وذراعها الطولي في مجابهة الحركات الإرهابية. ولذلك لم يكتفِ المُشرّع بالحظر سابق الذكر بالنسبة للعاملين بقطاع الأمن الوطني (ما يشمل ضباط وأفراد الشرطة والعاملين المدنيين) عن إنشاء النقابات والاتحادات، بل وسّع أحكامه كي تشمل الانتماء والانضمام لكافة أنواع الكيانات والاشتراك في فعالياتها، وذلك بنص المادة (128) المستحدثة على الآتي:
“يحظر على العاملين بالقطاع الانتماء أو الانضمام لأي تنظيم أو جماعة أو حزب أو جمعية أو رابطة أو حركة، أو أي كيانات أخرى سياسية أو نقابية أو دينية أو مهنية أو عمالية، أو ذات صفة من شأنها التأثير على حيادهم، كما لا يجوز لهم الاشتراك في فعاليات تلك الكيانات أيًا كانت إلا لأداء ما يكلفون به من مهام تدخل في اختصاصاتهم.”
ويتناول المقال هذا الحظر مع إلقاء الضوء على الخوف من تكرار تحركات أفراد الشرطة التي نظموها بعد 25 يناير 2011.
خلفية: سلسلة التحركات النقابية الشرطية السابقة
يعود مقترح إنشاء نقابات واتحادات تمثل ضباط وأفراد الشرطة إلى ما قبل انتفاضة 25 يناير، فنجد أنه قد أُعلن عنه في يونيو 2009، الأمر الذي قوبل بردود أفعال واسعة، تمايزت بين الرفض والتشجيع. فوجهة النظر التقليدية لوزارة الداخلية هي ارتباط النقابات بالاحتجاجات والإضرابات، ما لا يمكن قبوله في هيئة منضبطة لها لوائحها وقوانينها.[11]
وفي الفترة الانتقالية التي تلت سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، تشجعت العديد من الحركات لتشكيل الكيانات الخاصة بها، مثل “الائتلاف العام لضباط الشرطة” و”الائتلاف العام لأمناء وأفراد الشرطة”، و”ضباط ولكن شرفاء”، والتي تعددت مطالبهم فيما بين تقليص ساعات العمل وإجراءات إصلاحات في سلم الرواتب وتنفيذ برامج تدريبية للحد من استخدام العنف، وصولًا إلى برامج إصلاحية لإعادة هيكلة وزارة الداخلية.[12] ورغم تحقق بعض مطالب هذه المجموعات (منح الشرطة زيادة في الأجور بنسبة 300% في ميزانية العام 2012، منح أمناء الشرطة إمكانية الترقي إلى ضباط شرف، إلخ…)، إلا أن حالة الاستقطاب السياسي وعدم الاستقرار في هذه الفترة الانتقالية حالت دون أية إصلاحات جوهرية بوزارة الداخلية، ما أدى بالنهاية لاحتواء هذه الكيانات، وتمرد الوزارة على أية محاولة إصلاحية، متذرعةً بضرورة مجابهة الإرهاب والجريمة.[13]
وأخذا بالاعتبار لهذه الخلفية، نص المشرع الدستوري والقانوني على منع التنظيم النقابي للشرطة كهيئة نظامية، ولكن في تعديل قانون هيئة الشرطة الذي أشرنا إليه، خص قطاع الأمن الوطني بمادة تؤكد وتوسع هذا المنع، كما نوضح أدناه.
حظر العاملين بالأمن الوطني من حق التنظيم أو من التشابك مع المجتمع؟
تتفق المادة (128) المستحدثة مع المادة الثانية[14] من قانون النقابات الجديد، التي تنص صراحةً على عدم تمتع العاملين بهيئة الشرطة بأيٍ من الحقوق الواردة بقانون النقابات الجديد، سواءً كان إنشاءً لمنظمة نقابية جديدة أو الانضمام لواحدة موجودة بالفعل.
إلا أن الجديد الذي أتت به المادة (128) هو توسعة نطاق الحظر، فلا يقتصر على النقابات العمالية فحسب، بل وأيضًا “أي تنظيم أو جماعة أو حزب أو جمعية أو رابطة أو حركة، أو أي كيانات أخرى سياسية أو نقابية أو دينية أو مهنية أو عمالية من شأنها التأثير على حيادهم“.
وهنا نشير أن المشرع نص على “التأثير على حيادهم”، لتبرير هذا المنع. ولكن تظل هذه العبارة واسعة، خاصة إذا أخذنا مثالا انضمام فرد من أفراد الأمن الوطني إلى جمعية خيرية أو تهدف إلى تنمية المجتمع، فهل يمكن اعتبار ذلك يؤثر على حياده؟ وهل الهدف ألا يكون لأفراد الأمن الوطني أي علاقة بالمجتمع بشكل خارج عن علاقتهم الاجتماعية الأسرية؟
وهو ما نراه جلياً في النصف الثاني من المادة التي تنص على “لا يجوز (للعاملين بالقطاع) الاشتراك في فعاليات تلك الكيانات أيا كانت إلا لأداء ما يكلفون به من مهام تدخل في اختصاصاتهم”؛ وبالتالي وسع المشرع من الحظر المفروض عليهم إذ لا يمكن لهم الانضمام أو الاشتراك في أي فاعلية. فلا يمكن للعاملين بالأمن الوطني الاشتراك في فاعلية تتعلق بجمعية تدافع عن حقوق الطفل مثلا أو تجمع تبرعات أو في حملة توعية لمرض ما، أو فاعلية ثقافية ينظمها أحد الكيانات، وهو الأمر الذي يجعلهم بشكل كبير بعيدين عن التشابك مع المجتمع، ويعزز المسافة بينهم وبين الشعب، بل ويعزز شعورهم بالأفضلية عن باقي الشعب.
كما أن من شأن هذه الألفاظ والعبارات المطاطة، التي تعكس سطوة العقلية الأمنية في التعامل مع مسألة حقوق العاملين، أن توقع المادة (128) بالمخالفة لمبدأ التناسب؛ وهو مبدأ دستوري ينص على أنه في مجال الحقوق والحريات، يلتزم المشرع بالتوفيق بينها من جهة والمصلحة العامة (حفظ النظام والأمن العام في سياقنا هذا) من جهة أخرى، دون أن يؤدي هذا التوفيق إلى إهدار أيٍ من القيمتين. ومتى قام المشرع بذلك وتجاوز الحدود المنطقية لتنظيم الحقوق والحريات، اعتُبر تدخله تحكميًا وغير متناسب.[15]
[1] تتحدد الطبيعة النظامية للهيئة من خلال نص القانون الذي ينشئها معرِّفًا إياها بهذه الصفة. وتُعد الهيئات النظامية عادةً من ضمن الجهات الرئيسية التي تشكل النظام الأساسي الدولة.
[2] راجع المادة (22) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمادة (11) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والمادة (35) من الميثاق العربي لحقوق الإنسان.
[3] نصت المادة (206) من الدستور الحالي والمادة (1) من قانون هيئة الشرطة على الطابع المدني لهيئة الشرطة. تُرجى الملاحظة بأن الطبيعة المدنية شرط جوهري لممارسة حق تكوين النقابات والاتحادات، فهذا الحق غير ممنوح لأفراد القوات المسلحة نظرًا لطبيعتها العسكري، وهو المتبع في الدول الديمقراطية حول العالم.
[4] المادة (2) من قانون المنظمات النقابية العمالية وحماية حق التنظيم النقابي رقم (213) لسنة 2017.
[5] للاطلاع على القانون رقم (175) لسنة 2020، يُرجى تفقد الرابط.
[6] المادة الثالثة من القانون رقم (175) لسنة 2020، والتي أضافت فضلًا ثالثًا بالباب الرابع عنوانه “أحكام خاصة بقطاع الأمن الوطني”، يضم المواد أرقام (122، 123، 124، 125، 126، 127، 128، 129، 130، 131).
[7] يُرجى العلم بأن المادة (123) من قانون هيئة الشرطة، والمستحدثة بموجب المادة الثالثة من القانون رقم (175) لسنة 2020، نصت على إعادة تسمية قطاع الأمن الوطني بـ “المباحث العامة” و”مباحث أمن الدولة” و”جهاز مباحث أمن الدولة”. إلا أنه بغرض التناسق في المقال الحالي، فسيُكتفى بتسمية هذا القطاع بمسماه القديم، أي “قطاع الأمن الوطني”.
[8] المادة (125) من قانون هيئة الشرطة، والمستحدثة بموجب المادة الثالثة من القانون رقم (175) لسنة 2020.
[9] “ملف خاص: من «أمن الدولة» إلى «الأمن الوطني» تغيرت الأسماء والـمفاهيم.. والقانون هو الحكم“، جريدة اليوم السابع، 27 أبريل 2011. تُرجى الملاحظة بإن إنشاء القطاعات بوزارة الداخلية يأتي بموجب قرار من وزير الداخلية، طبقًا للمادة (1) من قانون هيئة الشرطة، ولا يحتاج إلى قانون بالضرورة.
[10] “تقرير قضائي يؤيد إنشاء جهاز الأمن الوطني لحماية البلاد ومكافحة الإرهاب“، جريدة اليوم السابع، 10 يونيو 2017.
[11] “هل تحل نقابة الشرطة أزمة الأمن في مصر؟“، جريدة اليوم السابع، 11 يونيو 2009.
[12] يزيد صايغ، “الفرصة الضائعة” السياسة وإصلاح الشرطة في مصر وتونس“، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
[13] المصدر السابق.
[14] نص المادة الثانية من قانون النقابات الجديد: “فيما عدا العاملين بالقوات المسلحة وهيئة الشرطة وغيرهما من الهيئات النظامية، تسري أحكام هذا القانون على:
- العاملين المدنيين بوحدات الجهاز الإداري للدولة – من وزارات، ومصالح وأجهزة لها موازنات خاصة، ووحدات الإدارة المحلية، والهيئات العامة خدمية كانت أم اقتصادية.
- العاملين بشركات القطاع العام، وقطاع الأعمال العام، والعاملين بالأنشطة الاقتصادية التي يتم إنشاؤها بقانون.
- العاملين بالقطاع الخاص.
- العاملين بالقطاع التعاوني.
- العاملين بالقطاع الاستثماري، والقطاع المشترك.
- عمال الزراعة.
- عمال الخدمة المنزلية.
- العمالة غير المنتظمة والعمالة الموسمية.”
[15] دستورية عليا في 3 سبتمبر سنة 1995، القضية رقم 40 لسنة 16 قضائية “دستورية”. راجع كتاب “الحماية الدستورية للحقوق والحريات”، الطبعة الثانية لسنة 2000، دار الشروق، صـ 92، د. أحمد فتحي سرور.