في 23 مايو الماضي، فوجئ مُستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي بنشر فيديو صادم تظهر فيه فتاة في سن المراهقة اسمها منة عبد العزيز، تتهم أشخاصًا حددتهم بالاعتداء عليها واغتصابها وتصوير تلك الجريمة لإذلالها. مشاهدة آثار التعذيب الواضح على منة ودموعها المنهمرة وهي تطالب بحقها أثار غضب الكثيرين وقد تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي الفيديو تحت وسم بعنوان # حق منة عبد العزيز. وفي نفس اليوم نُشر فيديو آخر لفتاة تدعى شيماء شاكر توعدت فيه منة بمزيد من الاعتداء والتشهير إذا لم تتراجع عن اتهامها بتعرضها للإغتصاب. وبعد عدة أيام ظهرت منة بفيديو جديد مع الشخص المتهم بالاغتصاب وهي تنكر اتهامها له بالاغتصاب في الفيديو السابق وترجع السبب في ذلك لمحاولة بعض الأصدقاء للإيقاع بينهما، ما بدا أنه تراجع اضطراري للفتاة بعد التهديدات والضغوط التي مُورست ضدها. وفي 28 مايو أصدرت النيابة العامة بيانا أعلنت فيه “أن الإدارة العامة لمباحث الجيزة قد توصلت تحرياتها إلى أن المتهمين قد ارتكبوا جرائم منها واقعة التعدي على المتهمة منة عبد العزيز” وأمرت بضبط المتهمة “منة عبد العزيز” وستة آخرين للتحقيق معهم”.
كيف تعاملت السلطات مع شكوى منة في جريمة الاغتصاب؟
عقب تناقل تفاصيل الإعتداء على منة عبر الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، ترقب الجميع دور السلطات المصرية في تحقيق تلك الشكوى الخطيرة المتعلقة بالإغتصاب وسماع شهادة منة كناجية من جريمة عنف جنسي. ولكن جاء بيان النيابة العامة في28 مايو صادما حينما وصف منة عبد العزيز “بالمتهمة”. لم تركز النيابة العامة جهودها لتحقيق شكوى تعرض منة للاغتصاب كونها الجريمة موضوع الشكوى، ولكنها بجانب التحقيق في هذه الواقعة، وجهت لمنة تهمة التحريض على نشر الفسق والفجور بسبب محتوى قناتها على تطبيق “التيك توك”. وعلى فرض أن محتوى قناة منة على تطبيق التيك توك يشكل إحدى الجرائم المعاقب عليها قانونا، فما علاقة بحث هذا المحتوى أثناء تحقيق شكوى منة لتعرضها لجريمة الاغتصاب أو بدفاع باقي المتهمين في واقعة الاغتصاب؟ ولماذا تطرقت تحقيقات النيابة العامة لبحث هذا المحتوى حتى قبل إنتهاء تحقيقات النيابة العامة وتصرفها في واقعة الإغتصاب؟ وعوضا عن تناول بيان النيابة العامة لخطورة جريمة العنف الجنسي والاغتصاب على النساء ودور المجتمع والدولة في التصدي له كجريمة عنف خطيرة تهدد سلامة وحياة النساء، وجهت النيابة العامة خطابا أبويا أخلاقيا للمواطنين انطلاقا من اعتبارها تلك الجرائم أخلاقية بالأساس وليست جرائم عنف، “وناشدت الأهل حسن القيام بواجبهم تجاه أبنائهم وإعانة المؤسسات التعليمية والدينية والرسمية في تربيتهم التربية السليمة”.
وفي 30 مايو، أصدرت النيابة العامة بيانا تفصيليا ذكرت في صدره أن “النيابة العامة قد آثرت عدم الإفصاح عن تفصيلات الوقائع التي أقر بها المتهمون ورأت تقديم سترها عن الإعلان عنها”. ولكن بالرغم من ذلك أورد البيان تفصيليا حدوث أكثر من اعتداء وبأكثر من طريقة. فقد ذكر البيان أن “من المتهمين من واقعها كرها عنها… ومنهم من هتك عرضها بالقوة والتهديد”، في إشارة واضحة لأسلوب الإعتداء الجنسي وفقا لمفهوم جريمة الاغتصاب في قانون العقوبات المصري والذي لا يعتدّ بوقوع الإغتصاب إلا “بالشكل الطبيعي” بينما يُعتبر الإغتصاب “غير الطبيعي”- وفقا لتعريفات محكمة النقض المصرية – جريمة هتك عرض لا اغتصاب. وكانت النيابة العامة في غنى عن تفصيل تلك الوقائع خاصة في بيان يحمل إسم طفلة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها وما قد يترتب على هذا التفصيل من آثار اجتماعية ونفسية قاسية عليها وعلى ذويها.
