بعد الحديث عن احتمال إعلان الطوارئ لمواجهة الكورونا وما أثاره من مخاوف لجهة تقييد الحريات أو العسكرة، حسمت الحكومة خيارها أمس الأحد بأن أعلنت حالة التعبئة العامة. وفيما استندت الحكومة بشكل خاص على المرسوم الإشتراعي رقم 52/1983 والذي يجيز إعلان هذه الحالة “إذا تعرّض الوطن أو جزء من أراضيه أو قطاع من قطاعاته العامة أو مجموعة من السكان للخطر”، فإنها ضمّنت بناءات قرارها إشارة إلى قانون الأمراض المعدية الصادر في 1957.
وبالتدقيق في التدابير المتّخذة، يتبيّن بوضوح أنّ أغلبها يتّصل بقانون 1957 الذي وحده يسمح باتخاذ إجراءات منع التخالط والتجمّع على النحو الذي ورد فيه في ظروف كهذه، فيما أنّ الفائدة في الاستناد إلى قانون 1983 تكمن بشكل خاص في تمكين الدولة من اتخاذ قرارات المصادرة أو الإرغام على أداء خدمات (كما فعلت مع المصارف) عند الإقتضاء. ويبدو أنّ التركيز على هذا القانون الأخير بالذات إنما يهدف إلى ضمان ممارسة هذه الصلاحية التي قد تصبح ملحّة جداً، لا سيّما في حال تفاقم المخاطر الناشئة عن هذا المرض وانتشاره، وبخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة وندرة موارد الدولة. كما قد يكون التركيز عليه هدف إلى ضمان انخراط المجلس الأعلى للدفاع الوطني في جهود معالجة الأزمة.
إلّا أنّه يبقى أنّ ثمة شروطاً شكليّة لصحّة القرارات، أهمها صدورها بمرسوم ينتظر أن يصدر بعد توقيعه في الساعات المقبلة. وهذا ما نصّت عليه صراحة المادة 9 من قانون 1957 لمعالجة الحالات التي يهدّد فيها “وباء بلاد الجمهورية كلّها أو بعضها” أو التي أخذ (الوباء) ينتشر فيها وكانت وسائل الوقاية المحلية غير كافية”، حيث ينيط في هذه الحالة بوزارة الصحة أن تستصدر مرسوماً تعيّن فيه التدابير التي من شأنها أن تحول دون هذا الإنتشار. كما تنصّ هذه المادة على أنّ المرسوم الصادر بهذه الطريقة، يحدد صلاحية كل سلطة أو إدارة من السلطات والإدارات التي يعهد إليها تنفيذ تلك التدابير، كما يبيّن كيفية تأليفها واختصاصها ويمنحها إلى أجل معيّن، السلطة اللازمة للتنفيذ. فضلاً عن ذلك، يشترط تطبيق قانون 1957 على وباء الكورونا، أن يبادر وزير الصحة إلى إضافته إلى لائحة الأمراض المعدية.
الأمر نفسه نتبيّنه في المادة 2 من قانون الدفاع الوطني التي اشترطت إصدار مراسيم لإعلان حالة التعبئة العامة. ومن هذه الزاوية، يبقى قرار مجلس الوزراء معرّضاً للإبطال أو مجرّداً من مفاعيله القانونية في ظل عدم الإلتزام بهذه الشروط الشكلية.
ومع تسجيل الملاحظات الشكلية الأساسية أعلاه، نبدي هنا بعض الملاحظات السريعة على التدابير والضوابط التي نصّ عليها القرار في سياق تصنيفها وعرضها، على أن نلحقها بمجموعة من المتابعات حول آليات تنفيذه في الأيام المقبلة.
- تدابير مقيّدة للتخالط:
من أبرز التدابير المقيّدة على هذا الصعيد، منع التجمّعات في الأماكن العامة والخاصة وإقفال الهيئات العامة والمدارس والجامعات، مع بعض الاستثناءات فضلاً عن الحدّ من إمكانية السفر عبر الحدود (إغلاق المطار والموانئ) ومجالات العمل (إغلاق المؤسسات العامة إلّا بما تقتضيه الضرورة وتعليق عقود العمل في المؤسسات الخاصة إلّا التي لها وظيفة اجتماعية هامّة كالمصارف والمطاحن والأفران… الخ) والتجوّل (إلّا في حالات الضرورة القصوى).
وهذه التدابير تستدعي عدداً من الملاحظات:
- أنّ هذه التدابير تصدر بالمبدأ سنداً لقانون 1957 الذي يولي وزارة الصحة الحقّ بأن تقيم نطاقاً صحيّاً على المكان الموبوء وتمنع الدخول إليه أو الخروج منه والتجمّعات فيه. في المقابل، لا يتضمّن إعلان التعبئة العامة أيّ مادة تسمح بتقييد الحريات على هذا الوجه. ولكن، تقييد الحرية على هذا الوجه يأتي مكمّلاً لإعلان تحوّل المرض الانتقالي في منطقة ما إلى وباء. وعليه، وإذ نستشفّ من الطابع العام للقيود أنّ مجلس الوزراء اعتبر لبنان كلّه بمثابة منطقة معرّضة للوباء، فإن السؤال الذي يطرح بشدّة يتّصل بجميع التجمّعات الأخرى القائمة على ترابه وبخاصة القسّرية منها كتجمّعات السجناء والموقوفين والقاطنين في دور الرعاية، وكلّها حالات لم يذكرها القرار إطلاقاً،
- إذ ينصّ القرار أنّه يعلّق العمل في أغلب مؤسسات القطاع الخاص، فإنّه لا يضع أيّة آلية لضمان حقوق الأجراء أو للتعويض عن فقدان المداخيل. ومن شأن هذا الأمر أن يستتبع أضراراً كبيرة لدى فئات اجتماعية تراهن على مداخيلها اليومية. في المقابل، فإنّ تضمين القرار مسعى لمنح مهل عقدية يؤشر إلى نيّة في تحقيق تكافلٍ معيّن، وبخاصة بين مستأجري الأماكن غير السكنية ومالكيها أو أيضاً بما يتّصل بالديون والفوائد المترتبة عليها،
- علّق القرار السماح للبنانيين وأفراد عائلاتهم وحاملي بطاقات الإقامة في لبنان، بدخول الأراضي اللبنانية حتى 18 آذار 2020 على أن يكونوا غير مصابين بالفيروس. وهذا أمر يجافي حق جميع اللبنانيين في العودة إلى بلدهم، على أن يخضعوا لتدابير العزل أو الحجر الصحي عند الضرورة.
- تدابير لضمان الخدمات الضرروية في إطار التعبئة العامة:
هنا نتبيّن بشكل خاص فائدة الإستناد إلى قانون الدفاع الوطني كما سبق بيانه. والمقصود هنا ليس فقط ضمان جهوزية المرافق العامة في تأمين الحاجات التي تستلزمها الأزمة، إنما بشكل خاص ضمان إنخراط القوى والقطاعات الإجتماعية كافة في معالجتها كلّما بدا ذلك ضرورياً. ومن أبرز تجلّيات هذا التطبيق، هو إلزام مصرف لبنان والمصارف وشركات ومؤسسات تحويل وتوزيع الأموال ومؤسسات الصيرفة فتح أبوابها، ولو بالحد الأدنى المطلوب لتأمين مقتضيات تسيير العمل فيها “يومياً” (العبارة وردت ضمن النص تجنّباً لأيّ التفاف حولها من خلال فتح الفروع لأيام محدودة فقط). وندرك أهمية هذا التدبير على ضوء الموقف الذي كانت أعلنته جمعية المصارف قبل اجتماع مجلس الوزراء والذي تمثل في إقفال جميع فروع المصارف حتى آخر شهر آذار. وفيما أوحى هذا القرار بمسعى من المصارف للتهرّب من مسؤولياتها كما درجت عليه منذ بدء الأزمة المالية، أتى قرار مجلس الوزراء ليمنعها من ذلك، وإن عادت لتعلن بخلاف القرار نيّة في إغلاق جميع فروعها ليوم واحد. ومن البيّن أنّ مخالفات كهذه تستتبع من حيث المبدأ ملاحقات قد تصل إلى سنة حبس.
وبالطبع، لا تقتصر إمكانية فرض الخدمات على المصارف إنما تشمل أيضاً عدداً من القطاعات التموينية أو الطبية أو النفطية، والتي قد تضطر الدولة إلى وضع اليد عليها في إطار معالجة الأزمة.
ومع أهمية هذا التوجّه، يبقى أنّ القرار لزم الصمت بشأن خدمات عامة أساسية وبخاصة في ظل هذه الأزمة، تاركاً لكلّ إدارة تحديد ضرورات العمل فيها والتي يستوجب ضمان استمرارها. ومن أهم الضرورات التي كان يجدر ذكرها، واجب القضاة في معالجة قضايا الموقوفين (تمّ استلحاق هذا الأمر من خلال مجموعة من الإجراءات اللاحقة صدرت اليوم عن وزارة العدل والنيابة العامة التمييزية)، وأيضاً واجب المساعدين الاجتماعيين والمراقبين لدى وزارة الشؤون الاجتماعية ومؤسسات الرعاية فيما يتّصل بالمودعين فيها، وعددهم بالآلاف، طالما أنّ هذه الفئات تبقى معرّضة، بفعل تجمّعها، لخطر انتشار الوباء.
هذه هي أبرز الملاحظات على القرار. يضاف إليها تكليف وزارة الإعلام بالتنسيق مع وسائل الإعلام بشأن البرامج والتحقيقات المتعلقة بفيروس الكورونا، وأيضا تكليف وزارة العدل بإعداد النصوص اللازمة لتعليق المهل القانونية والقضائية والإدارية والعقدية اعتباراً من 18/10/2019، وهو أمر لا يمكن إقراره إلّا بقانون. ويؤمل أن ينتهي التكليف الأخير إلى تحقيق نوع من التوازن في العلاقات التعاقدية المختلفة بنتيجة الأزمة، ليس فقط أزمة الكورونا، بل الأزمة في أوجهها كافة، المالية والإقتصادية والسياسية، وفق ما سبق بيانه. فلنتابع…