ما إن بدأت عناصر قوى الأمن الداخلي بتنفيذ الخطة الأمنية في 15 أيار الماضي تطبيقًا للقرار الذي اتخذه المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، “لملاحقة المطلوبين للقضاء ومرتكبي جرائم السلب والنشل بواسطة الدراجات الآلية والمخالفات المرورية الشائعة”، حتى عمّت الاحتجاجات شوارع بيروت في ما سُمّي “انتفاضة الدراجات النارية”. وشهدت مناطق سليم سلام والطريق الجديدة والضاحية الجنوبية إقفالًا للطرقات وإشعالًا للإطارات من قبل محتجّين على الخطة الأمنية التي سُطّر خلالها من تاريخ 15 أيار 2024 حتى 27 منه،10241 محضرًا في حق مواطنين مخالفين لقوانين السير، وحُجزت مئات الدراجات والآليات، وذلك بحسب بيان لقوى الأمن الداخلي صدر في 1 حزيران 2024.
يعيد الناس ردّة فعلهم الغاضبة على الحملة الأمنية أوّلًا إلى كونها تستهدف بشكل خاص الدراجة النارية التي أصبحت وسيلة نقل أساسية يعتمد عليها المزيد منهم منذ بدء الانهيار الاقتصادي في العام 2019 وما رافقه من انخفاض في قيمة الرواتب وارتفاع في أسعار الوقود وزيادة في التكلفة التشغيلية للسيارة الخاصّة وارتفاع في أسعار المواصلات في ظلّ غياب تام للنقل العام الرسمي. وبالتالي لم تراع الحملة حاجة الناس المستجدّة للدراجة النارية. وثانيًا لأنّها جاءت بعد سنوات من الغياب شبه التام للقوى الأمنية في السهر على تطبيق قانون السير بوتيرة دائمة، وليس عبر حملات موسمية. وبالتالي كانت الحملة مفاجئة لأصحاب الدراجات ولم تمنحهم الوقت الكافي لتسوية المخالفات. وثالثًا لأنّها لم تلحظ ظروف إقفال مصلحة تسجيل السيارات (النافعة) لحوالي سنتين ما حال دون تسجيل الدراجات النارية أو إصدار رخص سوق، عدا عن الظروف العامّة في البلاد من إضراب للموظفين، إلى انقطاع التيار الكهربائي عن الدوائر الرسمية إلى الروتين الاداري.
وقد تضاعف حجم استيراد الدراجات النارية بشكل كبير من حوالي 66 ألف دراجة نارية عام 2018 إلى حوالي 102 ألف دراجة في العام 2023. إلّا أنّ هذا الارتفاع الكبير لم يدفع أيًا من المعنيين إلى دراسة الحاجات والمتطلّبات القانونية واللوجستية لاستيعاب هذا التغيّر. فمثلًا بدلًا من أن تتّسع أقسام مصلحة التسجيل لاستيعاب هذه الأعداد الجديدة، أقفلت النافعة أبوابها لمدّة عامين تقريبًا، وعندما فتحت في أيار 2023 حصل ذلك بشكل تدريجي وعبر حجز مواعيد مسبقة على المنصة الإلكترونية، وكان عدد العاملين حوالي 60 موظفًا عليهم تخليص حوالي 1000 معاملة في اليوم الواحد، وهو عدد قليل نسبةً للكم الهائل من المعاملات الواجب إنجازها بين قديمة وجديدة.
وبحسب تقارير صحافية نقلًا عن مصدر في وزارة الداخلية، فقد بلغ عدد الدراجات النارية المسجّلة في النافعة لغاية العام 2021 حوالي 290 ألف دراجة نارية، وهو ما يؤشر إلى العدد الكبير للدراجات القديمة غير المسجلة، فيما لم يصَر إلى تسجيل أي دراجة تقريبًا عامي 2022 أو 2023 نظرًا لتوقف العمل في النافعة. وإذا ما اكتفينا بجمع عدد الدراجات النارية المستوردة خلال عامي 2022 و2023، يتبيّن أنّ 200 ألف دراجة نارية هي غير مسجّلة حاليًا في لبنان.
الدرّاجة حاجة أساسية
تجتاح الدراجات النارية شوارع وأزقة المدينة وكأنّها سيول جارفة لا تجفّ، ويكفي أن تقفي لبرهة عند إشارة مرور حتى تلاحظي أعدادها، درّاجة يستقلّها شاب ثلاثيني ببدلته الرسمية معتمرًا الخوذة، دراجة أخرى تستقلّها عائلة من خمسة أفراد بينهم رضيع تمسكه والدته جيّدًا فيما يجلس طفل أمام السائق وطفل آخر وراءه، دراجة ثالثة تقودها فتاة، وفي بعض الأحيان يعبر أمامكِ أولاد على دراجات نارية لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشر أو الثالثة عشرة. وهؤلاء جميعًا منهم من يلتزم بقوانين السلامة العامّة ومنهم من لا يكترث لها فيتخطّى معظمهم الإشارة الحمراء أو يسيرون عكس السير معرّضين حياتهم وحياة غيرهم للخطر، وقلّة يعتمرون الخوذ. وكلّها ممارسات ومخالفات يرتكبها السائقون إلّا أنّ معظمهم لا يحاسبون عليها إلّا في حال وجود خطة أمنية.
وقد تحوّلت الدراجة النارية في الآونة الأخيرة من وسيلة نقل فردية يكثر استخدامها بخاصة من قبل العاملين في مجال التوصيلات، إلى وسيلة نقل عائلية تلبّي جميع أفراد الأسرة توفيرًا للمال والوقت، فباتت تستخدم كبديل عن باص المدرسة وعن السيارة الخاصّة للذهاب إلى الوظيفة أو التسوّق.
وفي لقاء لـ”المفكرة” يقول أيمن الذي اقتنى دراجة نارية إنّها سهّلت حياة عائلته وخففت نفقاتها فأيمن الذي يعمل كموظف لا يتجاوز راتبه 400 دولار هو اليوم عاجز عن تأمين نفقات تنقلاته بالتاكسي أو بالسيارة الخاصّة. فهو يقلّ أولاده الثلاثة إلى المدرسة موفّرًا حوالي 300 دولار ثمن نقليات باص شهريًا، ويقلّ زوجته إلى عملها ما يوفّر أيضًا من كلفة المواصلات، كما يستخدمها في نهايات الأسبوع للمشاوير العائلية، كذلك يشتري جميع متطلّبات المنزل وينجز كل مهامه عليها. “أنا إذا ما عندي موتوسيكل ما بقدر ضهّر أولادي وعائلتي بالتاكسي وحط مبلغ واتبهدل عالطرقات، بالموتو بوصل وين ما بدي وما بدفع كثير”.
من جهة ثانية أدى ازدياد الحاجة إلى التنقّل السريع والرخيص عبر الدراجة النارية إلى ابتكار مهنة جديدة وهي “دراجة تاكسي”، التي بدأت تنتشر منذ حوالي ثلاث سنوات بداية عبر تطبيق “بولت” الذي يتعامل مع سائقي دراجات نارية لنقل الركّاب بأسعار أقل من سيارات التاكسي وتتناسب مع قدرة شريحة كبيرة من الناس. إلّا أنّ وزير الداخلية والبلديات بسام المولوي أرسل طلبًا إلى وزارة الاتصالات لوقف خدمة الدراجات النارية على التطبيق، بعد اعتراض سائقي السيارات العمومية عليه. إلّا أنّ عددًا من السائقين الذين كانوا يعملون من خلال التطبيق عمدوا إلى إنشاء مجموعات على “واتساب” للتواصل مع الركاب واستأنفوا خدمات التوصيل على الدراجات.
من بين هؤلاء، حسين الذي تخلّى عن وظيفته في أحد المطاعم وانتقل للعمل كسائق “دراجة تاكسي” بعد تدنّي قيمة راتبه واضطراره للعمل بدوامين لتأمين معيشته ومعيشة عائلته. ويقول في حديث مع “المفكرة” إنّه لجأ إلى العمل كسائق دراجة نظرًا إلى إقبال الناس على اعتمادها كوسيلة نقل أساسية، ولما فيها من ربح مادي بدوام عمل مقبول، إذ لم يعد مضطرًّا للعمل بدوام طويل. يقول إنه بدأ بالعمل كسائق تاكسي عبر تطبيق “بولت”، وعندما علم باحتمال إقفال خدمة الدراجة التاكسي، بدأ يأخذ أرقام هواتف الزبائن الذين باتوا يتواصلون معه شخصيًا بعد إيقاف الخدمة.
ومنذ انتشار ظاهرة “تاكسي الدرّاجة” هناك أشخاص لا يستخدمون سواها في تنقّلاتهم داخل بيروت، من بينهم إبراهيم الذي تعرّف على الخدمة عبر أصدقائه وتطبيق “بولت”، حيث يكتفي بإرسال موقعه ليجد السائق أمامه ويصل إلى وجهته في مدة زمنية لا تتجاوز عشر دقائق وبتعرفة تتراوح بين 100 ألف ليرة ومائة وخمسين ألف ليرة، علمًا أنّ تعرفة التاكسي هي 200 ألف ليرة في الحد الأدنى، ولكن التوفير بالوقت اللازم للانتقال أكبر وأهم.
ولكن بحسب إبراهيم ومشاهداتنا، فإنّ قلّة من سائقي الدراجات أو “الدراجة التاكسي” يلتزمون بالسلامة العامة أو وضع الخوذة على رؤوسهم. وهو إن دلّ على شيء فعلى أمرين أوّلًا استهتارهم بالقانون وثانيًا تقاعس القوى الأمنية عن تنفيذه بشكل رادع.
وقد تُرجمت زيادة الطلب على الدراجات النارية زيادة في الاستيراد فبعد تراجع استيرادها في السنوات الأولى للأزمة، حيث بلغ في العام 2019 حوالي 44 ألف دراجة و5 آلاف درّاجة في العام 2020 وهو العام الذي تعرّض فيه مرفأ بيروت للتفجير، ارتفع حجم استيرادها في العام 2021 حين بلغ عددها حوالي 29 ألفًا واستمرّ الارتفاع في العام 2022 حيث بلغ عددها 111 ألف دراجة.
ويفيد وسيم العقاد صاحب معرض بيع درّاجات نارية أنّ نسبة مبيعاته زادت 60% بعد الأزمة الاقتصادية، حيث ارتفعت من 2000 دراجة في العام 2018، إلى 5000 دراجة في العام 2023.
وبالتوازي أيضًا، تنشط سرقة الدراجات النارية وبيعها لإدراك السارقين مدى حاجة المواطن إليها، حيث يتم بيع المسروقة بثلث ثمن الجديدة، ولا تخلو مجموعات التواصل الاجتماعي الإخبارية عن حادثين إلى خمس حوادث سطو على دراجة نارية في اليوم.
تكاليف التسجيل مرتفعة والمنصة يتقاسمها معقّبو المعاملات
وعلى الرغم من حاجة الناس إلى الدراجة النارية لم يقم كثيرون منهم بتسجيلها في النافعة ولم يستحصلوا على رخصة قيادة، وأعاد معظم من قابلتهم “المفكرة” ذلك إلى عوامل منها:
– آلية العمل في النافعة: بعد إغلاق النافعة لمدة سنتين، أعيد افتتاحها قبل 5 أشهر ولكن عبر حجز مواعيد على المنصّة حيث يواجه الأفراد صعوبة في الحصول على موعد عبر المنصّة التي تفتح لدقائق عدة ثم تقفل، ويفيد عمر في اتصالٍ مع “المفكرة” أنه منذ ثلاثة أشهر وهو يحاول حجز موعد عبر المنصة لتسجيل دراجته ولم يوفّق في ذلك، “ما رح إنزل واتبهدل بالنافعة، عم نشوفهم كيف عم يوقفوا بالشمس من الصبح لعشية”.
كذلك يواجه المواطنون صعوبة في إنجاز المعاملات كونها تتطلّب الكثير من الوقت يصل أحيانًا إلى أربعة أيام وبالتالي يضطرّ كثيرون إلى اللجوء إلى “معقّب معاملات” يتجاوز بدل أتعابه 150 دولارًا لتخليص معاملة واحدة. يقول أيمن إنّه قد يضطرّ للاستعانة بالمعقّب لأنّه بدونه سوف يضطرّ للتعطّل عن العمل لأربعة أيام على الأقل. وبينما استطاع تأمين المبلغ يعتمد آلية الهروب من نقاط التفتيش التابعة لقوى الأمن الداخلي قدر الإمكان.
– رسوم التسجيل المرتفعة: يعتبر كثر ممّن قابلتهم “المفكرة” أنّ رسوم التسجيل وإصدار رخص سوق، مرتفعة نسبة لثمن الدراجات، وهي مبالغ لا يمكن للكثير من أصحاب الدراجة النارية تحمّلها، بخاصّة وأنّ معظمهم وفّروا ثمن الدراجة بصعوبة إما عبر رهن الذهب أو الاستدانة من الأقارب. ويقول أيمن إنّه لغاية اليوم لم يقم بتسجيل درّاجته في النافعة كون تكاليف ذلك تتجاوز 400 دولار متضمّنة أتعاب معقّبي المعاملات، وهو مبلغ كبير لا يمكنه تأمينه بسهولة.
كذلك حسين، فعلى الرغم من أنّ الدرّاجة هي مصدر رزقه الوحيد إلّا أنّه لم يعمد الى تسجيلها في النافعة، لأنّ رسوم التسجيل مرتفعة “إذا الموتسيكل كلّها حقها 900 دولار بدي إدفع 250 دولار لسجلّها؟ ما رح سجّلها وغصب عن الدولة بدي اشتغل لَطعمي أولادي”.
يقول مسؤول في مصلحة تسجيل السيارات في الدكوانة تحفّظ على ذكر اسمه لـ “المفكرة”، أنّ النافعة افتتحت أبوابها أمام تسجيل الدراجات النارية قبل حوالي خمسة أشهر، عبر أخذ موعد عبر المنصة التي نظّمت المواعيد للحؤول دون تعرّض الناس للمشقة والانتظار لساعات طويلة. أما اليوم، يعود ما يحصل في النافعة من فوضى، بحسبه، إلى الازدحام الذي سبّبته الحملة الأمنية على عكس ما قبل الحملة حين كان العمل منتظمًا وعلى المواعيد. وعن مواجهة المواطنين صعوبة في حجز موعد عبر المنصة، يعيد المصدر ذلك إلى أسباب عدّة منها: قيام معقّبي المعاملات بتوظيف أشخاص لرصد مواعيد فتح المنصة وحجز أدوار بسرعة فائقة فور فتحها، وغالبًا ما تكون المواعيد محدودة. ويؤكد أنّه لا يمكن ضبط هذه الظاهرة فـ “معقّب المعاملات اليوم” لا يمكنه تخليص أي معاملة إلّا عبر وكالة من صاحب السيارة أو الدراجة، وبالتالي هذا شأن داخلي بين المواطنين أنفسهم، بحسب رأيه. ويشير المصدر إلى أنّ النافعة تقوم يوميًا بتخليص حوالي 1000 معاملة وهي قدرة الموظفين على العمل يوميًا.
من جهة ثانية ينتقد المصدر نفسه غياب الخطط الحكومية والاستراتيجية الواضحة لمكافحة مخالفات المواطنين: “إذا معدل الاستيراد مرتفع، الدولة لازم تلتفت لهيدا الشي وتوفّر إمكانية للمواطن إنّه يطبّق القانون، هيدي النافعة مؤسسة ومخططة لاستيعاب وتخليص مجموعة قليلة من المعاملات”.
الدولة “بتفيق فجأة”
يعتبر مدير “اليازا” زياد عقل أنّ قوانين السير واضحة وموجودة منذ سنوات ومن واجب قوى الأمن الداخلي تطبيقها بشكل متواصل، لا أن تنام عنها ثم تستفيق فجأة لتطبيقها. كذلك لا بدّ، بالإضافة إلى تطبيق القانون، البتّ في قضايا الفساد ومعالجة الخلل. “ما فيني لأن في فساد، وقّف امتحانات السوق أو دفع ميكانيك”. ويعتبر أنّ المواطنين والقوى الأمنية جميعهم يدورون في حلقة مفرغة، “نحن بدنا نطبّق القانون بس ما في امتحانات سواقة ولا في نافعة”، مؤكدًا أنّ ما يحدث “غير سليم”.
بدوره يؤكد مصدر في قوى الأمن الداخلي لـ “المفكرة” أنّ على المواطن تطبيق القانون بشكل دائم، وأنّ هناك مخالفات عدة يرتكبها المواطن غير مرتبطة بالظروف الراهنة مثلًا عدم ارتداء الخوذة لا شأن له بفتح النافعة أبوابها أو عدمه، كذلك المرور عكس السير وغيرها من المخالفات الشائعة.
وكان رئيس بلدية الغبيري معن خليل، اقترح في مؤتمر صحافي عقده في 20 أيار الماضي إثر توقيف القوى الأمنية آلية تابعة للبلدية كونها غير مرخّصة، ومصادرة دراجة نارية لأحد الموظفين كونها أيضًا غير مرخّصة، “السعي الجدي لتخفيض رسوم الدراجات النارية ورخص قيادة، والتدرّج في تطبيق قانون السير بدءًا من عدم مخالفة اتجاهات السير والإشارات المرورية وصولًا إلى كامل القانون وعلى جميع الناس من دون استثناءات ومحسوبيات، مع فتح مركز الأوزاعي ومراكز إضافية وزيادة عدد العاملين وألّا تكون غارقة تحت سلطان السماسرة والمحسوبيات”.