“
لم يمض وقتٌ طويل على خروج طلّاب الجامعة اللبنانيّة من الشارع بعد أكثر من 50 يوماً من الإضراب للمطالبة بحقوق الطلاّب والأساتذة، حتّى أتت الإنتفاضة الشعبيّة ليُسجل طلاب الجامعات ومن بينهم طلاب الجامعة اللبنانيّة تحديدا، مشاركة فعّالة في الساحات، مستمكلين انتفاضة تلامذة المدارس والطلّاب التي بدأت منذ يومين بغض النظر عن قرارات الإدارة وتهديداتها في أكثر من مكان. قرّرهؤلاء النزول إلى الشارع وإلى وزارة التربيّة وإلى ساحات الصروح التعليميّة للتأكيد على دورهم في الإنتفاضة، وفي أي تغيير مقبل.
وفي ظلّ الانتفاضة التي كسرت حواجز لم يتخيّل أحد إمكانيّة كسرها قريبا، اختار طلّاب مجمع الجامعة اللبنانية في الحدت أن يكسروا بدورهم حواجز داخليّة ضمن الجامعة، فامتلأت ساحة ليبان بوست ودرجها، عند العاشرة والنصف من صباح يوم الخميس في 7 تشرين الثاني، بعدد كبير من الطلّاب الذين أضربوا عن حضور صفوفهم من أجل بناء جامعتهم. تجاوز مشهد الحشود التي تجمّعت على مرأى من مخابرات الجيش والقوى الأمنيّة ومجالس طلّاب الفروع (التابعة لأحزاب السلطة)، ما كُرس لسنوات خطوطاً حمراء في الجامعة، حتّى تبقى الجامعة اللبنانيّة وحدها “الخطّ الأحمر” بحسب هتافاتهم.
ليست تحركات طلاب الجامعة اللبنانية اليوم وليدة الإنتفاضة الشعبيّة فقط، إنما هي نتيجة تراكميّة لتجارب عديدة من ناحية إنشاء الأندية وتشكيل جسم طلّابي يطرح القضايا المطلبية المحقة للطلاب التي عجزت المجالس الطلابية عن حملها كونها خاضعة لسيطرة أحزاب السلطة. كذلك، برزت إنتفاضة الطلاب في وجه التعيينات الحزبية للمجالس الطلّابيّة حيث طالبوا بإجراء انتخابات طلابية حقة تسمح بتمثيلهم فعلياً رافضين القانون المقترح للإنتخابات. لذا ظهرت نتيجة العمل التراكميّ أيضاً في إضراب الجامعة الأخير بحيث كان للطلّاب دوراً أساسيّاً في الدفاع عن حقوق أساتذتهم ورفع سقف المطالب (طرح موضوع ميزانيّة الجامعة والإنتخابات الطلابية والسكن الطلّابي)، وفي طرح أنفسهم كشركاء في مناقشة المواضيع التي تخصّ جامعتهم ومؤثّرين في القرارات الصادرة عنها. ولا يتوقّف دور الطلّاب في الجامعة اللبنانية فقط، بل يتعدّاه للتعاون مع طلّاب جامعات خاصّة، محاولين بذلك العمل على إعادة تشكيل حركة طلّابية مستقلّة على مستوى لبنان. ومشاركة طلّاب اللبنانيّة من جميع الفروع في انتفاضة الشعب في الساحات (وإنشاء خيمة للنقاشات بين الطلاب والأساتذة) وفي جامعتهم (تظاهرات في الفروع لإعادة إضراب الجامعة) هي ليست إلا تراكما لعمل سنوات في محاولة الوقوف في وجه تدخلات أحزاب السلطة في الجامعة.
“أجمل جهنّم” في حياة الطلّاب
جاء طلّاب اللبنانيّة، الذين مُنع الإعلام من تغطية تحرّكهم هذا (سُمح لقناة تلفزيونية واحدة بالدخول بعد ساعتين من بدء التظاهرة)، ليرفعوا صوتا موحّدا يطالب ب”علم، حرّية، عدالة اجتماعيّة”. لم يعلن الطلاب عن مطالبهم ببيان أو كلمة علنيّة محضّرة، بل حملت شعاراتهم ولافتاتهم وهتافاتهم تلك المطالب بصورة عفويّة، تشبه الإنتفاضة التي تنضوي تحتها هذه التظاهرة. طالبت لافتاتهم بـ”منح جامعيّة تتيج للطالب متابعة تعليمه العاليّ في لبنان والخارج”، وبـ”إعادة تفعيل دور الجامعة كمؤسّسة لإنتاج وممارسة وتعليم البحث العلميّ وتزويدها بالمختبرات والموازنات الدائمة”، وبـ”إسقاط حسابات التوازن الطائقيّ مقابل حقّ أساتذتنا”.
تستقبل الجامعة اللبنانيّة أعدادا كبيرة من طلّاب الطبقات الوسطى والفقيرة، ويعانون في الجامعة (وفرع الحدت تحديدا) من ضغوطات كبيرة وإحباطات على مستوى منهج التعليم، والحسابات الطائفيّة، وسيطرة أحزاب السلطة على القرارات هناك، ومشاكل في السكن الجامعيّ، وفي البنى التحتيّة للجامعة. وبالرغم من ذلك لا يضيّع الطلّاب أيّ فرصة لمحاولة المحافظة على جامعتهم الوطنيّة من إهمال الدولة واستغلال أحزابها، ويصف الطلّاب علاقتهم الجدليّة بجامعتهم بلافتات رفعوها: “الجامعة اللبنانيّة أجمل جهنّم بحياتي”.
ثورة على حيتان المال والتجّار في الجامعة وخارجها
يحاسب طلّاب فرع الحدت “حيتان المال” في وطنهم وفي جامعتهم، ف”رياض سلامة حرامي” و”فؤاد أيّوب حرامي” (وهو رئيس الجامعة الحاليّ) كانا الهتافيّن الأكثر تردادا على ألسنة الطلّاب المتظاهرين. أمّا مكتب ليبان بوست الذي اختار الطلاب التظاهر قربه، فهو أحد أهمّ حيتان المال الذي يعاني منه جميع الطلّاب من دون استثناء وبشكل ملموس. ويظهر هذا حين يشارك الطلاب الواقفون على حياد من التظاهر في هتاف وحيد مع الطلاب الآخرين وهو “ليبان بوست حرامي”. وتذكّر الطلاب سويّة ما يتعرّضون له من قبل ليبان بوست، الذي “يسرق” خمسة آلاف ليرة عن كلّ طلب تسجيل يقدّم من أيّ طالب ويعطي صورة تذكاريّة عن منطقة أثرية في لبنان مقابل المبلغ. وردّا على ما ذُكر في مشروع ميزانيّة الدولة عن خصم 20 مليون ليرة من ميزانيّة الجامعة اللبنانيّة، يهتف الطلّاب: “عجز الدولة ما بينسد من الجامعة اللبنانية” مطالبين باسترجاع المال المنهوب من “جيوب الحراميّي”.
تكثر قصص “الوسايط” في امتحانات الدخول للكليّات وفي امتحانات الإختصاص، وفي الحصول على سكن طلابيّ وغيرها، وهذا ما يعاني منه الطلّاب في اللبنانيّة ويضطرون للرضوخ إليه في بعض الأحيان. يعرف معظم الطلّاب سيطرة “الواسطة” على جامعتهم، واستغلال الجامعة كمكان للصراع على النفوذ السياسيّ. ولذلك أطلقوا الصوت عاليا: “وسايط وسايط جامعتنا كلّها وسايط” و”يا للعار يا للعار/جامعتكن جامعة تجار”.
لا ينفصل ما يعاني طلّاب اللبنانيّة منه في فرع الحدت تحديدا، عن ما يعاني منه الناس على صعيد الدولة، وخاصّة أنّ ما يشغل جميع الطلّاب هو مستقبلهم وفرص العمل المتوفّرة في لبنان. وهنا يعبّر الطلّاب عن رؤيتهم لمستقبلهم: فترفع إحدى الطالبات لافتة: “شو نفع العلم بلا حلم”، أمّا طلّاب كليّة الفنون والعمارة فحملوا لوحا حديديّا على أنّه نعش (يمثّل الجامعة) وفيه “هنا ترقد أحلام الشباب اللبنانيّ”، وسخروا من الشهادة التي تمنحها الجامعة بأغنيّة: “ورقة الشهادة ما إلها عازة، بِلّها بشاي..”. وعلى المقلب الآخر، يتحمّس الطلّاب للبقاء في الجامعة وتحسين وضعها عبر طلب ميزانيّة عادلة، واستقلاليّة عن الإعتبارات السياسيّة. وطالبوا بمراكز أبحاث تحسّن المناهج التعليميّة، وبانتخابات طلّابيّة غائبة منذ سنوات عديدة، وبكافيتريا لائقة. لن يدفع الطلّاب “سمسارات” أحزاب السلطة التي يتاجر أصحابها بجامعتهم حسب ما يهتفون، لذلك لن يتخلّوا عن جامعتهم التي يريدونها وطنيّة فقط: “بدنا نحسّن هيدي الجامعة، بدنا تضلّ”.
طلّاب اللبنانيّة جيل “فرج الله حنين”
يتابع طلّاب اللبنانيّة الذين انتفضوا في حرم جامعتهم على سلطتي الجامعة والدولة مسيرة نضال فرج الله حنين، وهو طالب استشهد في مظاهرات طالبت بجامعة لبنانيّة واحدة للجميع، فتردّد شعارهم، والذي انتقل إلى ساحة رياض الصلح مساء اليوم ذاته: “جامعة لبنان فرج الله حنين”. يرتبط هذا الاسم بتحرّكات طلّاب اللبنانيّة وخاصّة في إضرابهم السابق للمطالبة بحقوقهم وحقوق أساتذتهم، ويعود الطلّاب ليذّكروا الجميع: اشهدي اشهدي يا بيروت/صوت الطالب ما بموت/واشهد اشهد يا لبنان/نحنا جيل فرج الله حنين”.
لا يناضل الطلّاب من أجل استقلاليّة ووطنيّة جامعتهم فقط، بل يصرخون “ثورة” على الطائفيّة والذكوريّة والعنصريّة أمام جميع طلّاب الجامعة وأساتذتها ومجالس فروعها الواقفين أمام التظاهرة يتفرّجون عليهم. ويطالبون بإسقاط رأس المال وباسترداد أموالهم المنهوبة من الجامعة والدولة: “مش فالّين على البيت، حتّى نردّ المصريات”.
هم يطالبون بحقوقهم وحقوق أساتذهم وزملائهم، لذلك يدعون الأساتذة بمساندتهم في نضالهم وإضرابهم: “وينك وينك يا دكتور، طلّابك كرمال حقوقك عم بتثور”. وفي مسيرة حاشدة جالت على جميع كليّات الجامعة، خاطب الطلّاب زملاءهم في الصفوف أو المختبرات التي ما زالت خائفة أو مبتعدة عن المشاركة في الانتفاضة مغنّين: “هيلا هيلا هيلا هو انزل من صفك يا حلو”.
مشهد صباح الخميس هو أوّل مواجهة طلابية لسلطة الجامعة والأحزاب من داخل الجامعة، ربح فيها الطلّاب بعد كسر خطوطا حمراء، وإثبات حضورهم على طريق نضاليّة طويلة في مواجهة السيطرة الكبرى للسلطة السياسيّة والطائفيّة والرأسماليّة على المسار التعليميّ والمناهج ومستقبل الطلّاب.
“