تضاعف عجز الميزان التجاري التونسي: حصيلة منتظرة لخيارات سابقة


2025-03-28    |   

تضاعف عجز الميزان التجاري التونسي: حصيلة منتظرة لخيارات سابقة

شَهِدَ عجز الميزان التجاري التونسي في شهري جانفي وفيفري من العام الحالي زيادة مُضاعفة مقارنة بالفترة نفسها من العام الفائت، وذلك وفق نشريّة التّجارة الخارجيّة التي نَشرهَا المعهد الوطني للإحصاء مؤخّرًا. أثَار هذا الصّعود نوعا من المفاجأة لدى المتابعين لا سيما وأنّه تزامنَ مع التّرويج السّياسي لتحسّن بعض المؤشّرات خلال الشّهر الماضي مثل الانخفاض الطّفيف في نسبة التضخّم تحت مفعول موسم التّخفيضات الشّتوي وتحسّن التّصنيف الائتماني لتونس. كما يبدو أنّ حالة التّفاجُؤ ارتبطت بالثقة في تصريحات رسمية سابقة أشاد فيها الرئيس قيس سعيّد بالفائض الذي تحقّق على مستوى الميزان التّجاري الغذائي، مخرجا إيّاه من إطاره العامّ لكونه أحد عناصر الميزان التّجاري. 

تَغاضَى الرّئيس عن التطرّق إلي الميزان التجاري ككلّ نظرًا لما يعانيه من عجز هيكليّ عادَ للارتفاع سنة 2024. ويبدو أنّ الفائض في الميزان التجاري الغذائي المذكور فُهِم على أنّه يَنسحب على مجمل المبادلات، لا سيّما وأنّ التّعامل مع الإخلالات التي تمسّ المعاملات التّجاريّة سواء على مستوى التّصدير أو التّوريد أو التزوّد اقترن بسرديّة السّلطة القائمة على منطق المؤامرة.

العجز التجاري: استرجاع نسق الارتفاع منذ سنة 2024

تَوسَّعَ عجز الميزان التّجاري خلال الشّهرين الأوّلين من العام الحالي، ليبلغ -3517.9 مليون دينار (م.د) بعد أن كان في حدود -1779.9 م.د في نفس المدّة من سنة 2024. نجَمَت هذه الحصيلة عن تراجع الصّادارت بـ-4.4% في مقابل ارتفاع الواردات بـ10.2%، وبذلك تراجَعَت نسبة تغطية الصّادرات للواردات من 85.7% إلى 74.3%.

يَعود تراجع الصّادرات أساسا إلى انخفاض صادرات قطاع الطّاقة بـ-5.1%، وقطاع المَنتوجات الفلاحيّة والغذائيّة بنسبة -16.5% بسبب انخفاض مبيعات زيت الزّيتون في السّوق الخارجيّة. بالإضافة إلى تقلّص صادرات قطاع الصّناعات الكهربائيّة والميكانيكيّة بـ-5% وقطاع النسيج والملابس والجلد بـ-0.6%. في حين تعود القفزة التي شهدتها الواردات إلى ارتفاع إستيراد المواد الاستهلاكية بنسبة 14.3%، والمواد الغذائية بنسبة 10.6%، ارتفاع يبدو أنّه يقترن بذروة الاستهلاك في شهر رمضان. إضافة إلى ذلك زادَت الواردات من موادّ التجهيز بنسبة  12.5%، ومن المواد الأوليّة ونصف المصنّعة بـ11.9%.

بَرزَ حجم ارتفاع عجز الميزان التّجاري منذ مطلع العام الجاري كحصيلة مفاجئة بالنّظر إلى ردود الفعل المختلفة. غير أنّ ذلك يظهر نتيجة لسياسة الدّولة في مجال التّوريد والتي بدأت تظهر بوادرها منذ النّصف الثاني من العام المنقضي. حيث تصاعد العجز خلال كامل سنة 2024 بقرابة 10%، ليبلغ -18927.6 م.د بعد أن كان في حدود -17069 م.د خلال سنة 2023. يرجع ذلك إلى عدم تطوّر قيمة الصّادرات في مقابل تطوّر الواردات بنسبة 2.3%، بعد أن تقلّصت مبيعات الفسفاط بـ-26.3%. غير أنّ زيادة المبيعات في الأسواق الخارجيّة من التّمور بنسبة 20.3% ومن زيت الزّيتون بنسبة 27.4% كان لهما الفضل في الحفاظ على استقرار قيمة الصّادرات سنة 2024. وشَملَت زيادة الواردات أساسا قطاع الطّاقة بـ9.1% ومودّ التجهيز بـ5.6% وموادّ استهلاكيّة أخرى بـ6.3%. وتَجدر الإشارة إلى أنّ سنة 2024 شهدت انخفاض الواردات من الموادّ الأوليّة ونصف المصنّعة بـ-2.6%، وهو ما يُفسّر تقهقر الإنتاج في قطاع الصّناعة الّذي سَجّلَ بدوره نسبة نموّ سلبيّة بـ-%2.6 بحساب الانزلاق السّنوي. وللتّذكير سَجّلَ الميزان التّجاري سنة 2022 عجزا قياسيّا بـ-25231.4 م.د من أبرز أسبابه تأثير تداعيات الحرب الرّوسيّة- الأكرانيّة على ارتفاع أسعار الموادّ الأوليّة والموادّ الفلاحيّة في الأسواق الخارجيّة ليشهد انخفاضا إلى حدّ -17069 م.د سنة 2023. غير أنّ العجز التّجاري سيستَأنف نَسقَه التّصاعدي تحديدا في منتصف العام المنقضي.

خضوع الصادرات للواردات 

تُبرز الهيكلة القطاعيّة للصّادرات محافظة تونس على تخصّصاتها الإنتاجيّة التّقليديّة التي انطلق إرسائها مع بداية النّهج التّحرري وإنشاء النّظام غير المقيم “Régime offshore” للشّركات الأجنبيّة المصدّرة كليّا في سنة 1972. ووفق معطيات مرصد التّجارة الخارجيّة، لسنة 2024، تَحلّ الصّناعات الميكانيكيّة والكهربائيّة، وأساسا الأسلاك والكابلات ومكوّنات السّيارات المرتبة الأولى في الصّادرات بنسبة 46.3%، تليها صادرات النّسيج والجلود والأحذية بـنسبة 18.3%، ومن ثمّ الزّراعات التّصديريّة (زيت زيتون، تمور، قوارص) والصّناعات الغذائيّة بـ14.8%. تُمثّل هذه القطاعات مجتمعة حوالي 80% من جملة الصّادرات التّونسيّة. وإلى غاية سنة 2010 كان قطاع الفسفاط في مرتبة متقدّمة في القطاعات التّصديريّة، لكنّه ومنذ ذلك التّاريخ تراجع إلى المرتبة السابعة بنسبة صادرات تمثّل 3.2% فقط، بعد عجز كلّ الحكومات المتعاقبة عن معالجة الإشكالات المتفاقمة لشركة فسفاط قفصة.

تتميّز المنتوجات المُصدّرة بقيمة مضافة منخفضة وتعتمد على اليد العاملة المكثّفة وغير المؤهّلة. وتَعكس تموقع البلاد في خارطة التّقسيم العالمي للعمل والإنتاج عبر تحفيزها الاستثمار المباشر الأجنبي المتأتّي في معظمه من أوروبّا الغربيّة، وتبنّيها مبدأ الأفضليّة المقارنة في التّجارة الدّوليّة بوصفه إحدى مبادئ السّوق الحرّة. يعني ذلك التخصّص في إنتاج السّلع التّصديريّة التي تمتلك إحدى الدول قدرة معينة على إنتاجها بكلفة منخفضة مقارنة بمنافسيها وتوريد الموادّ التي يتطلّب إنتاجها محليّا بكلفة أعلى من سعر السّوق العالميّة. بما أنّ تونس تفتقد لميزة تفاضليّة في مجال الموادّ الأوليّة راهنت على الأساس التّفاضلي للأجور. تؤكّد نتائج الدراسة التي قام بها أستاذ الاقتصاد فيصل بن عامر وفق منهج الإحصائيّات المقارنة بين تونس ومثيلاتها من الدّول المنافسة أن استقطاب الرّساميل الأجنبية في شكل استثمار مباشر تصديري بُنِيَ فقط على أساس تكلفة اليد العاملة، أي على الأجور الزّهيدة. اقترن الرّهان السّياسي على هذه البنية الإنتاجيّة مع رهان سياسي آخر على دفع التّعليم، وتولّد عن هذان المساران المتعارضان بطالة هيكليّة في صفوف خرّيجي الجامعات. 

لا يقف الخَلل عند مستوى سوق العمل فقط، وبالعودة إلى الهيكلة القطاعيّة للواردات تتصدّر الموادّ الأوليّة ونصف المصنّعة قائمة الواردات بنسبة 33.3% تتبَعها الموادّ الاستهلاكيّة بـ22.9% ومن ثمّ قطاع الطّاقة بـ18.2% تليها موادّ التّجهيز بـ16.9% وأخيرا السّلع الغذائيّة بـ8.7%، حسب مؤشّرات نشرها مرصد التّجارة الخارجيّة لسنة 2024. تبعًا لذلك تُمثّل المواد الأوليّة ونصف المصنّعة ومواد التجهيز نصف واردات الدّولة وهي الموادّ الضّروريّة لقطاع الصّناعات الميكانيكيّة والكهربائيّة وقطاع النّسيج والملابس والجلود، وتُمثّل هذه القطاعات مجتمعة 65% من صادرات تونس وتهيمن عليها الشّركات الأجنبيّة المصدّرة كلّيا. 

يُبيّن هذا الارتباط المفرط للصّادرات بالواردات هشاشة المبادلات التّجاريّة أمام حركة الأسعار في الأسواق العالميّة وتقلّب ميزان العجز التّجاري. ينطبق ذلك جزئيّا على جميع الاقتصادات غير أنّ الفارق بالنّسبة للحالة التّونسيّة ومثيلاتها من دول الأطراف، سببه انخراطها في الإنتاج المجزّأ في قطاعات محدودة الانتاجيّة. ففي مجال صناعة مكوّنات السيّارات والمعدّات الكهربائيّة تقوم الشّركات المصدّرة في تونس بالأساس بوظيفة التّركيب لموادّ نصف مصنّعة مستوردة لتُعِيد تصديرها بقيمة إضافيّة دنيا. كما انحسر قطاع النّسيج في وظيفة الخياطة في سلسلة القيمة العالميّة وأصبح يعتمد بشكل شبه كلّي على توريد الموادّ الأوليّة والوسيطة. وفق هذا المنوال تعمل الشّركات المصدّرة كليّا في عزلة عن النّسيج الاقتصادي المحلّي، وتستفيد من حزمة حوافز من بينها الإعفاء الجبائي ومنح الاستثمار وتَحمّل الدّولة مسؤولية المساهمة الاجتماعيّة للأعراف وضمان إعادة تصدير الأرباح. غير أنّ هذه الشّركات تشغّل 20% من مجمل العمالة في القطاع الخاصّ في تونس، معظمهم من أصحاب الياقات الزّرقاء الذين يأتون في أسفل التّرتيب في سلّم الأجور مقارنة ببلدان شبيهة.

تطويع إدارة العجز الهيكلي لسرديّة السّلطة

تُعاني تونس عجزًا هيكليّا في الميزان الطّاقي وفي المبادلات المتعلّقة بالموادّ الأوليّة والنّصف مُصنّعة ومعدّات التّجهيز، على عكس الميزان التّجاري الغذائي الذي تَرتبط حصيلته بالظّرف المَناخي والمحاصيل، وقد حقّق في سنة 2024 فائضا إثر سلسلة من النّتائج السّلبيّة بسبب الجفاف. كذلك يُعتبر العجز في مبادلات الموادّ الاستهلاكيّة ظرفيّا، بالرغم من الارتفاع المتواصل لحجم واردات هذه الموادّ غير أنّ صادرات الشّركات غير المُقيمة في قطاع النّسيج والجلود والأحذية تلعب دورا محدّدا في حصيلة هذا الميزان.

في عام 2022، شهدت البلاد عجزا قياسيّا في ميزان الدّفوعات وتراجع الموجودات من العملة الصّعبة من 134 يوم توريد سنة 2021، إلى 100 يوم توريد سنة 2022. وفي العام 2023 توقّفت المفاوضات بشأن حصول تونس على قرض من صندوق النقد الدّولي، تَبعهَا عجز الحكومة على تعبئة القروض الخارجيّة المبرمجة بالميزانيّة. أدّى ذلك إلى تراجع التدّفّقات من العملة الصّعبة التي كانت تحتاجها البلاد لخلاص القروض في آجالها بعد تأكيد السّلطة السّياسيّة على التزامها بذلك. علما وأنّ فترة ذروة سداد الدّيون الخارجيّة لتونس تمتدّ بين 2023 و2027. 

وفق السّياسة الماليّة المُتّبعة يتمّ تعبئة الحاجة من العملة عبر الاقتراض أو عن طريق الالتجاء لاحتياطي البنك المركزي. وبسبب عدم توفّر التوجّه الأوّل واتّخاذ قرار سياسي بتدعيم احتياطي العملة الصّعبة لكونه مؤشّرا ماليّا رئيسيّا في تقييم قدرة الدّولة على سداد ديونها وتحديد تصنيفها الائتماني من قبل وكالات التّصنيف. انتهجت السّلطة سياسة التقشّف في الواردات في الموادّ الغذائيّة التي تحتكر توريدها وفي الموادّ الأوليّة ونصف المصنّعة التي تراجعت بنسبة -7.3% في 2023 ومن ثمّ بـ-2.6% في 2024. على الأرجح تمّ الاختيار على هذه المجموعات من الموادّ بسبب مردوديّتها الجبائيّة الضّعيفة مقارنة بالموارد الجبائيّة المتأتيّة من السّلع الاستهلاكيّة المورّدة. في المحصّلة تحقّقت أهداف السّلطة في تسديد الدّيون في الآجال والرّفع من مخزون العملة الأجنبيّة إلى 120 يوم توريد في 2023، و121 يوم توريد في 2024، ما أدّى إلى تحسّن التّرقيم السّيادي لتونس. كانت آخر مراجعة في الغرض في بداية الشّهر الحالي من قبل وكالة “موديز” التي أشادت بقدرة البنك المركزي على الحفاظ على استقرار مخزون النّقد الأجنبي خلال السّنتين الأخيرتين وتراجع مخاطر السّداد المتعلّقة بالدّولة. 

كان وَقع هذه النّتائج إيجابيًّا للخارج، واعتبرت الحكومة التقشّف على مستوى واردات الغذاء والموادّ الأوليّة تحسّنا في قدرتها في حوكمة الواردات. في المقابل برزت تأثيراته الدّاخليّة في إحداث إخلالات غير مشهودة في التزوّد بالموادّ الغذائيّة وارتفاع الأسعار أرجعتها “سلطة 25 جويلية” إلى سرديّة المؤامرة. بالتّوازي مع ذلك تراجع نموّ القطاع الصّناعي، واسترجعت نسبة البطالة نَسقَها التّصاعدي منذ الثّلاثي الأوّل لسنة 2023. وهكذا لم يكن انخفاض العجز مستدامًا لأنّ المحدّد في ذلك كان تقليص التّوريد وليس عامل الإنتاج والتّصدير، لذلك عاد العجز للتوسّع منذ أواخر العام المنقضي، أي منذ بداية استرجاع نَسق استيراد الموادّ الأوليّة ونصف المُصنّعة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني