تعاون بين جامعة القديس يوسف والهيئة الوطنية للمخفيين قسرًا: لمواجهة نهج المحو والنكران


2025-04-11    |   

تعاون بين جامعة القديس يوسف والهيئة الوطنية للمخفيين قسرًا: لمواجهة نهج المحو والنكران
من إحياء اليوم العالمي للمفقودين والمخفيين قسرا في الإسكوا- المصدر الوكالة الوطنية

“صرلي 50 سنة ناطرة خبر عن البابا لي انفقد بأوّل الحرب الأهلية، بعرف ما رح إقدر شوفو لأن ما معقول بعده عايش، بس حقنا نعملّه قدّاس قبل ما تتوفّى الماما، على القليلة شي من رفاته”، بهذه الكلمات اختصرت ابنة أحد المخفيين قسرًا معاناتها وعائلتها المستمرّة منذ خمسين عامًا. وقفت السيّدة التي جاءت لحضور ندوة نظمتها جامعة القديس يوسف في بيروت نهار الثلاثاء 8 نيسان بمناسبة مرور 50 عامًا على انتهاء الحرب الأهلية، لتمنح المشهد إنسانيته، ولتذكّر بأنّ أهالي المفقودين يكبرون ويموتون وبموتهم تضيع أجزاء من تفاصيل قصصهم ويندثر جزء من الحقيقة.

الندوة التي جاءت تحت عنوان “قضية المفقودين وذاكرة الحرب النافرة، أي دور للهيئة الوطنية للمخفيين قسرًا”، عرض ناقش خلالها المشاركون والمشاركات مفاهيم عدّة منها: أهمية الذاكرة وعناد النسيان كضرورة للإبقاء على القضية واستمرارها، مرورًا بقانون العفو العام وما تبعه من محاولات لطي صفحة المفقودين والمخفيين قسرًا من دون أي مصارحة ومصالحة مع الأهالي وصولًا إلى العدالة الانتقالية المفقودة. كذلك تمّ سرد أبرز المراحل والمحطات النضالية التي خاضها الأهالي منذ العام 1991 وصولًا إلى إقرار القانون 105/2018 الذي أنشئت بموجبه “الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا”، كذلك كان عرض لأبرز مهام الهيئة وصلاحياتها التي يمنحها لها القانون وأبرز العقبات التي تواجهها.

خلال الندوة وقّع رئيس الجامعة الأب الدكتور سليم دكاش اتفاقية تعاون مع “رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا بالإنابة” زياد عاشور. وأوضحت كارمن أبو جودة، أستاذة محاضرة في معهد العلوم السياسية والعضو في الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا، أنّ الاتفاقية ستتيح الفرصة للطلاب للعمل على أبحاث متعلّقة بقضية المفقودين، وتساعد الهيئة من خلال توفير تقنيات وفنيات وموارد بشرية لجمع المعلومات وفهم السياق التاريخي. وأضافت أنّ الاتفاقية تسري على جميع تخصّصات وكلّيات الجامعة التي لديها ارتباط مباشر بقضية المفقودين. وقال الأب دكاش إنّ الجامعة التي تبلغ الـ 150 عامًا هذه السنة، هي جامعة متمرّدة دائمًا على كلّ ظلم”، آملًا أن يفضي التعاون إلى كشف جزء من الحقيقة. وقد بكى الأب دكاش في مستهلّ كلمته وهو يعلن أنّ خالته هي واحدة من المفقودين في نهاية الحرب الأهلية (احداث بيت مري في العام ١٩٩٠) وأنه لا يزال يبحث عنها حتى اليوم.    

زياد عاشور بدوره قال إنّ إقرار القانون 2018/105، وتشكيل الهيئة، كانا من نتائج الزخم والنضال الشعبي، مطالبًا المجتمع المدني والأكاديمي بالاستمرار في إعطاء قضية المفقودين والمخفيين قسرًا الأهمية والأولوية. واعتبر أنّ هذا الزخم يجب أن يستمر لأنّ لا فعالية للقانون ولا الهيئة من دونه. 

والهيئة هي هيئة مستقلة ماليًا وإداريًا لا وجود لسلطة وصاية عليها، مهمّتها العمل على تقفّي أثر المفقودين، وحماية المقابر الجماعية واكتشافها، وتتولّى جمع المعلومات واتخاذ إجراءات وقائية كي لا تتكرر المأساة.

وجدد عاشور التوضيح أنّ هدف الهيئة ليس المحاسبة بل الكشف عن مصير المفقودين، مطمئنًا الأحزاب والأفراد الذين شاركوا في الحرب والجهات الرسمية المختصة منها اللجان التي تمتلك بيانات عن المخفيين قسرًا، إلى حرص الهيئة على حماية البيانات. وقال إنّ مهمّة الكشف عن مصير المفقودين هي من أصعب المهام الملقاة على عاتق الهيئة كي لا تفقد مصداقيتها وبالتالي رهانها هو على تعاون المعنيين وتبادل المعلومات. 

توقيع التعاون بين جامعة القديس يوسف والهيئة الوطنية للمخفيين قسرًا

40 عامًا من الانتظار

“بتعيشي حياة بكاملها وإنت منتظرة حدا ما بتعرفي ولا معلومة عنه، أول الشي الأمل بيكون كبير وبيبلّش يخف شوي شوي، بس ما بتنسي”، تقول لينا جدع ابنة المفقود كمال جدع. وتضيف في اتصال مع “المفكرة” أنّها ما زالت تنتظر خبرًا عن والدها الذي فقد في تاريخ 19-8-1985، تاريخ حفر عميقًا في نفسها كونه تاريخ ولادة مأسي العائلة وولادة جراح والدتها التي تجاوزت اليوم الخامسة والثمانين من عمرها. أربعون عامًا مرّت، اختبرت خلالها هي ووالدتها وأخوتها الثلاث مشاعر التيه والانتظار والظلم.

تروي لينا أنّ والدها وابن عمّها سمعان جدع قد اختطفا من منطقة قصقص بينما كانا عائدين من مقرّ عملها في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت إلى منزلهما في عين الرمانة، وكانت برفقتهما زميلتهما في العمل التي أطلق سراحها الخاطفون وعادت لتبلغ العائلة بما حدث، مؤكدةً أنّهما لم يكونا ينتميان إلى أي فصيل سياسي وأنّ ابن عمها متطوّع في الصليب الأحمر اللبناني.

تتابع لينا أنّه ومع وصولهما إلى إحدى نقاط التفتيش في منطقة قصص، طلب الخاطفون من زميلة والدها الترجّل والابتعاد فيما أخذوا والدها وابن عمّها واقتادوهما إلى جهة مجهولة. تروي لينا التي كانت في ذلك الوقت في العشرين من عمرها أنّه في ذلك صباح يوم الاختطاف، وقع انفجار في منطقة كركول الدروز وبدأت على اثرها عمليات الخطف حيث فقد حينها أكثر من أربعين شخصًا، وكان ابنها عمها سمعان من بين المسعفين الذين ساعدوا في إنقاذ المصابين من جراء التفجير.

تتابع لينا أنّه منذ تلك اللحظة انقلبت حياتها راسًا على عقب، وفور معرفتهم بالخبر بدأت والدتها وعمها اتصالاتهما، لكن المسألة كانت صعبة ومعقّدة بخاصة لأنهما لا ينتميان لجهة سياسية يمكن أن تسهّل معرفة أسباب الخطف أو الجهة الخاطفة.

وتضيف أنّه قبل سقوط نظام الأسد كان الأمل بالعثور عليهم أكبر، “كنا نقول إنّه هون بلبنان خلص ما في حدا بالسجون، طب بلكي في حدا بالسجون السورية اليوم كمان ما طلع في حدا عايش هونيك، بعد في المقابر جماعية، هني لي بالحكم بيعرفوا وين دافنين العالم”. وتتابع أنّه لو أنّ والدها ما زال اليوم على قيد الحياة فسيكون في التسعين من عمره: “الواحد بدو يكون عقلاني ويتقبل الواقع، بس بيحقّلنا نعرف وين مدفونين، بيحقّلنا نحصل على رفات”. أما ابن عمها فتوفي والده قبل العثور عليه…

وتنتقد لينا تعاطي الجهات المعنية مع ملف المفقودين واصفة إياه بأنه مسار مبني على  “التلكّؤ والتطنيش”، “ما حدا اتطلّع فينا، لبعد كذا سنة لطلّعولنا قانون”. 

بين اعتباطية العفو وعناد الذاكرة 

خلال الندوة التي أدارها الخبير الدستوري، الدكتور وسام اللحام، تحدثت البروفيسور رولا أبي حبيب خوري، مديرة مركز الدراسات في العالم العربي الحديث CEMAM، ومديرة أكاديمية التدريب على المواطنة في جامعة القديس يوسف، عن معاني الحضور والغياب والنسيان وأهمية الذاكرة الشفهية، واستندت في كلمتها إلى عدد من الكتاب وعلماء اجتماع الذين تحدثوا عن وقائع اختطاف، منهم الكاتبة الراحلة ايتيل عدنان مؤلفة رواية “ست ماري روز” التي تتحدث عن اختطاف وتصفية ماري روز بولس عام 1976، حيث تقول الكاتبة إنّ “أقصى تجليات العنف في الحرب اللبنانية لم تتمثل في سعي الأطراف المتنازعة إلى تحقيق النصر بمعناه التقليدي بل في النزوع إلى الإبادة المتبادلة، وتمثل ذلك ليس فقط في إقصاء الآخر بل في محو أثره بالكامل، إلى حد إنكار أنّه كان حاضرًا يومًا ما في هذا الفضاء التاريخي والاجتماعي”، وتستشهد عدنان بعبارة “بحسب الله ما خلقك” التي  كانت تستخدم في سياق الحرب والتي تختزل برأيها “معاني الإبادة واجتثاث الآخر من الوجود”.

ولفتت أبي حبيب في كلمتها إلى أنّه في مجتمعاتنا المعاصرة إمّا أن يعامل الإنسان ككائن فريد من الناحية البيولوجية والاجتماعية، من خلال بصمة إصبع، أو بصمة عينه ومسار حياته بحيث يجعله كائنًا غير قابل للاستبدال أو التعويض في حال اختفائه، وإما أن يعامل كرقم يسهل الاستغناء عنه. برأيها يدفع فعل الاختطاف والاخفاء القسري إلى النظر إلى الإنسان ككائن مجرّد من وضعه الإنساني والاجتماعي والقانوني ليكون إنسانًا “قابلًا للرمي”.

من جهة ثانية تطرقت أبي حبيب إلى صلات المخطوف الاجتماعية (الأهل، الأصدقاء، الحبيب)، شارحةً أنّ الخاطف يعمل على تطويع الرابط الاجتماعي للمخطوف وتفريغه من معناه وإعادة توظيفه لخدمة لعبة السيطرة والرعب، ويتحوّل فعل الاختطاف إلى سلطة وتسلّط على الأجساد فيبقيها معلقة، لا هي متوفاة رسميًا ولا هي حيّة رسميًا، بل هي وجود مفترض محروم من أي وضع قانوني يرخي بثقله على الأحياء.

وانتقدت أبي حبيب في كلمتها تغييب المخفيين قسرًا من السردية الرسمية بعد إقرار قوانين العفو العام “الاعتباطية” التي أعلن بموجبها بدء مرحلة النسيان وإنجاز المسامحة بشكل سحري. 

وشددت أبي حبيب على أهمية الذاكرة كمكوّن أساسي للهوية والتاريخ، والتي اتخذت لدى ذوي المخفيين شكل  المقاومة من خلال “الحداد المعلّق” وشكل البحث في الماضي لتفسير الحاضر.

واعتبرت أبي حبيب أنّ عدم اكتراث الدولة بالعمل على الذاكرة وتطبيق العدالة الانتقالية يضع على عاتق الهيئة الوطنية حملًا ثقيلًا يتمثل بالعمل مع الأطراف المسؤولة عن اختفاء أعداد من اللبنانيين ومسؤولية إيجاد الوسيلة الأنجع للوصول إلى كشف مصير المخفيين.

خلال النقاش أثار المعتقل المحرر من السجون السورية في العام 2000، ورئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، علي أبو دهن، قضية إهمال الدولة للمعتقلين المحرّرين من السجون السورية، من خلال عدم منحهم التعويضات اللازمة وتوفير فرص عمل لهم  في المؤسسات الحكومية أسوةً بالمعتقلين المحررين من السجون الإسرائيلية، على اعتبار أنّ الجميع كانوا يحاربون ويناضلون من أجل “دحر المحتل” على حد قوله. 

نضال الأهالي ومسار الوصول للقانون 105/2018

بدورها ركزت كارمن أبو جودة في كلمتها على السياق التاريخي والسياسي الذي جرت فيه حالات الخطف والإخفاء في لبنان، شارحةً المسار الذي أدى إلى تبنّي القانون 105/2018 وتشكيل الهيئة الوطنية المفقودين والمخفيين قسرًا في العام 2020. واعتبرت أنّ جميع القوى المتنازعة والمتحاربة في الحرب اللبنانية والدولية التي جرت منذ العام 1975، مارست أعمال الخطف والخطف المضاد كسلاح للقتل والترهيب، مضيفة أنّ أكثرية المفقودين اليوم هم من المدنيين حيث قامت الميليشيات بتبادل مختطَفيها أما من ليس له مرجع وسند فلم يعرف مصيره.

