أودَعَت وزارة المالية مشروع قانون الماليّة لسنة 2025 في مجلس النوّاب، يوم 15 أكتوبر الجاري، وهو أجل الإيداع الأقصى وفق القانون الأساسي للميزانيّة لسنة 2019. وتجدر الإشارة إلى أن القانون الأساسي ينص على ضرورة أن تَعرضَ الحكومة على مجلس النواب، قبل موفّى شهر جويلية من كلّ سنة، الفرضيّات والتوجّهات الكبرى لميزانيّة الدّولة للسنة الماليّة المقبلة. هذا الإجراء ذو طابع تشاركي لامركزي، والغرض منه مساهمة النوّاب في نقاش السّياسات الاقتصاديّة السّنويّة. غير أنّ الجلسة البرلمانية انعقدت بشكل متأخر، في 19 سبتمبر المنقضي، وحِين انعقادها كانت مشاريع قانون الماليّة والميزان الاقتصادي في مراحل الإعداد الأخيرة، مَا يعكس طابعها الشّكلي وهامشيّة الدّور السّياسي للبرلمان.
أكثر من ذلك، وفي إطار حدّ أدنى من انسجام النّظام السّياسي الذي ركّزه رئيس الجمهوريّة كان من المفترض تَنظيم لقاء في الغرض نفسه مع مجلس الجهات والأقاليم، إلاّ أنّ كلّ ذلك لم يَحصل، ممّا يدلّ على تناقضات المشروع السّياسي للرّئيس بين مأسَسَة “نظام قاعدي” قائم على اللامركزيّة وبين مركزة السّلطة بشكل عام في يد الرّئيس والأجهزة المركزيّة. في السّياق نفسه، لم تَنشر وزارة الماليّة مشروع قانون الماليّة رغم أنّه اتَّخَذَ صبغة عموميّة بإيداعه البرلمان، ما جعل الصّحافة تعتمد على أجزاء من النصّ وقع نشرها من قبل بعض النوّاب على موقع “فايسبوك”. وهذا يَندرج ضمن صعوبة النفاذ إلى المعلومة والتّواصل مع المؤسّسات الرّسميّة منذ هيمنة رئيس الجمهوريّة الحالي على السّلطة.
يَحتوي مشروع قانون الماليّة الحالي على بعض المراجعات للمنظومة الجبائيّة، المدرَجَة تحت بند “مواصلة الإصلاح الجبائي ودعم موارد الخزينة”، وتمّ في إطاره مراجعة بعض النّسب الضريبيّة على دخل الأشخاص الطّبيعيّين والشّركات. ونعتقد بحكم العادة أنّ هذا الجزء من نصّ المشروع سيطغَى على نقاش النصّ برمّته، لما له من مفعول مالي على مداخيل الأفراد والشّركات، ولكن بالخصوص في ارتباطه بالصّورة العامّة التّي تكرّست حول قانون الماليّة الذي أصبح وكأنّه مجلّة جبائيّة، لا سيما وأنّ قوانين الماليّة المتعاقبة منذ سنة 2011 ضمّت مئات الفصول الجبائيّة، ممّا ساهم في مزيد تعميق الإخلالات الهيكليّة لمنظومة الجباية بشكل عام، وخَلقَ وضع قائم على التشتّت والتعقيد التشريعي والبيروقراطيّة وضُعف الرّقابة، وأدّى إلى عدم تطبيق عديد الأحكام ومَزيد توسِعَة دائرة التهرّب والتحيّل الضريبي.
في خضم ذلك، دائما ما يطغى على النّقاش العام حول الضّرائب العبء الجبائي الموظف على الشّركات على حساب العبء الجبائي على مداخيل الأفراد كنتيجة لاختلال موازين القوى السّياسيّة-الاقتصاديّة لصالح أصحاب رأس المال، ولكن أيضا بسبب هيمنة الفكر الرّأسمالي المشوّه في بلادنا الذي يقوم على تهميش قوى الإنتاج، أي خلق علاقة مشوّهة في عناصر الإنتاج تُعطي الأفضلية لرأس المال على حساب العمل، في حين أنّ الثّروة لا تنمو من دون عمل. هذا التصوّر الاقتصادي لعمليّة الإنتاج متجذّر في عقيدة الإدارة التّونسيّة التي تتقاطع مع التّحالفات السّياسيّة التي تَبنيها السّلطة مع رؤوس الأموال. وهو ما يتراءَى في مجمل التّشريعات ذات الطّابع الاقتصادي التي كانت دائما منحازة وبسخاء للمستثمرين في حين أنّ الضّغط الجبائي في أغلبه تَتحمّله مرتبات وأجور وجرايات الأفراد.
شرائح جديدة ومراجعة النّسب
أدرجَت الحكومة مجمل المراجعات التي تخصّ جدول الضّريبة في إطار مواصلة الإصلاح الجبائي، والمقصود به الإصلاح الجبائي الذي انطلق سنة 2014 كأحد مُخرجات الحوار الاقتصادي الوطني والذي مثّل المرحلة الثّانية من الحوار الوطني، وقد وقع إثره مراجعة تدريجيّة للجَدول الضّريبي على الشّركات باتّجاه التّخفيض من نسبة 35%[1] وصولا إلى 15%، وهو ما تضمّنه قانون الماليّة لسنة 2021، في المقابل تمّت مراجعة جدول الضّريبية على الدّخل بإعفاء الشريحة الدّنيا التي لا يتجاوز دخلها السّنوي الصّافي 5000 د في قانون الماليّة لسنة 2017. ممّا يعني أنّ الإصلاح الجبائي المتواصل لحدّ الآن كانت كلفته الزّمنيّة 10 سنوات على المجتمع التّونسي، في دلالة على العجز السّياسي الاقتصادي والخلل الوظيفي للإدارة التّونسيّة التي تُشرف على عمليّة الإصلاح وفي مقدّمتها وزيرة الماليّة الحاليّة التي كانت على رأس الإدارة المركزيّة للجباية. مع التّنويه بأنّ إصلاح النّظام الجبائي يكون دفعة واحدة عن طريق مراجعة شاملة للمنظومة التي تتداخل فيها 7 مجلاّت تشريعيّة،[2] إلى جانب عدّة نصوص قانونيّة أخرى في إطار مشروع تنموي، فيما يُترَك لقانون الماليّة (الذي من المفترض أن يتضمّن السّياسات العموميّة السّنويّة الواردة في المخطّط التنموي) المُراجَعات الطّفيفة والظّرفيّة المتعلّقة بترتيب الأولويّات.
تَضمَّنَ مشروع قانون الماليّة للسّنة القادمة مُراجَعَة شبه كليّة لجدول الضّريبة على الدّخل باعتماد نفس التمشّي في تطبيق نسب تصاعديّة، والتي أصبحت معيارا عالميّا في صياغة السُّلَّم الضّريبي. ومثلما يُبرِز الجدول في الأسفل تمّ الإبقاء على الصّنف الأوّل (دخل سنوي صافي من0 إلى 5000 د) مُعفَى من الضّريبة على الدّخل. في حين تمّت تجزئة الصّنف الثّاني (5000 إلى 20000 د) الذي كان يخضع لنسبة فعليّة بـ 19.5% إلى شريحتين، الشريحة الأولى (5000 إلى 10.000 د) خاضعة لنسبة 7.5%، أمّا الشّريحة الثانية (10.000 إلى 20.000 د) فستخضع لنسبة 16.25%. بينما وقعت المحافظة على الصّنف الثّالث (20.000 إلى 30.000) مع التّقليص في نسبة الضّريبة الفعليّة في حدّها الأقصى من 22.33% إلى 20.83%. كما وقع تقسيم الصّنف الرّابع (30.000 إلى 50.000 د) الذي كانت تطبّق عليه نسبة 26.2% إلى مجموعتين، المجموعة الأولى (30.000 إلى 40.000 د) تخضع لنسبة 23.88%، أما المجموعة الثّانية (40.000 إلى 50.000د) فتمّ التّرفيع في النّسبة التي ستخضع لها لتبلغ 26.3%. وأخيرا وقع الإبقاء على الصّنف الأخير بالنسبة للذين يتحصّلون على دخل صافي سنوي يتجاوز 50.000 د مع الترفيع في نسبة الضّريبة على الدّخل من 35% إلى 40%.
(جدول الضريبة على الدخل مثلما ورد في مشروع قانون المالية)
ويُقصد بتطبيق النّسب الفعليّة في الحدّ الأقصى، نسب الضّريبة الحقيقيّة التي يقع تطبيقها بعد ضبط الدّخل الصّافي السّنوي. مثلاً فيما يخصّ الأجراء يحدّد دخلهم الصّافي الخاضع للضّريبة بعد طرح تقديري ب ـ10 % بعنوان أعباء المصاريف المهنيّة من دون أن يتجاوز الطّرح سقف 2000 د، وطَرح أعباء الضّغط الاجتماعي أي المساهمات في الصّناديق الاجتماعيّة. تبلغ المساهمة الاجتماعيّة للموظّف العمومي في مجملها 14.2% من الأجر الخام، بينما تبلغ المساهمة الاجتماعيّة الكليّة للأجير في القطاع الخاصّ حوالي 6%. وتُعتبر شريحة الأجراء (في القطاعين العام والخاصّ) الفئة الأكثر انضباطا في دفع مساهمتها لأنّها خاضعة للاقتطاع الآلي على خلاف بقيّة الفئات الاقتصاديّة الأخرى التي تخضع مساهماتها بعنوان مداخيلها للتّصاريح أو نظام المبادرة الذّاتيّة أو النّظام التقديري.
وينعكس ذلك في الخلل على مستوى هيكلة الأداءات المباشرة التي يقع نصفها على عاتق الأجراء علما وأنّهم يمثّلون حوالي 70% من جملة المشتغلين في تونس، بينما لا تتعدّى مساهمة بقيّة أصناف مداخيل الأشخاص الطبيعيّين المتأتيّة من الأرباح الصّناعيّة والتّجاريّة والخدماتيّة والأرباح المتأتيّة من المستغلاّت الفلاحيّة والصّيد البحري، علاوة على مداخيل الأوراق المالية ومداخيل رؤوس الأموال المنقولة والمداخيل العقارية، مجتمعة 20%. في حين تمثّل الضّريبة على الشّركات 32% من موارد الدّولة من الأداءات المباشرة خلال سنة 2024 وفق ما يبيّنه الرّسم البياني.
المصدر: تقرير حول مشروع ميزانيّة الدّولة لسنة 2024، وزارة الماليّة
وهم العدالة والرّفاه
في بيان شرح أسباب إعادة توزيع شرائح الدّخل وتعديل نسب الضريبة المطبّقة عليها، الذي تضمّنه مشروع قانون الماليّة الحالي، تُصوّر الحكومة هذا الاجراء بمثابة “إجراء ثوري” ذي مضمون طبقي من شأنه تكريس العدالة الاجتماعيّة وتقليص الفوارق الطّبقيّة. في هذا الصّدد يجب التّأكيد على أنّ منطق الجباية لا يُحقّق العدالة الاجتماعية، بل هو أحد العوامل المحافظة على الفوارق الاجتماعيّة بسبب تمَركز نسبة من فائض الإنتاج في شكل أرباح بالنّسبة للقطاع الخاصّ، ونسبة أخرى لدى الدّولة في شكل ضرائب توظّفها في نفقاتها. من هذا المنطلق، يبدو الحديث عن الإنصاف الجبائي ذا جدوى اقتصاديّة واجتماعيّة عوض الحديث على العدالة الجبائيّة، بما يُفيد تكريس التّناسب بين المدخول والعبء الضّريبي بشكل تصاعدي.
من خلال مقترح تعديل جدول الضّريبة على الدّخل، ستتمتّع شريحة الأجراء التي تتقاضى أجرا شهريّا بين 417 د و3335د، زيادة تتراوح بين 35د و100 د. في المقابل ستتحمّل شريحة الأجراء التي يجاوز أجرها الشّهري 3335د ويقلّ عن 4167 د انخفاضا ضئيلا جداّ بنسبة 0.1%. على خلاف ذلك، سيشهد الأجراء الذين يتقاضون 4168 د فما فوق تقلّصا ملموسا في رواتبهم. على سبيل المثال سينخفض الأجر الذي يبلغ 4168 د بـ قرابة 208 د شهريّا. هذه المحاكاة التّقريبيّة للمَفعول المالي لتعديل الضّريبة على الدّخل تعكس أنّ عمليّة التّعديل دون المأمول، وكان من المفترض توسيع شريحة المعفيّين من الضّريبة على الدّخل، على الأقلّ بالنّسبة لأصحاب الأجر الأدنى المضمون في ظلّ تدهور المقدرة الشّرائيّة وإشكالات التزوّد بالموادّ المدعومة. وفي إطار العبارة الرّائجة التي تفيد بأنّ “الدّولة تأخذ باليد اليسرى ما تعطيه باليد اليمنى”، تضمّن مشروع قانون الماليّة مقترح رئيس الجمهوريّة بإحداث “صندوق التّأمين على فقدان مواطن الشّغل لأسباب اقتصادية” سيقع تمويل جزء منه من قبل أجراء القطاع الخاصّ في حدود 0.5%، أي من قبل أصحاب الأجور الدّنيا.
إضافة إلى أنّ هذا التّعديل يعكس غياب المنطق الاقتصادي في تحديد شريحة أصحاب الدّخل المتوسّط ودورها في النّشاط الاقتصادي ككلّ، باعتبار أنّ السّلطة التّنفيذيّة تعتبر من يتقاضى أكثر من 3300 د شهريّا فاعلا اقتصاديّا ثريّا يستوجب التّخفيض من مدخوله، في حين أنّ ذلك الأجر يمثّل الأجر الأدنى للعيش بكرامة في ظلّ الوضع الاقتصادي الحالي. فعليّا ساوت السّلطة التّنفيذيّة بين الشّريحة الوسطى والأثرياء، أي بين من يتقاضى 3300 د وبين من يتقاضى 10000 د فما أكثر، بمعنى آخر سيتحمّل جزءا من متوسّطي الدّخل حصّة من العبء الجبائي يفترض أن يتحمّله الأثرياء. في حين أنّ الشّريحة الاقتصاديّة الوسطى في تونس هي الضّامنة الأساسيّة لهذا الاستقرار الاقتصادي الهشّ عن طريق الاستهلاك والإدّخار في ظلّ تعطّل الاستثمار العامّ والخاصّ وضعف النموّ.
وللتّذكير، يتحمّل الأجراء بمختلف أصنافهم أيضا وزر الضّرائب غير المباشرة المتمثّلة في الأداء على القيمة المضافة والمعلوم على الاستهلاك والمعاليم الديوانيّة على المنتوجات المورّدة المعدّة لاستهلاك الأفراد، علاوة على عدة أداءات أخرى. وكل هذه الأداءات يدفعها المستهلك النّهائي وليس المُنتج. على هذا النّحو، ما بين 70% و80% من العبء الجبائي يقع على كاهل الشّريحة الدّنيا والمتوسّطة، هذا دون الحديث عن العبء الاجتماعي، في الوقت الذي تتبنى فيه الدّولة إقتصاد السّوق لكنّها تضرب المحرّك الأساسي للسّوق. ويظهر المشكل الأصلي وراء كلّ ذلك في ضعف الأجور لا في نسب الاقتطاعات في حدّ ذاتها.
بقدر ما تبدو عمليّة الإصلاح الجبائي الشّامل في إطار الإنصاف الاقتصادي ضروريّة، يتبيّن أنّ مقترح السّلطة في تعديل الضريبة على الدّخل سينتج الوهم الاقتصادي «L’illusion économique» بأنّ الدّولة بصدد إزالة الفوارق الاجتماعيّة وتكريس دولة الرّفاه، في حين أنّ جميع المؤشّرات الرّسميّة للاقتصاد الكلّي (النموّ، البطالة، المديونيّة،…) تفيد بعكس ذلك. ويبدو أنّ هذا الوهم ضروري لاستقرار السّلطة السّياسة وضمان السّلم الاجتماعي، لذلك نعتقد أنّ هذا الإجراء ذو طابع سياسي أكثر منه اقتصادي لكبح جماح الفئات الأكثر تضرّرا من الوضع الاقتصادي والتي لها القدرة على التنظّم والاحتجاج.
[1] بإستثناء القطاع المالي، الإتصالات، التأمين بما في ذلك التأمين التعاوني، قطاع المحروقات في مستوى الإنتاج والتكرير والنقل والتوزيع بالجملة،وكلاء بيع السيارات،المستغلين تحت التسمية الأصلية لتسمية أو لعلامة تجارية أجنبية باستثناء المؤسسات ذات نسبة ادماج تساوي أو تفوق 30%.
[2] مجلّة الضّريبة على الأشخاص الطّبيعيّين والضريبة على الشّركات، مجلّة التّشجيع على الاستثمار، مجلّة الحقوق والإجراءات الجبائيّة، مجلّة التّسجيل والطّابع الجبائي، مجلّة الأداء على القيمة المضافة والمعلوم على الاستهلاك، مجلّة الجباية المحليّة، مجلّة المحاسبة العموميّة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.