إن ذكر بيان النيابة العامة منذ اللحظة الأولى لأطراف واقعة الاغتصاب بما فيهم المجني عليها منة بصيغة الجمع في أمر ضبط ”جميع المتهمين”، ساهم في تكوين انطباع لدى غير المتخصصين والعاملين بالمجال القانوني يوحي وكأن هناك تساويا في المراكز القانونية بين منة كمجني عليها وبين باقي المتهمين في واقعة الاغتصاب، أو على الأقل أنها تحمل ضمنيا جزءاً من مسؤولية ما حدث لها. وهو الإنطباع الذي عبر عنه بالفعل العديد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي عبر تعليقاتهم وتدويناتهم التي استغرقت في النقاش حول محتوى قناتها على تطبيق التيك توك أو النقاش حول أخلاقها وتاريخ حياتها الشخصية للتدليل على أن ما حدث لها من جرائم “نتيجة طبيعية ومبررة لسلوكها الشخصي”، عوضا عن استنكار جريمة الإغتصاب التي تعرضت لها.
ثقافة لوم الضحية
من أبرز الإِشكاليات التي تواجهها النساء في قضايا العنف لجنسي هي “ثقافة لوم الضحية” وقد استخدم العالم النفسي، ويليام ريان، مصطلح “لوم الضحية” لأول مرة عام 1971، في كتابه “لوم الضحية”؛ فأشار ريان أن لوم الضحية هي أيديولوجية تُستخدم لتبرير العنصرية والظلم الاجتماعي ضد العرق الأسود في الولايات المتحدة. وفيما بعد طورت بعض المجموعات والروابط النسوية المصطلح ليشمل ضحايا العنف والعنصرية على أساس العرق أو الجنس.
بسبب هذه الثقافة المهيمنة على المجتمع المصري، يتحول جزء كبير من النقاش العام حول كل واقعة من وقائع العنف الجنسي ضد النساء، إلى محكمة تفتيش تتناول مظهر وأخلاق وسلوكيات النساء “الإستفزازية” كما يصفها البعض، أو للتساؤل حول جدوى التواجد في أماكن أو أوقات معينة في المجال العام، والتي قد تعطي مبرّرا أو تشجيعا للمجرمين لارتكابهم جرائم العنف الجنسي. وفي كل واقعة من هذا النوع، لا يدور النقاش المجتمعي حول كيفية منع مجرمين آخرين من ارتكاب جرائم أخرى من العنف ضد النساء إنما بالأخص حول إتباع النساء للمزيد من القواعد والقيود المجتمعية من أجل تقليل فرص التعرض لجرائم العنف الجنسي، الأمر الذي يفضي في النهاية لمزيد من الضغوط والعقاب غير المبرر للنساء/الناجيات، وبالتصالح مع وجود احتمال دائم لتعرض النساء لجرائم العنف الجنسي، وكأنها مشكلة “طبيعية” ذات أصول بيولوجية ولا سبيل لمناهضتها.
أبرز وقائع هذه الثقافة
لا شك أن وقائع العنف ضد النساء كانت موجودة كغيرها من الجرائم في المجتمع المصري، ولكن تغير طبيعة تلك الوقائع وتطوّر حدّتها ارتبط كأي جريمة أخرى بالظروف السياسية والاجتماعية والثقافية المؤثرة على المجتمع المصري. ولعقود، ظلت الدولة المصرية ومن خلفها المجتمع المصري تنكر وجود ممارسات شائعة في المجال العام لاضطهاد النساء والتسامح مع وقائع العنف التي تحدث لهن، وكانت تفضل تفسير تلك الوقائع بانحرافات “بعض الأفراد” الأخلاقية. ولكن بسبب تطور وسائل التواصل الاجتماعي وزيادة عدد الصحف ووسائل الإعلام الرسمية والمستقلة التي سجلت بعض وقائع العنف ضد النساء في المجال العام، اضطرّت الدولة المصرية للإعتراف بوجود أزمة مجتمعية تتسبب في زيادة وتيرة العنف الممارس ضد النساء، وإن ظل النقاش المجتمعي والخطاب الإعلامي يلوم النساء بسبب ما تعرضن له من وقائع عنف في كثير من الأحيان.
- 2006: التحرش بوسط القاهرة
في أكتوبر عام 2006، تواجدت الراقصة دينا مع عدد من أبطال فيلمها الأخير حينذاك بسينما مترو بوسط البلد بالقاهرة للترويج للفيلم، ولكن سرعان ما تحولت تلك المناسبة لحادث اعتداء جنسي على الراقصة دينا ثم امتد ليشمل اعتداء على جميع الفتيات المتواجدات بمحيط دار السينما. وبدلا من مناقشة الدولة والمجتمع لتلك الواقعة الخطيرة وما تمثله من دلالات اجتماعية خطيرة، اختارت الدولة والمجتمع لوم الراقصة دينا في استفزاز الشباب وتسببها في حدوث حالات التحرش الجماعي التي حدثت. بل أن نقيب الممثلين في ذلك الوقت أشرف ذكي “أصر على التحقيق مع الراقصة دينا فيما نسب إليها من اتهامات بالتحريض على التحرش الجنسي الذي شهده وسط القاهرة خلال عيد الفطر”.[1]
في 18 ديسمبر 2011 وسط أحداث عُرفت إعلاميًّا بـ«مجلس الوزراء»، التقطت عدسات الصحفيين مجموعة من المجندين – قيل بعدها إنهم شرطة عسكرية – بالتعدي على فتاة بضربها وبسحلها على الأرض وتعرية الجزء العلوي من جسدها بشارع مجلس الشعب. أثارت الصورة ردود فعل غاضبة داخل المجتمع المصري وأدانت بعض الأحزاب السياسية الواقعة، ولكن لم يمنع ذلك من وجود تعليقات تحاول وصم الفتاة واتهامها بتعمدها لاستفزاز العساكر لافتعال الأزمة لصالح أطراف سياسية أخرى، بينما ذهب البعض الآخر في التشكيك في أخلاقها ومناقشة اختياراتها الشخصية في الملابس: «إيه اللي وداها هناك، ازاي تلبس عباية بكباسين في عز البرد».[2]
- التحرش بفتاة جامعة القاهرة 2014
في26 نوفمبر عام 2014 وأثناء دخول إحدى الطالبات حرم كلية حقوق بجامعة القاهرة، تجمع عدد من الطلاب وقاموا بالتحرش الجماعي بها. وبعد تداول وسائل التواصل الاجتماعي للخبر، شنت وسائل الإعلام والصحف حملة شرسة ضد الناجية متهمين إياها بالتسبب في حالة العنف الجنسي التي تعرضت لها! فيما اتهمت بعض الصحف والإعلامين الفتاة “بإثارة حالة من الهرج والمرج داخل الحرم الجامعي، بسبب ارتدائها “ملابس مثيرة”[3]. بينما برر رئيس جامعة القاهرة جابر جاد نصار حدوث واقعة التحرش الجماعي للناجية بسبب أن “ملابسها كانت خارجة عن المألوف”، وقد تراجع نصار فيما بعد عن تصريحه واعتذر في بيان أصدره قائلاً إنه خطأ مرده الارتباك من خطورة ما حدث”[4].
- التحرش بفتاة الشرقية 2014
مساء يوم 30 مارس 2014 تعرضت إحدى الفتيات لحادث تحرش جماعي في مدينة الزقازيق، وهي في طريقها للمنزل عقب عودتها من حضور فرح لأحد الأصدقاء. وكانت أعداد المتحرشين كبيرة للدرجة التي اضطرت الشرطة لإطلاق الرصاص لتفريق المهاجمين للفتاة ثم قامت بالقبض على بعض المتهمين المشكوك في تورطهم في الحادث وأحالتهم للنيابة العامة لمباشرة التحقيق في ملابسات الواقعة. وتكرر في هذه الحادثة كذلك، إلقاء اللوم على الضحية بسبب ملابسها، وكرر بيان مديرية أمن الشرقية هذه الإشارة لملابس الناجية وقرر “أن الفتاة، كانت ترتدي ملابس قصيرة جدا”[5].
ولكن لماذا يستهوي المجتمع لوم الضحايا/الناجيات؟
قد يبدو غريبا على مجتمع محافظ يتفاخر بحمايته ورعايته للنساء أن يبدأ بلومهن عند تعرضهن للعنف الجنسي، ولكن يمكن فهم هذا التناقض إذا راجعنا مرة أخرى تعريف “ريان” لمصطلح ثقافة لوم الضحية. لا يصف ريان ظاهرة لوم الضحايا على ما يحدث لهم من جرائم ويرصدها فقط، ولكنه يحللها ويصل إلى أن جزءا كبيرا من هذه الثقافة تعلق أكثر بشهود/اللائمين لضحايا الجرائم. إن جرائم العنف التي يتعرض لها الضحايا بقدر ما تولد لدى الضحايا شعورا بالألم ولدى الشهود/اللائمين قدرًا من التعاطف، ولكنها تكشف أيضًا عن جانب دفين من الشعور بالذنب في الوعي الجمعي للأفراد تجاه هؤلاء الضحايا، بل وتشير صراحة لمسؤولية مؤسسات الدولة وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية تجاه هؤلاء الضحايا. وكآلية دفاعية عن الشعور بالذنب أو التهرب من المسؤولية تجاه ما تشكله وقائع العنف على الضحايا من إحراج للدولة وللمجتمع، وبما تثيره تلك الوقائع من أسئلة محرمة عن المسؤولية وحقوق وحريات المواطنين، يشكّل لوم الضحايا الخيار الأسهل للجميع. فعلى سبيل المثال، عندما تتعرض سيدة للعنف الجنسي أثناء سيرها مساء في أحد الشوارع العامة، فإن أي نقاش جاد حول تواجد أفراد الشرطة وإنارة الطرق العامة وتأمين المواطنين أو عن تخاذل الشهود/اللائمين في دعم أو مساعدة هذه السيدة يتحول لنقاش موتور ومدعاة للشعور بالذنب أو الإحساس بالتقصير. لذا فالأسهل دائما تفادي كل هذه الإِشكاليات المعقدة والنفاذ لهدف أسهل وهو التساؤل عن سبب تواجد هذه السيدة في الشارع ابتداء.
ما الجديد في قضية منة عبد العزيز؟
بالرجوع لقضية منة عبد العزيز وكيفية إستجابة مؤسسات العدالة الرسمية مع شكواها بخصوص تعرضها للاغتصاب، نلحظ تطورا خطيرا في ثقافة لوم الضحية والتي تجاوزت إطار الثقافة المجتمعية لقطاعات عريضة من المواطنين لتنعكس ضمنيا في خطاب مؤسسات العدالة الرسمية. ولا شك أن دلالة كون أول تجاوب رسمي مع تلك الشكوى كان بيان “إلقاء القبض على منة عبد العزيز” وليس “سماع أقوال منة عبد العزيز” كانت محبطة لكثير من المتابعين لتلك القضية. وهو الأمر الخطير، حيث قد يؤدي إلى زيادة مخاوف السيدات في الإبلاغ عن أي وقائع عنف جنسي يتعرضن لها، من لوم المحقق في هذه القضية للضاحية على سلوكها أو ملابسها.
والمتابع لبيانات النيابة العامة يستطيع الوقوف على الخطاب الأخلاقي والأبوي لتلك البيانات والتي تصف بشكل ضمني ومن خلال مناشداتها للأسر والمؤسسات الدينية وإشاراتها المتكررة للأخلاق والتربية، أنها تضفي وصفا أخلاقيا على جرائم العنف ضد النساء بوصفها جرائم أخلاقية لا لكونها جرائم عنف ضد النساء.