وأضافت أبو جودة أنّ العائلات في لبنان عانت كثيرًا لمعرفة مصير أبنائها، دقّت الأبواب وتعرّضت للابتزاز، وتعرّضت النساء، كون أغلبية المفقودين من الرجال، لظروف قاسية وعنف بهدف دفعها للتوقف عن التفتيش عن مفقوديها، عدا عن المشاعر المتناقضة كفقدان الأمل والشعور بالذنب والفقدان الملتبس الذي يمنع الكثير من العائلات من إعلان وفاة المفقود والحداد عليه عدا عن الصعوبات المادية والقانونية التي جعلت شروط العيش الكريم أصعب في ظلّ الحرب والتهجير .

واعتبرت أنّه مع انتهاء الحرب اللبنانية في أواخر 1990 انتهجت الحكومات المتعاقبة ثقافة الإفلات من العقاب وسياسة النسيان ومحو الذاكرة والنكران، وتبنّى المجلس النيابي قانون العفو العام الذي عفا عن جرائم الحرب مع استثناء الجرائم المرتكبة ضد القيادات السياسية والدينية. وأضافت أنّ قانون العفو العام كان غير مشروط ولم يتضمّن أي اقتراح أو إشارة إلى آليات وإجراءات مكمّلة تعوّض عن غياب المحاسبة الجنائية كمبادرات المصارحة والمصالحة أو الاعتذارات العلنية.

وأضافت أنّ تسوية الطائف والعفو العام والوصاية السورية لم تلحظ الضحايا وحقوقهم، في حين لحظت فقط ملف المهجرين، ولم تفض إلى مصالحات حقيقية بل إلى صلح بين قيادات حزبية ودينية من دون معالجة عميقة تضع الضحايا على سلّم الأولويات، ولم تكن العدالة الانتقالية جزءًا من التسوية.

استمر الأهالي بالنضال لمعرفة مصير أبنائهم متحدّين النسيان الرسمي والمجتمعي. وفي العام 1999 انطلقت حملة “من حقنا نعرف” لتشكّل أوّل لجنة رسمية لتقصّي الحقائق حول المفقودين عام 2000 والتي صدر عنها تقرير يفيد أنّ الجثث التي أسفرت عنها عمليات التصفية الجسدية المتبادلة بين كافة المنظمات والميليشيات ألقيت في أماكن مختلفة في بيروت والبقاع وجبل لبنان والشمال والجنوب. وعدّدت ثلاث مقابر جماعية هي “مدافن الشهداء في منطقة حرش بيروت، مدافن مار متر في الأشرفية ومدافن الإنكليز في التحويطة ، فيما تمّ رمي بعض الجثث في البحر”

تكمل أبو جودة أنّه في عام 2001 تمّ الإفراج عن 54 معتقلًا لبنانيًا وفلسطينيًا من السجون السورية (منهم من كان في عداد المفقودين) وشكلت الحكومة اللبنانية برئاسة رفيق الحريري لجنة تحقيق ثانية “هيئة تلقي شكاوى أهالي المخطوفين”، التي لم تعط إجابة شافية للأهالي.

وبعد خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان العام 2005 اعتصم الأهالي، وشكّل مجلس الوزراء برئاسة نجيب ميقاتي “لجنة متابعة قضية المفقودين والمعتقلين في السجون السورية” اجتمعت اللجنة ولم تعلن أي تقرير.

في العام 2011 تمت صياغة مشروع قانون من قبل المحامي نزار صاغية خلال مسار تشاركي شاركت فيه 17 منظمة غير حكومية في لبنان وذلك بعد زيارة إلى البوسنة في صيف 2010 قام بها وفد لبناني للاطّلاع على الأعمال التي قامت به هيئة الأشخاص المفقودين في البوسنة.

وفي العام 2018 أقرّ مجلس النوّاب القانون رقم 105 الذي ينطلق من مقاربة العدالة الانتقالية وتمّ إنشاء الهيئة الوطنية  المفقودين والمخفيين قسرًا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

اختفاء قسري ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني