تصريف الأعمال: من الموجب الدستوري إلى الاعتباطية السياسية


2022-07-18    |   

تصريف الأعمال: من الموجب الدستوري إلى الاعتباطية السياسية

عقب صدور الورقة البحثية التي أعدتها المفكرة القانونية حول تصريف الأعمال على شكل كتيّب متوفّر بنسخة مطبوعة ونسخة إلكترونية، ننشر تباعاً الأقسام الرئيسية التي تتألّف منها هذه الدراسة بشكل منفصل كي يتمكّن القارئ من الاطّلاع عليها بسهولة.

ننشر هنا الدراسة الأساسية بعنوان: “تصريف الأعمال: من الموجب الدستوري إلى الاعتباطية السياسية” التي تعالج مفهوم تصريف الأعمال من الناحية الدستورية النظرية ومن ثم تتناول بالتفصيل ظاهرة الموافقات الاستثنائية التي نصّت عليها تعاميم رؤساء الحكومات المستقيلين المتعاقبين منذ 2013، ليس فقط في بعدها القانوني، لكن أيضاً في مدلولاتها السياسية، وما هي الخلاصات التي يمكن للمراقب استنتاجها حول طبيعة وآليات عمل النظام السياسي اللبناني.

ننشر لاحقاً الدراسة المكمّلة للدراسة الأساسية بعنوان: “الموافقات الاستثنائية في ظل حكومة حسان دياب المستقيلة” ودراسة الخبيرة البلجيكية دة. أوبي ويرتغن بعنوان “تقرير عن حكومة تصريف الأعمال في بلجيكا”. 

يشهد لبنان منذ 2005 أزمات سياسية متواصلة سببها المباشر هيمنة نظام الزعماء على مختلِف مرافق الدولة، وغياب المنطق المؤسساتي لحلِّ هذه النزاعات بشكل يحافظ على العمل السليم للإدارات العامة. فمع نهاية الوصاية السورية، فقد النظام السياسي اللبناني الجهة التي كانت تتولى تأمين المصالح السلطوية لأركانه عبر ضمان التوازن بين الزعماء وديمومة شبكة علاقاتهم الزبائنية القائمة على تحاصص المال العام وتقاسم مقدرات الدولة.

وقد انعكس هذا الأمر على فقدان النظام السياسي استقرارَهُ الشكلي، ما أدّى إلى تعطيل المؤسسات الدستورية التي باتت تشهد فترات طويلة من الشلل بانتظار التوافقات السياسية الظرفية بين أطراف السلطة الحاكمة. وتجلّى هذا الواقع تحديداً في عدم قدرة مجلس النواب على انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهل الدستورية بسبب تعطيل النصاب، ما أدّى إلى حصول فراغ رئاسي أوّل، امتدّ من 24 تشرين الثاني 2007 إلى 25 أيار 2008، وفراغ رئاسي ثانٍ، استمرّ من 25 أيار 2014 إلى 31 تشرين الأوّل 2016.

لكنَّ خُلوَّ رئاسة الجمهورية، رغم التعطيل الذي ينشب أحياناً بسبب المناكفات بين أطراف السلطة، لا يؤدّي، من الناحية الدستورية، إلى الحدِّ من صلاحيات السلطة التنفيذية المُتجسِّدة في مجلس الوزراء الذي يبقى مُتمتِّعاً بكامل سلطته من أجل اتخاذ القرارات اللازمة في مختلِف المجالات التي تخص حياة الدولة. فعدم وجود رئيس للجمهورية ينقل، عملاً بأحكام المادة 62 من الدستور، صلاحيات هذا الأخير وكالةً إلى مجلس الوزراء، ما يعني أنّ اختصاصات مجلس الوزراء تظلُّ مُكتمِلة، لا بل هي تتعزَّز كونها باتت تشمل أيضاً تلك التي تعود في المبدأ إلى رئيس الجمهورية.

لكنَّ عدم استقرار النظام السياسي بعد 2005 لم يقتصر فقط على الفراغ المتكرِّر الذي أصاب رئاسة الجمهورية، بل هو اتَّخذ شكلاً أكثر خطورة كونه أصاب السلطة التنفيذية في صميمها مع بروز ظاهرة قيام الحكومات المستقيلة بتصريف الأعمال لفترات طويلة جداً من الزمن. فتصريف الأعمال يؤدِّي قانوناً وواقعاً إلى تقليص صلاحيات الحكومة التي تفقد قدرتها على رسم سياسة الدولة في جميع المجالات. فهذا التقييد يجد سنده في النص الدستوري نفسه، ما يعني أنّه خلافاً للفراغ الرئاسي، الذي يعزِّز مؤقَّتاً صلاحيات مجلس الوزراء، يؤدّي تصريف الأعمال إلى نتيجة عكسية قوامُها الحدُّ من نطاق تدخُّل السلطة التنفيذية، ما ينعكس حُكماً على عمل جميع إدارات الدولة وأجهزتها بوصفها تخضع لمجلس الوزراء.

جرّاء ما تقدَّم، ستتناول هذه الورقة البحثية مفهوم تصريف الأعمال بغية تحليله من الناحية الدستورية وفهم تداعياته على عمل السلطات العامة. كما ستحاول استعراض الأبعاد السياسية لهذا المفهوم من خلال دراسة الممارسات التي اتَّبعتْها السلطة الحاكمة والتي تندرج، كما سيتبيَّن معنا، ضمن منطق نظام الزعماء القائم على التعطيل المتبادَل من أجل تحقيق المكاسب حتى لو أدَّى ذلك إلى ضرب العمل المُنتظِم لمؤسسات الدولة وتهديد مصالح المواطنين المشروعة.

أوّلاً: عمر حكومات تصريف الأعمال بعد 2005

قبل المِضيِّ في تحليل مفهوم تصريف الأعمال من مختلِف جوانبه الدستورية، يجدر التنبُّه إلى المدة الزمنية التي قامت خلالها الحكومات المستقيلة المتعاقبة منذ 2005 بتصريف الأعمال. إذ من المُلاحَظ أنّ هذه الفترة باتت تمتدُّ على أشهر عديدة في حين أنّها كانت تقتصر على أيام معدودة قبل 2005. فتشكيل الحكومات في لبنان اتّسم منذ تبنِّي الدستور سنة 1926 بالسرعة، ما جعل مرحلة تصريف الأعمال قصيرة نسبياً. ولم يختلف الأمر إلا مرة واحدة، بفعل الأزمة الحاصلة في نهاية الستينيات بسبب الخلاف حول الوجود الفلسطيني المُسلَّح. آنذاك، استقالتْ حكومة الرئيس الراحل رشيد كرامي في 25 نيسان 1969 واستمرَّ تصريف الأعمال حتى 25 تشرين الثاني 1969، بعدما تمكَّن الرئيس كرامي من تشكيل حكومة جديدة بعد توقيع اتفاق القاهرة الشهير الذي ينظِّم العمل المُسلَّح للفدائيين الفلسطينيين.

لن يعرف لبنان أزمات شبيهة إلا بعد 2005، وهي أزمات ستتكرَّر بشكل مُطَّرد وستكون على درجة أكبر من الحِدِّية، إن كان لناحية مدتها أو تداعياتها على حياة الدولة. فبينما كانت مدة تشكيل الحكومات بعد 1990 تتراوح بين يومَيْن كحدٍّ أدنى (حكومة سليم الحص سنة 1998) و14 يوماً كحدٍّ أقصى (حكومة رفيق الحريري الأخيرة في عهد الرئيس الياس الهراوي سنة 1996)، نلاحظ أنّ تشكيل الحكومة بعد 2005 بات يحتاج إلى أشهر طويلة. وهكذا يمكن لنا تحديد العدد التراكمي لأيام تصريف الأعمال وفقاً لما يلي:

  • حكومة فؤاد السنيورة الأولى (19 تموز 2005) استغرق تشكيلها 20 يوماً وحصلت على الثقة بعد عشرة أيام؛
  • حكومة فؤاد السنيورة الثانية (11 تموز 2008) استغرق تشكيلها 45 يوماً وحصلت على الثقة بعد 29 يوماً؛
  • حكومة سعد الحريري الأولى (9 تشرين الثاني 2009) استغرق تشكيلها 135 يوماً وحصلت على الثقة بعد 30 يوماً؛
  • حكومة نجيب ميقاتي الثانية (13 حزيران 2011) استغرق تشكيلها 140 يوماً وحصلت على الثقة بعد 23 يوماً؛
  • حكومة تمام سلام (15 شباط 2014) استغرق تشكيلها 315 يوماً وحصلت على الثقة بعد 28 يوماً؛
  • حكومة سعد الحريري الثانية (18 كانون الأوّل 2016) استغرق تشكيلها 46 يوماً وحصلت على الثقة بعد عشرة أيام؛
  • حكومة سعد الحريري الثالثة (31 كانون الثاني 2019) استغرق تشكيلها 252 يوماً وحصلت على الثقة بعد 15 يوماً؛
  • حكومة حسان دياب (21 كانون الثاني 2020) استغرق تشكيلها 85 يوماً وحصلت على الثقة بعد 21 يوماً؛
  • حكومة نجيب ميقاتي الثالثة (10 أيلول 2021) استغرق تشكيلها 396 يوماً من استقالة حكومة حسان دياب، عقب جريمة انفجار المرفأ في ظلِّ أزمة سياسية-اقتصادية غير مسبوقة يشهدها لبنان، وحصلت على الثقة بعد عشرة أيام.

ممّا تقدَّم، يتبيَّن لنا أنّ لبنان عاش بين تموز 2005 وأيلول 2021 في ظلِّ حكومات تقوم بتصريف الأعمال ما مجموعه 1610 يوماً، أي أكثر من 53 شهراً (4.5 سنوات)، ما يقارب 100 يوم كمعدَّل سنوي. وتظهر فداحة هذا الواقع عند المقارنة مع الجمهورية الرابعة في فرنسا (1946-1958)، التي اشتهرت بعدم استقراراها السياسي وكثرة الأزمات الحكومية، حيث قارب المعدل السنوي 39 يوماً ووصلت مدة تصريف الأعمال إلى ما مجموعه 459 يوماً[1].

ولا شك أنّ الفترات الطويلة لتصريف الأعمال بعد 2005 تعكس في حقيقة الأمر الخلل الجسيم في النظام السياسي اللبناني، الذي بات عاجزاً عن تأمين تداول منتِظم وديمقراطي للسلطة بدون تعريض مصالح الدولة والمواطنين للخطر، عبر تعطيل المرافق العامة وفَتحِ المجال لاعتباطية المسؤولين الذين يجدون في تصريف الأعمال الذريعة الدستورية الأمثل للدفاع عن مصالحهم السلطوية في إطار التوازن السياسي القائم بين أركان النظام.

على ضوء ما تقدَّم، يصبح جلياً أنّ معالجة مسألة تصريف الأعمال تحتاج إلى تبنّي مقاربة تجمع بين التحليل الدستوري المُجرَّد ومراقبة كيف تطبّق السلطة السياسية فعلياً مفهوم تصريف الأعمال، إذ وحدها، هذه المقاربة، تتيح لنا التمييز بين الاعتبارات القانونية والدوافع السياسية التي قد تجعل من تصريف الأعمال وسيلة استنسابية بِيَد مَن يملك القرار.

ثانياً: المُرتكَز الدستوري لتصريف الأعمال

نصَّتْ الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور صراحة على التالي: “لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”· وقد أُدخِل هذا النص في متن الدستور سنة 1990 عقب تعديلات “وثيقة الوفاق الوطني” التي أُقِرّت في مدينة الطائف.

لكنّ خلوَّ الدستور قبل ذلك التاريخ من مفهوم تصريف الأعمال لم يكن يعني أنّ النظام القانوني اللبناني كان يجهل مبدأ تصريف الأعمال في ظلِّ حكومة مستقيلة. فقد كرَّس القضاء الإداري قبل 1990، في أكثر من قرار له، هذا المبدأ متأثِّراً بالتجربة الفرنسية المديدة خلال الجمهوريَّتَيْن الثالثة (1875-1940) والرابعة (1946-1958)، لا سيما أنّ الدستور اللبناني الذي أُقِرَّ سنة 1926 يتبنّى قواعد النظام البرلماني ذاتها التي كانت سائدة في فرنسا حينها. لكنّ الاختلاف الجوهري قبل وبعد 1990 يكمن أيضاً في نص الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور التي تفرض على “الحكومة أن تتقدَّم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها”، أي أنّ الحكومة باتت مُلزَمة بطلب ثقة البرلمان ضمن مهلة زمنية محدَّدة بعد تشكيلها، بينما لم تكنْ مقيَّدة بمثل هكذا شرط قبل 1990 على الرغم من أنّ الحكومات كانت، عملاً بممارسة مُتَّبعة، تطلب دائما ثقة مجلس النواب ضمن فترة زمنية قصيرة تعقب صدور مرسوم تشكيلها.

إنّ اقتصارَ مهام الحكومة المستقيلة على تصريف الأعمال حلٌّ ينسجم مع المنطق الدستوري للنظم البرلمانية، حيث تتجسَّد فعلاً السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء. فعندما تفقد أيّ جهة إدارية رسمية سلطتها، لأيّ سبب كان، تنتقل صلاحياتها في المبدأ مباشرة إلى الجهة الجديدة التي جرى انتخابها أو تعيينها كي تخلفها في وظيفتها. لكن، عندما لا يكون هذا الانتقال تلقائياً بسبب طبيعة تلك الجهة يمكن، وفقاً لمبادئ القانون الإداري، اعتماد أحد الحلول المؤقَّتة التالية:

  • الوكالة (intérim)، وهو قيام السلطة المختصة بتعيين الأصيل بتدارك غياب هذا الأخير عبر تعيين بديل عنه يقوم بممارسة وظيفته وكالة. والوكيل يتمتَّع في المبدأ بكل صلاحيات الأصيل؛
  • الإنابة (suppléance)، وهو وجود نص تشريعي أو تنظيمي خاص يحدِّد مُسبقاً الجهة التي ستتولى ممارسة صلاحيات الأصيل لدى غيابه. والشخص الذي يمارس صلاحياته بالإنابة يتمتَّع في المبدأ بكل صلاحيات الأصيل، إلا إذا تضمن النص التشريعي أو التنظيمي المعني ما يفيد الحدّ من تلك الصلاحيات؛
  • تصريف الأعمال (expédition des affaires courantes)، وهو استمرار الجهة ذاتها التي فقدت صلاحياتها في أداء واجباتها، لكن من دون أن تتمتَّع بكامل صلاحياتها القانونية، ريثما تَحلُّ محلَّها سلطة جديدة[2].

وهكذا يتبيَّن لنا أنّ تصريف الأعمال هو الحلّ المنطقي الوحيد الذي ينسجم مع قواعد النظام البرلماني، إذ لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يعيِّن “حكومة بالوكالة”. كما لا يوجد أيّ نص دستوري يحدِّد الجهة التي ستتولى صلاحيات الحكومة بالإنابة، هذا فضلاً عن أنّ انتقال صلاحيات الحكومة القديمة إلى الحكومة الجديدة لا يحصل بشكل تلقائي لأنّ تشكيل هذه الأخيرة يتطلَّب وقتاً يحدِّده التوازن السياسي القائم بين الأحزاب المُمثَّلة في البرلمان. لذلك، ومن أجل تفادي الفراغ، كان لا بد من بقاء الحكومة المستقيلة بغية تصريف الأعمال الجارية.

وفي النهاية، لا بد من معالجة نقطة مُبهَمة بعض الشيء تتعلق في تاريخ بدء تصريف الأعمال. فهل هو يبدأ من لحظة تقديم رئيس الحكومة استقالته، أو من تاريخ قبول رئيس الجمهورية هذه الاستقالة؟ لا تطرح هذه النقطة إشكالية عندما تُعتبَر الحكومة مستقيلة في الحالات التي تعدِّدها المادة 69 من الدستور، كما يحصل عند بدء ولاية رئيس الجمهورية أو عند بدء ولاية مجلس النواب، كون الاستقالة هي حُكمية بمجرَّ حدوث الشرط الذي يضعه الدستور، من دون تدخُّل إرادة بشرية. لكن، عندما يتقدَّم رئيس الحكومة باستقالته يُوجَد، منطقياً، فاصل زمني بين لحظة تقديمه استقالته وقبول رئيس الجمهورية تلك الاستقالة.

إنّ التشديد على الفرق بين قبول الاستقالة واعتبار الحكومة مستقيلة حكماً، في جميع الحالات المحدَّدة دستورياً، لا يعني أنّ رئيس الجمهورية يحق له رفض الاستقالة الصريحة المقدَّمة من رئيس الحكومة. لكنّ الإبقاء عليها أمر ضروري للسماح لرئيس الجمهورية بممارسة حرية تقدير محدودة، تتيح له تعليق الاستقالة في الظروف الاستثنائية كما حدث عندما أُرغِم الرئيس سعد الحريري على تقديم استقالته من السعودية، أو تتيح لرئيس الحكومة المستقيل العودة عن استقالته. فرئيس الجمهورية فعلياً لا يرفض الاستقالة، لكنّه يؤجِّل قبولها لوقت قصيرأو يطلب من رئيس الحكومة التريُّث في قراره بغية العودة عن استقالته.

ولا بد من التشديد على أنّ أهمية البيان الذي يصدر عن رئاسة الجمهورية بقبول الاستقالة تكمن في جعل الاستقالة نهائية ولا رجوع عنها . فمجرَّد إعلان رئيس مجلس الوزراء استقالته يعني أنّ مجلس النواب لم يعد بمقدوره محاسبة الحكومة ونزع الثقة عنها، أي أنّ إعلان الاستقالة يحرِّر السلطة التنفيذية من رقابة البرلمان، التي تُعتبَر من بديهيات النظم الديمقراطية، ما يستتبع فقدان الحكومة لصلاحياتها التنفيذية الكاملة والعادية. لكنّ صدور البيان عن رئاسة الجمهورية يجعل من الاستقالة نهائية ولا عودة عنها، علماً أنّ ذلك يجب أن يتم في المبدأ خلال مهلة قصيرة جداً.

وفي معرض شرحه لمفهوم تصريف الأعمال، أكّد مجلس شورى الدولة ضمنياً على ذلك، إذ اعتبر أنّ حكومة الرئيس عمر كرامي “قدَّمت استقالتها أمام المجلس النيابي في تاريخ 28/2/2005” (قرار رقم 575 تاريخ 32/5/2007)، أي أنّه اعتبر أنّ تصريف الأعمال يبدأ منذ إعلان الاستقالة، بينما قبول رئيس الجمهورية للاستقالة يعني أنّ الاستقالة أصبحت نهائية ولا عودة عنها. مع الإشارة إلى أنّ الممارسة الدستورية في لبنان تساهم في اللغط الحاصل طالما أنّ مرسوم قبول الاستقالة لا يصدر مع بيان رئاسة الجمهورية بقبول الاستقالة، بل لاحقاً في النهار نفسه لتشكيل الحكومة الجديدة. فرئيس الجمهورية يقبل الاستقالة ويعلن عنها في بيان ثم، بعد مرور فترة زمنية قصيرة أو طويلة، يُصدِر مرسوماً بقبول الاستقالة، أي أنّ تكريس قبول الاستقالة دستورياً بمرسوم لا يتم في تاريخ البيان، الذي يعلن فعلياً نهائية الاستقالة. وعلى سبيل الاستطراد، أعلن مفوَّض الحكومة لدى مجلس شورى الدولة “أنّ صلاحيات الحكومة تقتصر على تصريف الأعمال منذ تاريخ إعلان تقديم الاستقالة” (قرار رقم 522 تاريخ 5/5/1999).

ثالثاً: المسوِّغ السياسي لمفهوم تصريف الأعمال

يتبع لبنان النظام البرلماني الذي يقوم على ركيزة أساسية مفادها مسؤولية السلطة التنفيذية أمام مجلس النواب أي ارتباط ممارسة الحكومة لصلاحياتها بحصولها على ثقة السلطة التشريعية. ولمّا كانت هذه الثقة لا تتجسَّد فقط عند منحها، بل تمتد بمفاعيلها لتشمل عمر الحكومة برمّته، كان من البديهي اقتران ممارسة سلطة هذه الأخيرة بدوام مسؤوليتها أمام مجلس النواب. لذلك تؤدّي استقالة الحكومة أو اعتبارها بحكم المستقيلة إلى زوال هذه المسؤولية ما يضعها خارج الرقابة السياسية للسلطة التشريعية التي تفقد بالتالي قدرتها على سحب ثقتها من الحكومة. وبما أنّ السلطة لا تُمنَح إلا لجهة تخضع للمحاسبة، ولمّا كانت مسألة حجب الثقة هي الآلية المُتَّبعة في القانون الدستوري لتجسيد مبدأ المسؤولية هذا، بات من البيِّن لدينا أنّ الحد من صلاحيات الحكومة المستقيلة نتيجةٌ منطقية تفرضها الطبيعة البرلمانية للنظام. وليس تصريف الأعمال في نهاية المطاف سوى الحد من صلاحيات السلطة التنفيذية طوال فترة انعدام رقابة مجلس النواب عليها.

وقد أقرّ مجلس شورى الدولة في لبنان هذا المبدأ إذ أعلن في قراره الشهير رقم 334/614 (راشد/الدولة تاريخ 17/12/1969) التالي: “وحيث إنّ مسؤولية الحكومة تنتهي في الحالات المبيَّنة آنفاً ومنها الاستقالة وحيث أنّ زوال المسؤولية هو الذي يحدِّد نطاق ’الأعمال العادية‘ التي يُوْكَل إلى الوزارة المستقيلة تصريفها إذ أنّ السماح بتجاوز نطاق هذه الأعمال يؤدّي إلى قيام حكومة غير مسؤولة بأعمال تخضع للمسؤولية مع ما يترتَّب على هذا التجاوز من مخالفة أحكام الدستور وقواعد نظام الحكم التي يعتمدها…”.

من جهة أخرى، يُشكِّل تصريف الأعمال ضرورة، إذ إنّ تقليص صلاحيات الحكومة، وحصرها في نطاق ضيِّق، يجب ألّا يؤدّي إلى الإضرار بمصلحة الدولة عبر تعطيل عمل المؤسسات وتهديد استمرارية المرفق العام. لذلك تُعتبَر ممارسة الحكومة لصلاحيات ما رغم الحد منها بعد استقالتها شرطاً ضرورياً، إذ لا يُعقَل القبول بالفراغ المُطلَق في السلطة إلى حين تشكيل حكومة جديدة، علماً أنّ ذلك يجب ألّا يُشكِّل ذريعة للحكومة كي تمارس كامل صلاحياتها بدون رقابة، بحجّة استمرار المرفق العام.

وقد أشار مجلس شورى الدولة الفرنسي إلى هذا الربط بين تصريف الأعمال واستمرار المرفق العام في أوّل قرار له يتطرَّق إلى مسألة تصريف الأعمال بشكل صريح[3]. وقد ذهب مجلس شورى الدولة اللبناني المذهب نفسه فأعلن أيضاً: “وحيث أنّ تطبيق مفاعيل الاستقالة أو الإقالة على إطلاقه يؤدّي إلى قيام فراغ في الحكم في الفترة التي تسبق تشكيل وزارة جديدة مع ما يترتَّب على هذا الفراغ من تعطيل أعمال السلطة التنفيذية ووقف إدارة مصالح الدولة المنوطة بالوزراء (…) وحيث أنّه تجنُّباً للأخطار والمحاذير التي تنشأ عن الفراغ في الحكم جرى العرف الدستوري على أن يكلِّف رئيس الجمهورية الوزارة المستقيلة بالبقاء في الحكم إلى أن تتألف الوزارة الجديدة ويحدّد نطاق أعمالها بما يسمى “تصريف الأعمال العادية”. وقد أصبح هذا العرف مبدأ أصيلاً من مبادىء القانون العام واجب التطبيق في حالات فقدان الوزارة كيانها الحكومي المشروع ومن بينها حالة الاستقالة…” (راشد/الدولة).

ومن المسوِّغات السياسية التي تشرح مفهوم تصريف الأعمال، منعُ الحكومة المستقيلة من اتخاذ تدابير تلزم الحكومة الجديدة المُزمَع تشكيلها وتحدّ من حريتها بممارسة كامل صلاحياتها الدستورية عند نيلها الثقة. إذ بإمكان الحكومة المستقيلة “القيام بالأعمال التي لا ترتبط بسياسة الدولة العليا والتي ليس من شأنها تقييد حرية الحكومة اللاحقة في انتهاج السياسة التي تراها أفضل للوطن…” (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 700 تاريخ 15/5/1995، منصور حنا هنود/الدولة).

واعتبر مجلس شورى الدولة في أكثر من قرار له أنّ الحكومة المستقيلة تستمر بممارسة قسط وافر من صلاحياتها “حتى تتسلم الحكومة اللاحقة مهامها لأنّ الأعمال العادية تشمل جميع الأعمال التي ترتدي طابع العجلة وسائر الأعمال التي لا تنطوي على خيار سياسي ولا تثير صعوبة خاصة، وبعبارة أخرى تستطيع الحكومة المستقيلة اتخاذ التدابير التي لا تثير مراقبة أو مسؤولية الحكومة أمام المجلس النيابي” (قرار رقم 478 تاريخ 30/11/1977 كذلك القرار رقم 194 تاريخ 5/12/2013).

رابعاً: نطاق تصريف الأعمال

كان الدستور اللبناني قبل تعديله سنة 1990 خالياً من مفهوم تصريف الأعمال، لا سيما أنّ السلطة الإجرائية كانت بيد رئيس الجمهورية ممّا حد نظرياً من أهمية هذا المبدأ. لكنّ الدستور، حتى بعد تعديله، اكتفى فقط بالإشارة إلى أنّ الحكومة المستقيلة لا تمارس صلاحياتها إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال من دون تحديد ما هو المعيار الواجب اتباعه بغية التفريق بين ما يدخل في تصريف الأعمال وما يخرج عنه، الأمر الذي حتَّم على القضاء الإداري أن يستنبط من خلال اجتهاده هذا المعيار.

وبالفعل جاءت الأزمة الحكومية التي عرفها لبنان سنة 1969 لأكثر من سبعة أشهر عقب استقالة الرئيس رشيد كرامي كي تتيح هذه الفرصة لمجلس شورى الدولة. فقد تقدَّم فؤاد اسكندر راشد، رئيس الديوان في المديرية العامة لوزارة البرق والبريد والهاتف، بطعن ضد قرار نقله إلى بيروت مدَّعياً أنّ الوزير لم يكن يحق له اتخاذ مثل هكذا إجراء كونه ينتمي إلى حكومة مستقيلة. وبالفعل، قسّم المجلس في قراره “راشد ضد الدولة” أعمال الحكومة إلى الفئات التالية:

  • الأعمال العادية الإدارية (actes de gestion): “أي الأعمال اليومية التي يعود إلى الهيئات الإدارية إتمامها ويتعلق إجراؤها في الغالب على موافقة هذه الهيئات كتعيين ونقل الموظفين وتصريف الأعمال الفردية التي لا يمارس عليها الوزير سوى إشراف محدود”؛
  • الأعمال التصرُّفية (actes de disposition) في الظروف العادية: وهي تلك التي ترمي إلى “إحداث أعباء جديدة أو التصرف باعتمادات هامة أو إدخال تغيير جوهري على سير المصالح العامة أو في أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت طائلة المسؤولية الوزارية”، لذلك لا تدخل الأعمال التصرُّفية في نطاق تصريف الأعمال ولا يجوز للحكومة المستقيلة أن تقوم بها؛
  • الأعمال التصرُّفية التي يجوز اتخاذها: وهي تلك التي تفرضها الأوضاع الاستثنائية التي تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، وكذلك الأعمال الإدارية “التي يجب إجراؤها في مهل محددة بالقوانين تحت طائلة السقوط والإبطال”، ما يسمح للحكومة المستقيلة باتخاذ تدابير ضرورية تخرج عن تصريف الأعمال. “وفي هذه الحالات تخضع تدابير الوزارة المستقيلة وتقدير ظروف اتخاذها إياها إلى رقابة القضاء الإداري بسبب فقدان الرقابة البرلمانية وانتفاء المسؤولية الوزارية”.

وفي توضيح إضافي صدر بعد التعديلات التي أدخلتها “وثيقة الوفاق الوطني”، اعتبر مجلس شورى الدولة أنّ المشترِع التأسيسي تدخَّل سنة 1990 مكرِّساً، دستورياً، مفهوم تصريف الأعمال حاصراً إيّاه بالأعمال الجارية بطبيعتها أي تلك “المتعلقة بالقرارات اليومية التي تحضّرها الدوائر والتي يكتفي الوزير بتوقيعها بعد تدقيق موجز أو تلك التي تتعلق بتسيير الأمور العادية والأعمال الروتينية التي لا يمكن تجميدها طيلة مدة عدم وجود حكومة مسؤولة منعاً لشلّ المرفق العام” (قرار 522 تاريخ 5/5/1999 كذلك القرار رقم 575 تاريخ 31/5/2007).

ولا شك أنّ نطاق تصريف الأعمال لا يمكن حصره بشكل واضح ودقيق في لائحة محدَّدة مُسبقاً، ليس فقط لانعدام وجود مثل تلك اللائحة، بل أيضاً لاستحالتها، كون اتخاذ القرارات الإدارية غالباً ما يتم في ظروف تفرِض تقدير طبيعته لحظة إصداره من قِبَل المرجع المختص. وكان رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب قد أعلن في بيان في تاريخ 24 آذار 2021 التالي: “إنّ الجدل القائم حول صلاحيات حكومة تصريف الأعمال يؤكّد الحاجة إلى تفسير دستوري يحدِّد سقف تصريف الأعمال ودور الحكومة المستقيلة في ظل الواقع القائم الناتج عن تأخُّر تشكيل حكومة جديدة. وإنّ هذا التفسير هو في عهدة المجلس النيابي الكريم الذي يمتلك حصراً هذا الحق، كما أكّد المجلس نفسه سابقاً”.

لا يكتفي هذا البيان بمنح مجلس النواب صلاحية لا يملكها، أي فرض تفسير ملزِم للدستور على سائر السلطات الدستورية، لكنّه يرتكب أيضاً مغالطة خطيرة، كونه يعتبر أنّ نطاق تصريف الأعمال يحدِّدُه مجلس النواب. وهو أمر غير صحيح لأنّ ذلك يعني: أوّلاً، منح السلطة التشريعية القدرة على تحديد فحوى صلاحيات السلطة التنفيذية ما يُخلّ بمبدأ الفصل بين السلطات، وهو ثانياً، يخالف اجتهاد مجلس شورى[4] الدولة الذي اعتبر في أكثر من قرار له أنّ نطاق تصريف الأعمال يحدِّده القضاء الإداري، الذي يراقب الأعمال التي تتخذها الحكومة والوزراء، ويتحقق ما إذا كانت أعمالاً عادية يجوز اتخاذها أو أعمالاً تصرُّفية تخرج عن نطاق تصريف الأعمال. فالمرجع لتحديد نطاق تصريف الأعمال هو السلطة القضائية المُتمثِّلة في مجلس شورى الدولة وليس مجلس النواب الذي تحكمه الاعتبارات السياسية المُتبدِّلة وفقاً للمصالح والأهواء الحزبية.

خامساً: تداعيات تصريف الأعمال على مجلس الوزراء

لا شك أنّ تحوُّل الحكومة إلى تصريف الأعمال عقب استقالتها سينعكس على عمل السلطة التنفيذية التي تتجسَّد في مجلس الوزراء، بحيث يتم الحد من صلاحيات هذا الأخير بشكل كبير. وقد فُسِّر هذا الحد في لبنان بفقدان مجلس الوزراء قدرته على الاجتماع وممارسة صلاحياته المحدَّدة في الدستور والقوانين العادية.

وقد طُرِح هذا الموضوع للمرة الأولى مع الأزمة الحكومية التي اندلعت سنة 1969، بعد استقالة الرئيس رشيد كرامي، عندما أُثيرَت مسألة إحالة مشروع الموازنة إلى مجلس النواب. فمن المعلوم “أنّ هذه الإحالة إنّما تتمّ بمرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء، وإذ إنّ هذا المجلس كان قد بقي، مدة أشهر، بدون انعقاد، بسبب استقالة الوزارة، فاضطر إلى عقد جلسة في 4 تشرين الأوّل سنة 1969، اتخذ في خلالها المرسوم اللازم بإحالة مشروع الموازنة إلى مجلس النواب. وهو اجتهاد كان في محله، لأنّ ضرورة الاستعجال باتخاذ ذلك المرسوم، تحت طائلة انقضاء المهلة المحددة وجوبياً في المادة 86 من الدستور، قد أضفت على هذا العمل صفة الأعمال العادية، التي بوسع الوزارة المستقيلة إجراؤها”[5].

وهكذا يتبيَّن لنا أنّ السلطة التنفيذية هي المُخوَّلة بالاجتهاد في تفسير نطاق تصريفها للأعمال على أن تخضع قراراتها لرقابة القضاء الإداري. وقد عرف لبنان سوابق[6] أخرى من هذا القبيل سنة 1979 عندما اجتمعت حكومة الرئيس سليم الحص المستقيلة لإقرار مجموعة من مشاريع القوانين المستعجِلة، وأخيراً سنة 2013 عندما أقرّت حكومة الرئيس ميقاتي المستقيلة تشكيل الهيئة العامة للإشراف على الانتخابات. فالظروف الاستثنائية تسمح للحكومة المستقيلة باستعادة هذا الجزء من صلاحياتها الضروري لتدارك الظرف الاستثنائي.

ومنذ 2005 دخل لبنان في مرحلة من الأزمات السياسية المفتوحة، التي باتت تتكرّر عند كل استحقاق دستوري، كالفترة الزمنية الطويلة جداً التي يستغرقها تشكيل حكومة جديدة، الأمر الذي كان لا بد، في نهاية المطاف، أن ينعكس على مفهوم تصريف الأعمال. فقد اعتبر مجلس شورى الدولة أنّ ” نظرية تصريف الأعمال هي نظرية مُعَدّة للتطبيق خلال فترة زمنية محدَّدة انتقالية يجب أن لا تتعدى الأسابيع أو حتى الأيام. وإنّ تمدُّدها لفترة أطول لا بد أن ينعكس على مفهومها برمّته حتى يستطيع تحقيق الهدف منها وهو تأمين استمرارية الدولة ومصالحها العامة ومصالح المواطنين. وبما أنّ هذه الفترة الانتقالية عندما تمتد لعدة أشهر فإنه يصبح من الواجب التعامل مع هذا الواقع بشكل يسمح للحكومة تأمين استمرارية المرافق العامة وتأمين مصالح المواطنين التي لا يمكن أن تنتظر لمدة أطول خاصة إذا كانت مستوفية لكافة الشروط المفروضة في القوانين والأنظمة وهي تؤمّن مصالح فردية مشروعة دون أن يكون لها الطابع التنظيمي العام أو تحدّ من حقّ الحكومة المقبلة في ممارسة صلاحياتها الاستنسابية (قرار رقم 349 تاريخ 23/2/2015)[7].

فتصريف الأعمال لفترة طويلة يؤدّي إلى إيجاد وضع قانوني يختلف بمفاعيله عن اقتصار تصريف الأعمال على مهلة زمنية بسيطة كون القرارات التي سيكون على الحكومة المستقيلة اتخاذها ستزداد مع الوقت، وستصبح أكثر إلحاحاً مع تفاقم المشكلات التي يجب على الدولة مواجهتها، لا سيما عندما يكون المجتمع يمر بأزمات اجتماعية واقتصادية خانقة.

وقد برز الخلاف بشكل حاد بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب كون هذا الأخير أصرّ على عدم جواز انعقاد مجلس الوزراء في ظل تصريف الأعمال. فقد صدر عن المديرية العامة لرئاسة الجمهورية في تاريخ 13/8/2021 بيان حول أزمة المحروقات جاء فيه التالي: “وبما أنّ تصريف الأعمال بالمعنى الضيق لا يحول على الإطلاق دون انعقاد مجلس الوزراء عند توافر عناصر الضرورة القصوى، لذلك، يدعو السيد رئيس الجمهورية مجلس الوزراء إلى الانعقاد بصورة استثنائية للضرورة القصوى بالتوافق مع السيد رئيس مجلس الوزراء، على أن تُخصَّص هذه الجلسة لمعالجة أسباب هذه الأزمة وتداعياتها وذيولها الخطيرة”.

لكنّ رئيس الحكومة حسان دياب رفض طلب رئيس الجمهورية في بيان صدر في اليوم نفسه، جاء فيه: “بما أنّ الحكومة مستقيلة منذ 10 آب 2020، والتزاماً بنص المادة 64 من الدستور التي تحصر صلاحيات الحكومة المستقيلة بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال، ومنعاً لأيّ التباس، فإنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال الدكتور حسان دياب ما زال عند موقفه المبدئي بعدم خرق الدستور، وبالتالي عدم دعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع”.

من المُلاحَظ أنّ المعيار المُتَّبع من قبل السطة الحاكمة للتفريق بين الأعمال التي تدخل في تصريف الأعمال وتلك التي تخرج عنه معيارٌ شكلي فقط. فالقررات التي تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء تُعتبَر خارجة عن تصريف الأعمال، بينما تلك التي يصدرها رئيس الجمهورية بمراسيم عادية بدون المرور بمجلس الوزراء تصبح من ضمن تصريف الأعمال.

ولا شك أنّ هذا المعيار الشكلي المُطلَق غير سليم كون تصريف الأعمال مسألة تتعلق بموضوع القرار المُتَّخذ ومدى ضرورته وليس بكيفية إقراره، سواء تم ذلك في مجلس الوزراء أو خارجه.  وما يؤكّد هذا الأمر أنّ التفريق بين المراسيم العادية وتلك التي تُتَّخذ في مجلس الوزراء يعود إلى الدستور أوّلاً، الذي يعدِّد مجموعة من المراسيم التي لا يمكن إصدارها إلا بعد موافقة مجلس الوزراء، وإلى القانون ثانياً، الذي يحدِّد أيضاً ما إذا كان المرسوم يجب أن يُتَّخذ في مجلس الوزراء، أو يتم الاكتفاء بإصداره من قِبَل رئيس الجمهورية بناء على اقتراح الوزير المختص فقط. أي أنّ السند القانوني هنا للتفريق بين المراسيم هو القانون، ما يعني أنّ لا شيء يمنع تعديل القانون بحيث يتحوَّل المرسوم العادي إلى مرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء أو العكس، شريطة عدم مخالفة الدستور. وبالتالي، في حال سلَّمنا بأنّ معيار تصريف الأعمال هو اتخاذ القرار في مجلس الوزارء، فإنّ ذلك يعني أنّ مجلس النواب هو الذي يحدِّد تلقائياً ومُسبقاً للسلطة التنفيذية نطاق صلاحياتها بخصوص تصريف الأعمال، ما يؤدّي إلى انتفاء الغاية التي من أجلها وُجِد مبدأ تصريف الأعمال الذي يُحدَّد في إطار السياق الخاص لمضمون كل قرار لحظة اتخاذه. فالمراسيم العادية قد تُعتبَر من الأعمال التصرُّفية التي لا يجوز اتخاذها خلال تصريف الأعمال، بينما قد تدخل بعض المراسيم التي يجب إقرارها في مجلس الوزراء ضمن الأعمال العادية التي يجوز اتخاذها، لا سيما أنّ انعقاد مجلس الوزراء هو موجب يفرضه الدستور وليس خياراً يُترَك لمزاجية الأفراد الذين يتولون السلطة.

سادساً: تداعيات تصريف الأعمال على مجلس النواب

إذا كان من البديهي أن ينعكس تصريف الأعمال على عمل مجلس الوزراء، فإنّ تداعيات استقالة الحكومة على مجلس النواب تثير مسألة أكثر إشكالية تتعلق بجواز ممارسة السلطة التشريعية لمهامها في ظل سلطة تنفيذية مستقيلة عملاً بمبدأ التوازن بين السلطات وتعاونها المنصوص عليه في الفقرة “هـ” من مقدِّمة الدستور.

وقد أُثيرَت هذه المسألة لأوّل مرة بشكل صريح في السؤال الذي وجَّهه رئيس مجلس النواب حسين الحسيني إلى إدمون رباط حول جواز التشريع في ظل حكومة مستقيلة. وجاء في جواب هذا الأخير في 5 أيار 1988 الآتي: “السلطة التشريعية مستقلّة عن السلطة التنفيذية ويتوجّب عليها أن تستمر بممارسة صلاحياتها الدستورية، بقدر ما تسمح لها الظروف السياسية. وإذا كانت السلطة التنفيذية في حالة من الشلل والانقسام، فلا تؤلف هذه الحالة ولا يجوز أن تؤلف عائقاً أو عذراً لكي تسير السلطة التشريعية على منوالها”[8]. وهكذا يصل رباط إلى خلاصة مفادها أنّ مجلس النواب يحتفظ بكامل سلطته التشريعية وجميع أعماله سليمة من أيّ شائبة ولا يطالها أيّ اعتراض.

لكنّ اجتهاد رباط جاء قبل تعديلات سنة 1990 التي أدخلت نصاً فريداً له تداعيات مهمة على علاقة السلطتَيْن التشريعية والتنفيذية. فقد نصّت الفقرة الأخيرة من المادة 69 الجديدة على التالي: “عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة يصبح مجلس النواب حكماً في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة”. ما يعني أنّ هذا العقد الحكمي ليس مخصَّصاً في المبدأ كي يمارس مجلس النواب فيه صلاحياته التشريعية، بل فقط لمنح الحكومة الثقة عند تشكيلها.

فإذاً كانت الممارسة قبل 1990 أجازت التشريع عندما تكون الحكومة مستقيلة، لكنّ ذلك كان يحصل إمّا خلال دورات انعقاد مجلس النواب العادية، أي دورة تشرين الأوّل التي تمتد حتى نهاية السنة ودورة آذار التي تنتهي في نهاية أيار، وإمّا خلال الدورات الاستثنائية التي يصدر مرسوم عن رئيس الجمهورية بفتحها. لكنّ الوضع القانوني الذي استجدّ بعد 1990 هو اعتبار مجلس النواب في دورة استثنائية حكمية مفتوحة عند استقالة الحكومة ما يطرح مباشرة السؤال التالي: هل يحق لمجلس النواب التشريع في هذا العقد الحكمي، حتى لو كان تاريخ الجلسة يقع خارج دورات الانعقاد العادية، أو أنّ ذلك يتطلّب فتح دورة استثنائية بمرسوم خاص؟

وبالفعل عقد مجلس النواب جلسة تشريعية في 18 تموز 2005، عندما كانت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مستقيلة، من أجل إقرار قوانين تَوافَق عليها أركان النظام كالعفو العام عن سمير جعجع والموقوفين بأحداث الضنية. لكنّ هذه الجلسة، بحكم أنّها كانت خارج دورات المجلس العادية، لم تُعقَد إلا بعد صدور المرسوم رقم 14922 تاريخ 8 تموز 2005 الذي فتح دورة استثنائية لمجلس النواب استمرّت حتى 17 تشرين الأوّل 2005، أي أنّ مجلس النواب لم يمارس صلاحياته التشريعية خارج الدورات العادية إلا بعد صدور مرسوم خاص بفتح عقد استثنائي رغم أنّه كان في دورة انعقاد حكمية بسبب استقالة الحكومة.

وقد تكرّر الأمر سنة 2013 عندما رفض أيضاً رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي توقيع مرسوم فتح دورة استثنائية لمجلس النواب كي يتمكّن هذا الأخير من التشريع، بينما أصرّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي على حق مجلس النواب بإقرار القوانين خارج الدورات العادية، ومن دون صدور مرسوم بفتح عقد استثنائي كون مجلس النواب هو في دورة انعقاد حكمية وفقا للمادة 69 من الدستور، ما يسمح له بممارسة صلاحياته التشريعية كاملة. وتأكيداً على موقفه دعا الرئيس برّي مجلس النواب إلى جلسة تشريعية في الأوّل من تموز 2013 لكنّها لم تُعقَد بسبب فقدانها للنصاب نتيجة مقاطعة نواب تيار المستقبل والقوات والكتائب والتيار الوطني الحر. وكان تيار المستقبل قد اعتبر أنّ مجلس النواب لا يحق له التشريع في ظل حكومة مستقيلة إلا للضرورة، لأنّ هذه الأخيرة لا يمكنها الكلام للدفاع عن نفسها أو رفض اقتراحات القوانين أمام النواب، مشترطاً التوافق على جدول الأعمال قبل انعقاد الجلسة، وحصره ببند وحيد يتعلق برفع سن التقاعد للقادة العسكريين بغية تمديد ولاية قائد الجيش حينها العماد جان قهوجي. وكرّر الرئيس برّي دعوة مجلس النواب إلى جلسات تشريعية بجدول أعمال عادي، في 16 تموز ثم 29 تموز، لكنّها لم تُعقَد بسبب مقاطعتها مجدداً وفقدانها النصاب.

ولا بد من الإشارة إلى أنّ هذا الخلاف الدستوري لم يمنع التوافق السياسي بين أركان السلطة عندما تلاقت مصالحهم على عقد جلسة تشريعية للتمديد لمجلس النواب في 31 أيار 2013، في ظل حكومة تصريف الأعمال نفسها بذريعة الأوضاع الاستثنائية التي تمر بها البلاد. وتكرّر هذا التوافق السياسي في 24 أيلول 2018 عندما عقد مجلس النواب جلسة تشريعية في ظل حكومة سعد الحريري المستقيلة خارج الدورات العادية، ومن دون صدور مرسوم بفتح عقد استثنائي. وقد انعقدت الجلسة تحت عنوان “تشريع الضرورة” لكنّها في الحقيقة ناقشت 29 بنداً عادياً من دون أيّ اعتراض من تيار المستقبل أو سواه. واستمرّ التوافق السياسي لاحقاً بحيث بات مجلس النواب يقرّ القوانين في أيّ وقت على اعتبار أنّ العقد الحكمي المفتوح بسبب استقالة الحكومة يجيز له ذلك، حتى أن موازنة عام 2020 أُقِرّت في 27 كانون الثاني 2020 في ظل حكومة تصريف الأعمال المُشكَّلة حديثاً برئاسة حسان دياب قبل نيلها الثقة. وعقد مجلس النواب أكثر من جلسة تشريعية خلال سنتَيْ 2020 و2021 بعد استقالة حكومة حسان دياب عقب انفجار مرفأ بيروت دون أن يثير هذا الأمر جدلاً دستورياً كما كان يحدث في السابق.

ومن الحجج الدستورية القوية التي سيقت ضد التشريع في ظل حكومة مستقيلة قرار أصدره المجلس الدستوري في سنة 2005 جاء فيه:

“إنّ حقّ رئيس مجلس الوزراء المستقيل بالطعن بالقانون الذي يشارك بتوقيعه رئيس الدولة في مرسوم إصداره لا يدخل في المفهوم الضيق لتصريف الأعمال، لأنّه عمل إنشائي بامتياز وغير إجرائي، طالما أنّ من شأنه أن يؤدّي إلى إبطال هذا النص التشريعي وإحداث وضع قانوني مغاير بنتيجة هذا الإبطال. وبما أنّ المجلس يرى أنّ حرمان رئيس مجلس الوزراء المستقيل من حقه الدستوري بالطعن بنص تشريعي ما من شأنه أن يفتح كوّة في النص التشريعي المذكور يتسلل منها إليه عيب عدم الدستورية إذ يصبح هذا النص التشريعي بمنأى عن كل مراجعة لإبطاله جزئياً أو كلياً بقرار من رئيس مجلس الوزراء يتخذه بالاستناد إلى حقه المحفوظ له في المادة 19 من الدستور، فتنتفي في ذلك، على قلتها، إحدى حالات ممارسة المجلس الدستوري لاختصاصه المكرَّس دستوراً بمراقبة دستورية القوانين، (…) وبما أنّ المجلس يرى أنّ استبعاد رئيس مجلس الوزراء المستقيل، بالشكل الموصوف أعلاه، من دائرة المراجع التي يحقّ لها أن تجعل المجلس الدستوري يقبض على اختصاصه بمراقبة دستورية قانون مذيَّل بتوقيع رئيس مجلس الوزراء المستقيل من شأنه أن يبطل هذا القانون لمخالفته نص المادة 19 من الدستور لهذه الجهة، سيما أنّ مهلة الطعن بالقانون المذكور قد تنقضي قبل أن ينتقل حق الطعن إلى الخلف” (قرار رقم 1/2005 تاريخ 6/8/2005).

صحيح أنّ المجلس رفض في القرار نفسه البحث صراحة في إشكالية التشريع في ظل حكومة مستقيلة، لكنّ اعتباره أنّ عدم قدرة رئيس الحكومة المستقيل على الطعن في قانون أقرَّه مجلس النواب يخالف الدستور، ما يعني أنّه لا يجوز إقرار القوانين خلال هذه الفترة كي لا تصبح مُحصَّنة جزئياً من الطعن فيها. لكنّ المجلس الدستوري عاد وأقرّ، لاحقاً، دستورية قوانين صدرت في ظل حكومات مستقيلة بدون أن يتطرق لمسألة حرمان رئيس الحكومة المستقيل من حقه بالطعن في تلك القوانين[9].

ولا بد في النهاية من التذكير بأنّ هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل اعتبرتْ في رأي لها أنّ “مجلس النواب يبقى محتفظاً بكامل صلاحياته للتشريع بمجرّد انعقاده حكماً بصورة استثنائية عند اعتبار الحكومة مستقيلة، وذلك سدّاً لأيّ فراغ” (رأي رقم 478 تاريخ 7/7/2005). وهنا نسأل كيف يمكن للسلطة التشريعية أن “تسدّ الفراغ” في السلطة التنفيذية؟ فمجلس النواب لا يمكنه ولا يحق له الحلول مكان مجلس الوزراء كون ذلك يؤدّي إلى خرق مبدأ الفصل بين السلطات، كما أنّ الفراغ غير متحقِّق أصلاً كون نظرية تصريف الأعمال هدفها الأساسي منع حدوث هكذا فراغ في عمل الإدارة.

من أجل تكوين صورة أكثر موضوعية لهذه الاشكالية، لا بد من مقارنة فترة تصريف الأعمال في لبنان مع التجربة البلجيكية. فالنظام الدستوري المعمول به في بلجيكا يحتوي على عناصر عديدة شبيهة بالنظام اللبناني، فكلاهما يستوحي نظامه القانوني من النموذج الفرنسي، وهما أيضاً يتبنَّيان النظام البرلماني مع وجود تعددية مجتمعية تحتِّم تبنّي آليات دستورية تضمن مشاركة كل المجموعات في مؤسسات الدولة. وقد انعكس هذا الأمر أيضاً في بلجيكا من خلال الأزمات الوزارية المتكرِّرة التي شهدتها البلاد، والتي أفضتْ إلى وجود حكومات مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال لفترات طويلة من الزمن، لا سيما بين حزيران 2010 وكانون الأوّل 2011 حين شهدت بلجيكا أطول فترة تصريف أعمال في تاريخها، استمرّت 514 يوماً.

ففي موضوع إمكانية التشريع في ظل حكومة مستقيلة تطوّرت الممارسة البلجيكية من مقاربة حذِرة إلى مقاربة أكثر تساهُلاً. فقد تم التوافق في سنة 1988 على أنّ اللجان النيابية تحتفظ بصلاحياتها لمناقشة وإقرار اقتراحات القوانين لكن بدون عرضها على الهيئة العامة للمجالس التشريعية، كون الحكومة المستقيلة لا يمكنها ممارسة حقها باقتراح إدخال التعديلات على تلك الاقتراحات[10]. وقد تطوَّر هذا الموقف بتأثير عدد من الدستوريين البلجيكيين الذين اعتبروا أنّ تصريف الأعمال يحدّ من صلاحيات الحكومة عندما يكون الأمر يتعلق فقط بهذه الأخيرة، بينما الاختصاص التشريعي هو من الأمور التي تتعلق أيضاً بالملك والمجالس التشريعية وليس بالحكومة وحدها، وعليه ينبغي ألّا يؤدّي تصريف الأعمال إلى الحد من صلاحيات المجلس النيابية في التشريع. وهكذا تقرَّر سنة 1993 أنّ المجالس النيابية تحتفظ بكامل صلاحياتها التشريعية وللحكومة المستقيلة أيضاً أن تتقدَّم باقتراحات تعديل خلال مناقشات القوانين سواء في اللجان أو الهيئة العامة. وجرى التأكيد على هذا الأمر خلال فترة تصريف الأعمال التي امتدّت من أيار حتى كانون الأوّل 2007[11]، مع الملاحظة أنّ حق الحكومة بتقديم مشاريع القوانين يجب أن يُحصَر بالقوانين الطارئة، علماً أنّ طول فترة تصريف الأعمال هو الذي يعطي مشاريع قوانين، عادية بطبيعتها، طابعاً طارئاً تحتِّمه الضرورة.

سابعاً: ظاهرة الموافقات الاستثنائية

لا شك أنّ أبرز تطوُّر أُدخِل على مفهوم تصريف الأعمال هو التعميم رقم 10/2013 الصادر عن الرئيس نجيب ميقاتي في تاريخ 19/4/2013، عقب تقديم هذا الأخير استقالته. فقد استحدث هذا التعميم آلية لا سند دستوري لها، بحيث طُلب من جميع الوزراء “في حال أنّ ثمة قراراً إدارياً يدخل في نطاق الأعمال التصرفية التي تقتضي الضرورة اتخاذه خلال فترة تصريف الأعمال إيداع مشروع القرار رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال بشأنه على الموافقة الاستثنائية لفخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء”.

وقد تكرّر هذا الأمر لاحقاً، إذ عمد كل رؤساء الحكومات المتعاقبين إلى إصدار تعاميم مشابهة بعد استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، هي:

  • التعميم رقم 20/2016، الصادر عن رئيس الحكومة المستقيل تمام سلام في 3 تشرين الثاني 2016؛
  • التعميم رقم 21/2018، الصادر عن رئيس مجلس الوزراء المستقيل سعد الحريري في تاريخ 7/6/2018، والمُعدَّل بموجب التعميم رقم 24 تاريخ 28/6/2018 الذي يضيف الأحكام التالية بخصوص صلاحيات الوزراء: “تُعتبَر داخلة ضمن نطاق تصريف الأعمال كافة الملفات والمعاملات التي تتضمّن مستندات موقعة من الوزراء المختصين تفيد بأنّه قد تمّ المباشرة بها قبل تاريخ صدور التعميم رقم 21/2018 تاريخ 7/6/2018 والتي تقضي المصلحة العامة باستمرارها وذلك ضمن حدود الاعتمادات المُرصَدة لها في موازنة السنة الجارية، بحيث يمكن للإدارات المعنية استمرار إنجازها واستكمالها وفقاً للأصول المرعية الإجراء دون الحاجة للاستحصال على الموافقة الاستثنائية بشأنها”[12].   وستُدرَج هذه الفقرة الجديدة في كل التعاميم المستقبلية؛
  • التعميم رقم 38/2019، الصادر عن رئيس مجلس الوزراء المستقيل سعد الحريري في تاريخ 3/12/2019؛
  • التعميم رقم 27/2020، الصادر عن رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب في تاريخ 11/8/2020 وهو الأخير لتاريخه؛
  • التعميم رقم 17 تاريخ 21 أيار 2022، الصادر عن الرئيس نجيب ميقاتي بعد اعتبار حكومته مستقيلة عقب إجراء الانتخابات النيابية العامة وبدء ولاية مجلس النواب الجديد،

يثير هذا التعميم مجموعة من الإشكاليات الدستورية والسياسية المتعلقة بمدى صلاحية رئيس مجلس الوزراء اتخاذ هكذا نوع من التعاميم الآمرة، ومدى دستورية الموافقات الاستثنائية التي تؤدّي فعلياً إلى نقل صلاحيات مجلس الوزراء إلى رئيسَيْ الجمهورية والحكومة، إذ يتبيَّن لنا أنّ هذه الآلية المُستحدَثة تفتح الباب واسعاً أمام كل شكل من أشكال الاستنسابية فيتحوَّل تصريف الأعمال من مفهوم دستوري يخضع لرقابة القضاء الإداري، إلى مفهوم سياسي تحدده السلطة الحاكمة التي تجد فيه الذريعة الأمثل لتحقيق مصالحها وفقاً للتوازن المُتقلِّب بين أركانها.

فبعد استقالة حكومة حسان دياب صدرت عشرات المراسيم والقرارات التي لا تدخل في نطاق تصريف الأعمال، عملاً بآلية الموافقات الاستثنائية لعلّ أبرزها:

  • المرسوم رقم 6881 تاريخ 18/8/2020 والقاضي بتمديد حالة الطوارئ في بيروت بدون حصوله على موافقة ثلثَيْ أعضاء مجلس الوزراء، كونه من المواضيع الأساسية وفقاً لأحكام الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور؛
  • تكليف الجيش ببعض المهام الاستثنائية التي تدخل ضمن إجراءات الطوارئ بموجب موافقة استثنائية بسبب “تعذُّر عرض الموضوع المذكور على مجلس الوزراء”. وقد أُعلِن عن هذا التدبير بموجب كتاب صادر عن أمين عام مجلس الوزراء في تاريخ 14/9/2020؛
  • تمديد حالة التعبئة العامة لأكثر من مرة بموجب المرسوم رقم 6929 تاريخ 3/9/2020 والمرسوم رقم 7315 تاريخ 31/12/2020، من دون الحصول أيضاً على موافقة مجلس الوزراء الدستورية، وما استتبع ذلك من قرارات متعددة للإغلاق العام والفتح التي صدرت بمذكرات إدارية عن أمين عام مجلس الوزراء بناء على آلية الموافقات الاستثنائية نفسها؛
  • تأجيل الانتخابات الفرعية بموجب كتاب أصدره أمين عام مجلس الوزراء في تاريخ 10 أيلول 2020 سنداً إلى موافقة استثنائية ما يشكّل خرقاً فاضحاً للمادة 41 من الدستور التي تفرض في  حال شغور مقعد نيابي إجراء الانتخابات من أجل انتخاب الخلف خلال شهرَيْن؛
  • إحالة مشاريع قوانين إلى مجلس النواب بدون موافقة مجلس الوزراء، كمشروع القانون المعجَّل والمتعلق بالبطاقة التمويلية المحال بالمرسوم رقم 7797 تاريخ 26 أيار 2021؛
  • عشرات المراسيم المتعلقة بنقل اعتمادات من احتياطي الموازنة أو منح سلف خزينة وهي تتطلّب دستوريا موافقة مجلس الوزراء.

في مقابل هذا السخاء بمنح الموافقات الاستثنائية من أجل تقييد حريات المواطنين عبر حالة الطوارئ، أو منعهم من ممارسة حقوقهم السياسية عبر تأجيل الانتخابات الفرعية، التي لا تريد السلطة تنظيمها في هذا الظرف بسبب المعارضة المتنامية لها، نلاحظ أنّ آلية الموافقة الاستثنائية تتعطل عبر التذرُّع بحجج دستورية متعددة أبرزها تصريف الأعمال عندما يصب ذلك في المصلحة السياسية لكل من رئيسَيْ الجمهورية والحكومة ولنظام الزعماء الذي يقف خلفهما. ومن أبرز هذه المواقف:

  • رفض رئيس الجمهورية في 5 تشرين الأوّل 2020 إعطاء الموافقة الاستثنائية وتوقيع مرسوم إعفاء مدير عام الجمارك بدري ضاهر من مهامه بحجّة أنّ هكذا تدبير يحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء؛
  • رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم تعديل حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان لأنّ الأمر “يحتاج الى قرار يتخذه مجلس الوزراء مجتمعاً (…) حتى في ظل حكومة تصريف الأعمال نظراً إلى أهميته والنتائج المترتّبة عليه”، وفقاً للبيان الصادر عن المديرية العامة لرئاسة الجمهورية في 13 نيسان 2021؛
  • رفض رئاسة الحكومة في 26/5/2021 توقيع مرسوم تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى رغم مطالبة وزيرة العدل الحثيثة وإعدادها مشروع المرسوم المطلوب، علماً أنّ تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى غير الحكميين يتمّ بمرسوم عادي وهو لا يحتاج أصلاً إلى إقراره في مجلس الوزراء[13]؛
  • التمنُّع عن تعيين أعضاء في المجلس الدستوري بدلاً عن عضوَيْن توفِّيا، والاستنكاف لأكثر من سنة عن تعيين قرابة 40 قاضياً من خِرِّيجي معهد الدروس القضائية.

وهكذا باتت آلية الموافقات الاستثنائية الحجّة الأمثل لتبرير أيّ قرار اعتباطي يتستّر بلبوس تصريف الأعمال من أجل تحقيق غايات سياسية. فمِن استنكاف رئيس الجمهورية ميشال عون عن إعفاء موظّف يُعتبَر من المقرَّبين إلى فريقه السياسي، وتمنُّع رئيس الحكومة حسان دياب عن توقيع مرسوم تعيين مجلس القضاء الأعلى خشية إغضاب رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، الذي يجد في تعطيل المرافق العامة وسيلة للضغط على رئيس الجمهورية لقبول تشكيلة حكومته، تصبح ازدواجية المعايير[14] هي المُهيمِنة على كل ما يتعلق بتصريف الأعمال ويتحوّل المنطق القانوني من وسيلة لحماية الصالح العام والدفاع عن المجتمع، إلى ذريعة لحماية مصالح السلطة الحاكمة على حساب مؤسسات الدولة.

وقد اعتبر المجلس الدستوري في لبنان أنّ مبدأ استمرارية المرفق العام هو من المبادئ ذات القيمة الدستورية (قرار رقم 1 تاريخ 25/10/1999). وبما أنّ تصريف الأعمال في لبنان بعد 1990 أصبح هو أيضاً من المبادئ التي يكرّسها صراحةً النص الدستوري، فهذا يعني أنّه يتمتّع بالقيمة الدستورية ذاتها لمبدأ استمرارية المرافق العامة. وعملاً بمبدأ عدم وجود هرمية بين النصوص والمبادئ التي تتألّف منها الكتلة الدستورية، فإنّ التعارض المحتمل بين مبدأَيْن دستوريَّيْن يفرض الاحتكام إلى قاعدة التناسب التي تُحتِّم النظر إلى كل قضية في سياقها المعيَّن، وتطبيق المبدأ الذي يحقِّق المصلحة العامة.

وغالباً ما يتولى القضاء الدستوري أو الإداري مهمة التحكيم بين المبادئ الدستورية التي قد تتعارض ظاهرياً. هذا يعني أنّ تصريف الأعمال ليس قيداً مطلقاً يفرض نفسه في كل الظروف، بل هو ضروري فقط بقدر ما يمنع الحكومة من الإفلات من المحاسبة السياسية. وهذا ما كرّسته مجلة الأحكام العدلية العثمانية إذ نصّت في المادة 28 على التالي: “إذا تعارض مفسدتان رُوعِيَ أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفِّهما”، فالضرر المتأتّي من عدم احترام موجب تصريف الأعمال هو أخفّ بكثير من الضرر الذي قد ينجم عن تعطيل المرافق العامة، لا سيما مرفق العدالة عبر التمنُّع عن تعيين أعضاء المجلس الدستوري أو استكمال أعضاء مجلس القضاء الأعلى أو تعيين القضاة المتخرجين كيْ يتمكّنوا من الالتحاق بوظائفهم.

إنّ مدة تصريف الأعمال الطويلة أيضاً في بلجيكا أدّت إلى طرح الإشكالية نفسها حول ضرورة توسيع صلاحيات الحكومة المستقيلة في ظل زوال مسؤوليتها السياسية أمام البرلمان. وهكذا طوّرت التجربة الدستورية في بلجيكا ممارسة فريدة تنسجم مع منطق تصريف الأعمال بحيث بات يحق للحكومة اتخاذ أيّ إجراء يحظى بدعم واضح من البرلمان[15]. ففي هذه الحالة، يصوّت البرلمان البلجيكي على توصية أو قرار يعتبر أنّه في حال قرّرت الحكومة المستقيلة اتخاذ تدبير معين، فإنّ البرلمان يوافق صراحة على قرار الحكومة وبالتالي تزول مسؤولية الحكومة السياسية المحتمَلة لأنّ قرارها لن يعرّضها للمساءلة النيابية.

ففي سنة 2011 مثلاً صوَّت مجلس الممثِّلين البلجيكي على قرار يسمح للحكومة المستقيلة بإرسال القوات المسلحة البلجيكية إلى ليبيا من أجل المشاركة في العمليات العسكرية ضد نظام معمّر القذافي. وقد وافق مجلس شورى الدولة البلجيكي[16] على هذه الفئة الجديدة من المواضيع الداخلة في تصريف الأعمال سنة 2018 معتبراً أنّ الحد من صلاحيات الحكومة لا يمكن تبريره إلا في ظل غياب الرقابة البرلمانية. وقد جاء هذا القرار القضائي بعدما اعترض عضو في البرلمان البلجيكي على موافقة الحكومة المستقيلة الانضمام إلى الاتفاق العالمي للهجرة (Migration Pact) بناء على قرار اتخذه مجلس الممثِّلين البلجيكي في 6 كانون الأوّل 2018 يطلب فيه من الحكومة الموافقة على الاتفاق المذكور.

هذا الحلّ المُبتكَر قد يُفسَّر على أنّه لا يؤدّي إلى خرق مبدأ فصل السلطات، كون البرلمان لا يملي على الحكومة اتخاذ إجراء ما، وهو لا يحلّ محلّها أصلاً، بل يعلن فقط أنّ في حال قرّرت الحكومة المستقيلة القيام بخطوة ما فإنّ ذلك يحظى بدعم البرلمان السياسي، الأمر الذي يعني أنّ مسؤولية الحكومة أمام البرلمان لم تعد مطروحة.

ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أنّ مجلس النواب في لبنان وافق عملياً على هذه الآلية من خلال استلام مشاريع قوانين بموجب مراسيم حاصلة على موافقات استثنائية ودرسها وإقرارها، من بينها على سبيل المثال القانون رقم 230 الصادر في 16 تموز 2021 المتعلق بإنشاء البطاقة التمويلية الإلكترونية، والقانون رقم 219 الصادر في 8/4/2021 المتعلق بالموافقة على إبرام قرض البنك الدولي لدعم شبكة الأمان الاجتماعي من أجل مواجهة جائحة كورونا.

ثامناً: مدى قانونية الموافقات الاستثنائية

لا بد أوّلاً، من تسجيل مفارقة غريبة ألا وهي مدى انطباق مفهوم تصريف الأعمال على تعميم رئيس الحكومة نفسه. فهذه التعاميم صدرت عن رؤساء حكومات خلال تصريفهم للأعمال، وهي تُدخِل تعديلاً كبيراً في كيفية عمل السلطات العامة وعلاقة هذه الأخيرة مع المواطنين والمجتمع، ما يعني أنّها تُعتبَر من الأعمال التصرُّفية التي لا يجوز لحكومة مستقيلة اتخاذها. وهكذا تكون آلية الموافقات الاستثنائية المنصوص عليها في هذه التعاميم مبنية على تناقض منطقي وقانوني لأنّها تؤدّي إلى مخالفة سبب وجودها، أي منع اتخاذ أعمال تصرُّفية من قِبَل حكومة مستقيلة، بينما التعميم نفسه هو مِن أفدح الأعمال التصرُّفية التي يمكن تخيُّلها.

في حال وضعنا هذه النقطة المنطقية جانباً، تطرح هذه التعاميم مجموعة أخرى من الإشكاليات القانونية التي لا بد من معالجتها، تتعلق أوّلاً بكيفية استحداث آلية الموافقات الاستثنائية، وثانياً بمدى دستوريتها، وثالثاً بتداعياتها القانونية.

تعميم رئيس الحكومة

لا شك أنّ تذكير الوزراء بضرورة احترام الموجب الدستوري والحد من صلاحياتهم خلال تصريف الأعمال هو أمر طبيعي ومطلوب. لكنّ التعميم لا يكتفي بذلك، بل يقوم بتفسير الدستور عبر تضييق هامش تصريف الأعمال إلى حدوده القصوى. إذ تُعلِن الفقرة الثانية من التعميم التي تتناول الأعمال الإدارية العادية التالي: “وبما أنّ اعتماد نظرية تصريف الأعمال بالمعنى الضيِّق في المادة 64 من الدستور من شأنه أن يحدّ كثيراً من المفهوم المكرّس اجتهاداً للأعمال الإدارية العادية المذكورة أعلاه، وبالتالي فهو يقلّص من الأعمال والقرارات التي كان من الممكن اعتبارها تدخل في نطاق تصريف الأعمال، لو لم تحدّها المادة 64 من الدستور بالنطاق الضيِّق، وبما أنّه استناداً إلى أحكام المادة 64 من الدستور، فإنّ ما يدخل في نطاق تصريف الأعمال هي تلك القرارات التي من شأن عدم اتخاذها أن ينتج عنه فراغ كامل أو تعطيل لكلّ أعمال السلطة التنفيذية ووقف لإدارة مصالح الدولة العامة…”.

تتبنّى هذه الفقرة تعريفاً محدوداً جداً لتصريف الأعمال، إذ تعتبر أنّ الدستور بإشارته إلى “المعنى الضيِّق” أدخل تقليصاً إضافياً في نطاق تصريف الأعمال كون حتى الأعمال العادية لا يمكن اتخاذها إلا لتفادي الفراغ الكامل وتعطيل مصالح الدولة.

وإذا كان من المسلَّم به أنّ تفسير رئيس الحكومة للدستور لا يتمتّع بأيّ قوة قانونية تلزم سائر الهيئات في الدولة، فإنّ هذا التعميم يفقد جدواه أيضاً كونه يتناسى أنّ القضاء الإداري الذي يتجسّد في لبنان في مجلس شورى الدولة هو الذي يمارس رقابته على قرارات السلطات الإدارية، ما يسمح له بالفصل إذا ما كان تقدير السلطة، عندما اتخذت قرارها، يدخل في نطاق تصريف الأعمال أو لا. فعند استقالة الحكومة تخضع جميع قرارات الوزراء لرقابة القضاء الإداري، لا بل إنّ سلطة هذا الأخير تتوسّع في هذه الحالة نظراً إلى ضرورة شمول الرقابة ليس مشروعية القرار فقط، بل أيضاَ مدى اندراجه ضمن حدود تصريف الأعمال.

وبالفعل، كما ذكرنا سابقاً، أكّد مجلس شورى الدولة أنّ “مفهوم تصريف الأعمال يعني أنّه يمكن للحكومة المستقيلة القيام بكل الأعمال التي لا ترتبط بسياسة الدولة العليا والتي ليس من شأنها تقييد حرية الحكومة اللاحقة في انتهاج السياسة التي تراها أفضل للوطن، بمعنى أنّه يمكنها البتّ بكافة المسائل التي لا تتّسم بطابع المواضيع الأساسية المصيرية الحساسة كالاتفاقات والمعاهدات الدولية، والخطط الإنمائية الشاملة والطويلة المدى على سبيل المثال” (قرار رقم 700 تاريخ 15/5/1995). فتضييق نطاق تصريف الأعمال إلى حدوده القصوى يُخالِف اجتهاد مجلس شورى الدولة الذي يبقى هو الحكم في نهاية المطاف للبتّ في هكذا موضوع.

من جهة أخرى، لا يحق لرئيس الحكومة توجيه الأوامر إلى الوزراء. فهو إن كان في المبدأ رئيساً لهم من الناحية السياسية، لكنّه ليس رئيساً عليهم من الناحية الإدارية، أي أنّه لا يتمتّع بسلطة تسلسلية كتلك التي توجد بين الرئيس ومرؤوسيه[17]. لهذا يكون هذا التعميم بفرضه آلية محدَّدة على الوزراء وتضييقه لهامش تصريف الأعمال قد خالف المادة 66 من الدستور التي تنصّ صراحة على أنْ “يتولى الوزراء إدارة مصالح الدولة ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين كل بما يتعلق بالأمور العائدة إلى إدارته”. فالوزير هو رأس الهرم الإداري في وزارته وهو الذي يعود له القرار إذا ما كان العمل المُزمَع اتخاذه يدخل في نطاق تصريف الأعمال على أن يخضع تقديره لرقابة القضاء الإداري.

كما لا يحق لرئيس الحكومة مخاطبة الموظفين في وزارة ما مباشرة، بدون المرور بالوزير المعني، كما حصل في التعميم الذي يطلب “إلى الإدارات العامة إيداع رئاسة مجلس الوزراء نسخاً عن القرارات التي يصدرها السادة الوزراء واعتبار المدير العام في الإدارة العامة مسؤولاً مباشرة عن هذا الأمر في حال عدم التجاوب أو الإهمال”. فالفقرة الثامنة من المادة 64 من الدستور تنصّ على أنّ رئيس مجلس الوزراء “يعقد جلسات عمل مع الجهات المعنية في الدولة بحضور الوزير المختص”. فإذا كان اجتماع رئيس الحكومة بالموظفين الرسميين لا يمكن أن يحصل من دون حضور الوزير المعني، فكم بالحريّ توجيه الأوامر إلى الموظفين الذين يخضعون مباشرة لهذا الوزير في وزارته.

لا بل أكثر من ذلك، يشير التعميم إلى قرارات الوزراء بدون التفريق بين المراسيم التي يصدرها رئيس الجمهورية ويوقّعها رئيس الحكومة والوزير المختص، وبين القرار الذي يصدره الوزير منفرداً. فاعتبار التعميم أنّ قرارات الوزراء لا يمكن إصدارها قبل حصولها على الموافقة الاستثنائية يحوِّل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء إلى سلطة وصاية تتولى تصديق قرارات الوزراء والحلول عملياً مكان الوزير في تقدير مدى مناسبة العمل.

وقد حدث اشتباكٌ أوّلٌ حول هذا التعميم عندما أصدر وزير الاتصالات نقولا الصحناوي في 18 تشرين الأوّل 2013 قراراً قضى بتكليف موظف في وزارته بمهام رئاسة منطقة هاتفية. فما كان من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلا أن وجَّه إلى وزير الاتصالات الكتاب رقم 1869/ص في 30 تشرين الأوّل 2013 يطلب بموجبه إلغاء القرار المذكور، كونه لا يدخل في تصريف الأعمال وفقاً لفهم رئيس الحكومة، ولم يحصل على الموافقة الاستثنائية. وقد رفض وزير الاتصالات هذا الطلب عبر كتاب جوابي أرسله إلى رئاسة الحكومة في 12 تشرين الثاني 2013 معتبراً أنّ “رئيس مجلس الوزراء ليس المرجع الصالح للبتّ بقانونية أعمال الوزير، إذ أنّ هذه الصلاحية محصورة بموجب القانون بمجلس شورى الدولة” وأنّ هذا الكتاب “يَخلُص إلى إعطاء أمر للوزير بالرجوع عن قرار اتخذه، مع العلم أنّ الدستور لم يعطِ رئيس الحكومة الحق أو الصلاحية لتوجيه أوامر للوزراء”. لا بل ذهب الوزير إلى مخاطبة رئيس الحكومة قائلاً “إنّ إقدامكم على توجيه أمر إلى الوزير للرجوع عن قراره هو سابقة خطيرة تُشكِّل خرقاً واضحاً للدستور، ولِما اتُّفق عليه في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف من تعزيز لصلاحية الوزير وسلطته بعدما كان خاضعاً لسلطة رئيس الجمهورية، حتى يمكن القول أنّ هذه القاعدة الدستورية الجديدة تكاد تكون قاعدة ميثاقية، المسّ بها يهدِّد كيان الجمهورية”، وينهي وزير الاتصالات كتابه معلناً أنه “يعيد أصل الكتاب الصادر عن رئيس الحكومة رقم 1869/ص دون تسجيله أصولاً، لمخالفته الدستور والقانون، ولكي لا يصبح تسجيله سابقة خطيرة في العلاقة بين رئاسة الحكومة والوزراء، ما يمكن أن يهدِّد كيان الجمهورية”.

وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى أنّ التعميم موضع البحث لا يكتفي بشرح نقاط قانونية وتفسيرها بل يحتوي، من خلال استحداثه آلية عامة لاتخاذ القرارات في ظلّ تصريف الأعمال، على قواعد تنظيمية تجعل منه تعميماً تنظيمياً (circulaire réglementaire) حسب اجتهاد مجلس شورى الدولة الفرنسي (CE, Institution *Notre-Dame du Kreisker, 29 janvier 1954). وبما أنّ التعميم يفرض على الوزراء اتباع منهجية استثنائية في اتخاذ قراراتهم، أي أنّه ينطوي على تدبير سيؤثّر بشكل ما على المواطنين في تعاطيهم مع الإدارة، يكون قد أدخل قواعد آمرة جديدة ما يجعل منه تعميماً آمراً (circulaire ayant un caractère impératif) وفقاً لاجتهاد مجلس شورى الدولة الفرنسي الحديث (CE Sect. Mme Duvignères, 18 décembre 2002). وبالتالي يصبح هذا التعميم بحد ذاته قابلاً للطعن لتجاوز حد السلطة.

دستورية الموافقات الاستثنائية

يستحدث التعميم، الذي يحتل أدنى درجة في هرمية النصوص، آلية مُستغرَبة لاتخاذ القرارات غير ملحوظة في الدستور. فضرورة حصول الوزراء على الموافقة الاستثنائية لرئيسَيْ الجمهورية والحكومة في ما خصّ الأعمال التصرُّفية يؤدّي عملياً إلى نقل، ليس فقط صلاحيات الوزراء بل أيضاً صلاحيات مجلس الوزراء إلى رئيسَيْ الجمهورية والحكومة، وهذا ما لا وجود له في أيّ نص دستوري. وقد رأينا سابقاً أنّ الظرف الاستثنائي الذي يستدعي اتخاذ أعمال تصرُّفية تسمح لصاحب الاختصاص استعادة هذا الجزء من صلاحياته الضروري لمعالجة الوضع الطارئ، بحيث يكون في حالتنا هذه للوزير المعني أو لمجلس الوزراء المستقيل أن يجتمع كي يتخذ القرار المناسب[18].

وبما أنّ رقابة القضاء على أعمال الحكومة خلال فترة تصريف الأعمال هي المعيار الأهم للحد من استنسابية السلطة كان لا بد من دراسة ظاهرة الموافقات الاستثنائية على ضوء الاجتهادات القضائية.

لا شك أنّ أهم موقف صادر عن مرجعية قضائية حتى اليوم في هذا الخصوص كان تقرير المستشارة المقرِّرة في مجلس شورى الدولة ميشيل منصور في تاريخ 26/5/2021 في المراجعة التي تقدمت بها “المفكّرة القانونية” طعناً بمرسوم تمديد حالة الطوارئ رقم 6881 تاريخ 18/8/2020 و”المذكرة” الصادرة عن أمين عام مجلس الوزراء رقم 1955/م.ص. تاريخ 14/9/2020، التي نصّت على تكليف الجيش بتنفيذ بعض المهام الإضافية التي لا تدخل في صلاحياته التي تلحظها القوانين العادية. وقد خلصت المستشارة المقرِّرة في تقريرها المذكور إلى قبول المراجعة في الشكل والأساس وطلب إبطال المرسوم رقم 6881 ومذكرة أمين عام مجلس الوزراء، موافِقةً بذلك على كل الحجج القانونية التي ساقتها “المفكّرة القانونية” ضد كيفية تمديد إعلان حالة الطوارئ في مدينة بيروت.

إنّ أهمية هذا التقرير القانونية وخطورة الموضوع الذي صدر بشأنه تُحتِّم علينا دراسته بشيء من التفصيل بغية إظهار مدى فداحة ظاهرة الموافقات الاستثنائية وتهديدها لحقوق المواطنين وحرياتهم، لا سيما في موضوع حالة الطوارئ.

صدر المرسوم رقم 6881 القاضي بتمديد حالة الطوارئ في مدينة بيروت في تاريخ 18/8/2020، أي بعد استقالة رئيس مجلس الوزراء حسان دياب في تاريخ 10/8/2020، ما يعني أنّ الحكومة كانت قد أصبحت حينها في حالة تصريف للأعمال ويمتنع عليها، وفقاً لتفسير أركان السلطة السائد اليوم، الاجتماع من أجل الموافقة على تمديد حالة الطوارئ عملاً بالفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور التي تعتبر أنّ إعلان حالة الطوارئ ورفعها هو من المواضيع الأساسية التي تحتاج إلى موافقة غالبية ثلثَيْ مجموع أعضاء مجلس الوزراء.

وقد صدر المرسوم المطعون فيه بدون موافقة مجلس الوزراء، وقد ردَّتْ الجهة المستدعى بوجهها (أي الدولة) أنّ هذا التدبير أملته الظروف الاستثنائية الناجمة عن انتشار فيروس كورونا وتداعيات الانفجار في ظلّ حكومة مستقيلة مضيفة أنّ الظروف الاستثنائية تسمح “للسلطة الإدارية تجاوز حدود صلاحياتها العادية، والتعدّي على صلاحيّات سلطة إدارية أخرى وعدم مراعاة الأصول القانونية والنظامية العادية”.

وقد أدلتْ الجهة المُستدعى بوجهها أنّ الموافقات الاستثنائية تجد سندها القانوني في التعميم رقم 27 تاريخ 11/8/2020 الصادر عن رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب، الذي يستحدث آلية الموافقة الاستثنائية وتضيف بكل بساطة أنّ هذه الآلية هي من “الأصول المتبعة عند استقالة الحكومات”.

وقد رد التقرير على هذه الحجّة معتبراً أنّ حالة تصريف الأعمال تمنع بالفعل الحكومة من ممارسة كامل صلاحياتها لكنّ هذا القيد ليس مُطلقاً، إذ وجود حالة طارئة يسمح للحكومة باستعادة كامل صلاحياتها الضرورية من أجل الاستجابة إليها على أن يحصل ذلك تحت إشراف القضاء الإداري ورقابته. لذلك اعتبر التقرير أنّ الطبيعة الكارثية لانفجار المرفأ تؤدّي إلى إيجاد حالة طارئة بحيث لا تحول استقالة الحكومة “دون اجتماع مجلس الوزراء المستقيل واتّخاذه أعمالاً تصرُّفية استثنائية لمواجهة هذه الحالة”. لذلك كان يجب على مجلس الوزراء الانعقاد من أجل إقرار مرسوم تمديد حالة الطوارئ، وصدور هذا الأخير بدون هذا الشرط الدستوري، رغم توقيعه من قِبَل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزراء الداخلية والدفاع والمالية، يجعل منه عملاً صادراً عن سلطة غير مختصة ما يوجب إبطاله.

أكثر من ذلك، ذهب التقرير إلى معالجة فرضية عدم تمكُّن مجلس الوزراء من الانعقاد بسبب الظرف الاستثنائي الذي تتذرّع به الجهة المستدعى بوجهها. وعليه، اعتُبِر صحيحاً أنّ الظرف الاستثنائي يسمح للإدارة بتخطّي بعض الشروط القانونية، لكنّ ذلك يصحّ “فقط عندما تكون السلطة الصالحة لاتخاذ قرار ما واقعة في عجز يحول دون اتخاذها القرارات المطلوبة” كاستحالة، مثلاً، حضور بعض الوزراء إلى جلسة مجلس الوزراء بسبب التداعيات المباشِرة للانفجار أو تضرُّر مقرّ الحكومة، بحيث يستحيل عقد جلسة لمجلس الوزراء. أي أنّ الظرف الاستثنائي قد لا يكون استثنائياً من الناحية القانونية، في حال لم يجعل من السلطة المختصة عاجزة واقعياً عن تأدية مهامها بصورة قانونية طبيعية. وهكذا يردّ التقرير على ذريعة الظرف الاستثنائي معتبراً أنّ الحكومة اجتمعت فعلياً بعد الانفجار وقبل استقالتها، أي أنّ الانفجار لم تكن له مفاعيل تؤدّي إلى شلل الحكومة وعجزها عن الانعقاد في مجلس للوزراء وفقاً لما يفرضه الدستور. لا بل إنّ الجهة المستدعى بوجهها اعترفت بأنّ عدم اجتماع الحكومة سببه تصريف الأعمال وليس الظرف الاستثنائي الناشئ عن الانفجار، ما يعني أنّ هذه الأخيرة كان بمقدورها الاجتماع من أجل إقرار مرسوم تمديد حالة الطوارئ كون الظرف الاستثنائي الحقيقي الناجم عن الانفجار يتيح لها استعادة كامل صلاحياتها الضرورية بغية معالجة هذا الظرف.

وقد ذهب التقرير إلى اعتبار أنّ “تمديد إعلان حالة الطوارئ هو بمثابة إعلان جديد لها”، بحيث يخضع مرسوم التمديد للشروط نفسها الواجب توفُّرها في إعلان الطوارئ لا سيما الحصول على موافقة مجلس النواب. وبما أنّ هذا الشرط الأخير لم يُحترَمْ أيضاً يجب إبطال المرسوم المطعون فيه لمخالفته القانون.

وعالج التقرير أيضاً مذكرة أمين عام مجلس الوزراء مُطلِقاً عليها صفة “القرار”، الأمر الذي يقودنا مباشَرة إلى صلب الإشكالية. إذ كيف يعقل أن يصدر أمين عام مجلس الوزراء قرارات نافذة مُلحِقة للضرر بتكليف الجيش بمهام إضافية بناء على موافقة كلٍّ من رئيسَيْ الجمهورية والحكومة؟ فآلية الموافقات الاستثنائية التي باتت تُعتمَد في حالة تصريف الأعمال تؤدّي فعلياً إلى تحويل رئيس الجمهورية من رأس البناء التنظيمي في لبنان إلى جهة تقترح على أمين عام مجلس الوزراء اتخاذ إجراءات معيَّنة.

يتابع التقرير دحض الذرائع القانونية التي استند إليها هذا القرار، معتبراً أنّ تكليف الجيش بمهام معيَّنة، أمنية أو اجتماعية، جائز لكنّ ذلك يجب أن يتم إمّا تلقائياً عبر مرسوم إعلان حالة الطوارئ، أو عبر سلوك وسيلة أخرى نصَّت عليها المادة الرابعة من قانون الدفاع الوطني التي تجيز تكليف الجيش بالمحافظة على الأمن في منطقة معيَّنة خارج حالة الطوارئ، على أن يتم ذلك أيضاً بمرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزراء المختصين. وبما أنّ قرار أمين عام مجلس الوزراء صدر “بالاستناد إلى موافقة استثنائية لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، ولم يتمّ اتخاذه في مجلس الوزراء الذي كان بإمكانه الانعقاد عملاً بما سبق بيانه أعلاه، ممّا يعني أنّه صادر عن سلطة غير مختصة”، وأنّه أيضاً مخالِف للأصول الجوهرية المفروضة قانوناً كونه لم يقترن باقتراحات الوزراء المختصين ما يقتضي إبطال القرار المطعون فيه.

وهكذا يتضح لنا أنّ تقرير المستشارة المقرِّرة يشكّل إدانة شاملة لكل الممارسات التي انتهجتها السلطة السياسية لا سيما في ما يعنينا في هذا التقرير في النقاط التالية:

  • إدانة ظاهرة الموافقات الاستثنائية التي لا سند دستوري لها، والتي تسمح لرئيسَيْ الجمهورية والحكومة بالحلول اعتباطياً محلّ مجلس الوزراء، ما يعني أنّ كل المراسيم والقرارات التي صدرت وفقاً لهذه الآلية هي مخالِفة للدستور والقانون ويجب إبطالها في حال طُعِن فيها أمام مجلس شورى الدولة؛
  • إعادة مفهوم تصريف الأعمال إلى فهمه الصحيح بحيث لا يؤدّي إلى تعطيل عمل المؤسسات والإضرار بمصالح المواطنين والمجتمع؛
  • رفْض مُطلَق لنظرية الظروف الاستثنائية وفقاً للفهم الاعتباطي للسلطة السياسية التي غالباً ما لجأت إليها من أجل تبرير مصالحها السياسية أو للنيل من حقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية.

وكان ديوان المحاسبة قد أصدر قراراً قضائياً نهائياً، رقم 47 ر.ق. تاريخ 15/7/2021، خلص إلى إدانة وزير الأشغال العامة والنقل ميشال نجار، بسبب تمديده عقد استثمار وتشغيل المنشآت المخصصة لتزويد الطائرات بالوقود في مطار بيروت، استناداً إلى آلية الموافقة الاستثنائية التي يستحدثها تعميم رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب معتبراً صراحة “أنّه لا يمكن الاعتداد بالموافقة الاستثنائية المعطاة من قِبَل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، حتى لو ورد ذكرها في تعميم رئيس مجلس الوزراء رقم 27 تاريخ 11/8/2021 نظراً [إلى] أنّه لا قيمة قانونية لهذه الموافقة في غياب أيّ نص قانوني يرعى شروط إعطاء الموافقات الاستثنائية ويوضح مفاعيلها القانونية”. وقد عاد الديوان لاحقاً بموجب قرار جديد، رقم 57 ر.ق. في تاريخ 15/11/2021، عن قراره الأوّل في شِقّه المتعلق بإدانة الوزير نجار بناء على طلب هذا الأخير بحجّة أنّه “حَسَن النيّة”، إلا أنّه أكّد مجدّداً على عدم إمكانية الاعتداد بالموافقات المُسبَقة الصادرة عن رئيسَيْ الجمهورية والحكومة للأسباب نفسها التي وردت في قراره السابق. ويعكس قرار الرجوع هذا أحد الآثار السلبية للموافقات الاستثنائية التي أشرنا إليها أعلاه، لجهة أنّها تشكّل أمراً واقعاً بإمكان الوزير الاعتداد به لإثبات حُسْن نيّته ورفع المسؤولية عنه.

تداعيات الموافقات الاستثنائية

يُعلَن[19] عن الموافقات الاسثنائية بمذكرة صادرة عن أمين عام مجلس الوزراء أو عبر كتاب يوجّهه رئيس مجلس الوزراء إلى الوزير المعني[20]. ومن الملاحَظ أنّ منْح الموافقة الاستثنائية يقترن دائماً بفقرة ختامية تنصّ على أن يُعرَض القرار أو الموضوع لاحقاً على مجلس الوزراء على سبيل التسوية، أي أنّ الحكومة الجديدة بعد تشكيلها ونيلها الثقة مدعوة للنظر في الموافقات الاستثنائية التي صدرت خلال فترة تصريف الأعمال والبتّ فيها.

ولا بد من الإشارة إلى أنّ المراسيم التي كانت تصدر في ظل حكومة نجيب ميقاتي الثانية المستقيلة، والتي تدخل في خانة الأعمال التصرُّفية، كانت تشير في بناءاتها إلى حصولها على موافقة استثنائية بينما تنصّ المادة ما قبل الأخيرة من المرسوم على التالي: “يُعرَض هذا المرسوم لاحقاً على مجلس الوزراء على سبيل التسوية”، في حين اكتفت المراسيم التي صدرت خلال حكومة حسان دياب المستقيلة بإشارتها إلى اتخاذها بعد حصولها على الموافقة الاستثنائية، من دون وجود مادة خاصة تنصّ على ضرورة عرض المرسوم لاحقاً على مجلس الوزراء على سبيل التسوية.

جرّاء ما تقدم، يتبيَّن لنا أنّ الموافقات الاستثنائية باستحداثها آليةً غير دستورية لاتخاذ القرارات تؤدّي في نهاية المطاف إلى مخالفة مفهوم تصريف الأعمال نفسه. فقد رأينا أنّ مجلس شورى الدولة اعتبر أنّ الحكومة المستقيلة لا يحق لها القيام بأعمال من شأنها تقييد حرية الحكومة اللاحقة، في حين أنّه من البيِّن أنّ الحكومة الجديدة ستكون أمام الأمر الواقع بحيث تفقد قدرتها الفعلية على القرار مُسلِّمَة بما صدر وفقاً لموافقات اسثنائية، لا سيما إذا أدّى ذلك إلى صرف اعتمادات من الموازنة العامة لا يمكن واقعاً استرجاعها.

لا بل أكثر من ذلك، إنّ تقييد الحكومة الجديدة يصبح أكثر وضوحاً في حال كانت القرارات التي صدرتْ عبر الموافقات الاستثنائية مُنتِجة للحقوق ولا يمكن بالتالي الرجوع عنها. فقد اعتبر مجلس شورى الدولة في اجتهاد مستقرّ أنّ القرارات الفردية غير القانونية المُنشِئة للحق لا يمكن مسّها أو سحبها إلا ضمن مهلة المراجعة “وإذا انقضت هذه المهلة ولم ترجع الإدارة عن هذا العمل ولم يكن قد طُعِن فيه من قِبَل أحد ضمن المهلة المذكورة امتنع عليها الرجوع نهائياً عن عملها لأنّه يكون قد تولّد منه في مثل هذه الحالة حقّ مُكتسَب” (قرار رقم 430 تاريخ 21/11/1983).

وبما أنّ مهلة المراجعة، وفقاً للمادة 69 من نظام مجلس شورى الدولة، شهران وبما أنّ فترة تصريف الأعمال باتت تمتدّ على شهور طويلة، فإنّ الموافقات الاستثنائية بوصفها أعمالاً إدارية غير قانونية قد تؤدّي إلى إكساب بعض الأفراد حقوقاً سيصبح من المستحيل على الحكومة الجديدة سحبها في حال انقضاء مهلة المراجعة، بدون رجوع الإدارة عن العمل المذكور أو الطعن فيه. ما يعني أنّ الحكومة الجديدة فقدتْ عملياً قدرتها على سحب هذه الأعمال وباتت مُلزَمة بها، رغم أنّها غير قانونية ولم تكن هي الجهة التي اتخذتها أصلاً.

لا تقتصر تداعيات الموافقات الاستثنائية على هذا الشق القانوني بل إنّها تعكس اتجاهاً عاماً للنظام السياسي في لبنان بمخالفة الدستور عمداً بحجّة الظروف الاستثنائية. وحقيقة الأمر أنّ هذه الموافقات ليست استثنائية على الإطلاق، كونها أرستْ آلية مُسبَقة تُحتِّم كيفية اتخاذ القرارات أصبحت مع الوقت الوسيلة العادية التي تعتمدها إدارات ووزارات الدولة لتسيير شؤونها.

وهكذا تم، رويداً رويداً، التطبيع مع مخالفة الدستور ليس في موضوع الموافقات الاستثنائية فحسب، بل أيضاً في مسائل أخرى كالتمنُّع عن إجراء انتخابات نيابية فرعية ضمن المهلة الدستورية، وعدم إقرار موازنة سنوية أو إقرارها خارج المهل الدستورية وبدون التصويت قبل ذلك على قطع حساب كما تفرضه المادة 87 من الدستور. وباتت هذه الممارسات تُكرَّس في قرارات المجلس الدستوري الذي أعلن صراحة أنّ “بالنسبة لقانون موازنة عام 2020 فنشره قبل قطع الحساب بالنسبة للسنة السابقة يشكّل مخالفة للمادة 87 من الدستور، إلا أنّه يظل من الضروري معرفة ما إذا كان مجرد حصول هذه المخالفة يوجب إبطال القانون المطعون به أم أنّ وجود معطيات وظروف محدَّدة يمكن أن تحول دون الإبطال”. وبالفعل، اعتبر المجلس أنّ الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها لبنان تسمح للمشترِع الخروج عن المبادئ الدستورية لذلك فهو “لا يرى ضيراً في صدور قانون الموازنة ونشره من دون قطع الحساب الذي لم يُنجَز ويُقَرّ لأنّ البديل أيْ عدم إقرار الموازنة ونشرها يؤدّي إلى إطلاق يد الحكومة في الإنفاق دون تحديد أيّ سقف لهذا الإنفاق ما يشكّل خللاً أكبر في النظام العام المالي وضرراً فادحاً بمصالح البلاد العليا”[21].

والأغرب من ذلك أنّ عدم إقرار قانون قطع الحساب سببه تقاعس الحكومة، وأنّ قيام مجلس النواب بإقرار الموازنة يعني أنّ المجلس استطاع الاجتماع والتشريع بغضّ النظر عن الاحتجاجات التي كانت تحيط بمقرّ المجلس. فالاحتجاجات قد تشكّل ظرفاً استثنائياً للتأخُّر في إقرار قانون قطع الحساب أو الموازنة معاً، لكنّها لا تبرّر إطلاقاً اجتماع المجلس لإقرار الموازنة من دون قطع الحساب، ما يُسقِط عن نظرية الظرف الاستثنائي حجيَّتَها. هذا مع تسجيل مفارقة قيام المجلس الدستوري بلوم المتظاهرين ضد السلطة السياسية وتحميلهم مسؤولية وجود الظرف الاستثنائي، أي أنّ الاعتراض على أداء السلطة بات يشكّل مكافأة لها للتنصُّل من موجباتها الدستورية.

ويضيف المجلس الدستوري أنّ لبنان يمرّ بظروف سياسية ومالية واقتصادية صعبة مُوحياً بأنّ هذه الأوضاع هي التي تشكّل، أيضاً، ظرفاً استثنائياً. ولا شك أنّ هذا التبرير لا يستقيم كون الأوضاع الصعبة هي نتيجة إهمال السلطة السياسية لواجباتها خلال سنين طويلة وإنفاقها للمال العام من دون موازنات أو قطع للحساب، أي أنّ الظرف الاستثنائي المالي سببه الخرق المتمادي للدستور، ولا يمكن بالتالي تبرير خرق مجلس النواب للدستور بعدم إقرار قطع الحساب بوجود ظرف استثنائي هو بدوره ناجم عن خرق أسبق للدستور ارتكبته السلطة السياسية.

فقرار المجلس الدستوري يؤدّي فعلياً إلى الدخول في حلقة مفرغة بحيث يصبح خرق الدستور سبباً لنشوء وضع استثنائي يبرّر بدوره خرقاً آخر للدستور. وهذا الأمر هو عينه الذي ينسحب على الموافقات الاستثنائية، بحيث بات فشل أركان النظام السياسي في تأليف حكومة ضمن مهلة زمنية معقولة وعدم دعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع بحجّة تصريف الأعمال المبرِّر لمخالفة القواعد الدستورية التي ترعى عمل المؤسسات، بينما الهدف الفعلي لهذه التصرفات هو اكتساب وسيلة ضغط من أجل تحقيق مكاسب سياسية لهذا الزعيم أو ذاك.    

خلاصة

بعد هذا الاستعراض المسهِب، لا يمكن في الحقيقة فهم نظرية تصريف الأعمال والبُعد السياسي الخطير لظاهرة الموافقات الاستثنائية إلا عبر نسيان، مؤقَّتاً، مسألة استقالة الحكومة وفكّ الترابط بين تصريف الأعمال ووجود حكومة مستقيلة. فصعوبة إيجاد معيار يفرِّق بين الأعمال العادية الجارية والأعمال التصرُّفية هي، في حقيقة الأمر، نتيجة للخلط بين السلطة الحكومية والسلطة الإدارية الذي، لأسباب تاريخية عرفتْها فرنسا، أدّى في نهاية المطاف إلى جمع السلطتَيْن في يد واحدة هي الحكومة في ظل النظام البرلماني.

ويشرح “موريس هوريو” الفرق بين الوظيفة الإدارية والوظيفة الحكومية (أو وظيفة الحكم) بقوله: “الوظيفة الإدارية تتمثّل أساساً في إدارة الملفات الجارية للعامة. أمّا الوظيفة الحكومية فتتمثّل أساساً في معالجة الملفات الاستثنائية والسهر على المصالح الوطنية الكبرى”[22]. لذلك كان لا بد من التمييز بين مصالح العامة (intérêts du public) والمصالح الوطنية (intérêts nationaux) كون مصالح العامة هي عموماً مصالح فردية تخصّ كل إنسان في حياته اليومية، بينما المصالح الوطنية تتعلق بحياة الأمة (nation) ككيان يختلف عن الأفراد الذين يتألف منهم.

وهكذا يصبح جليّاً أنّ تصريفَ الأعمال أمرٌ دائم، لا علاقة له بوجود حكومة مستقيلة أم لا، كون كل دولة حديثة تفترض حكماً وجود سلطة إدارية تهتم بالحفاظ على النظام العام وتسهر على تأمين مصالح الأفراد اليومية التي تنبع من ضرورات الحياة ذاتها. وبما أنّ التطوُّر التاريخي للنظام القانوني الفرنسي فرض لأسباب سياسية توحيد وظيفة الحكم المسؤولة عن الحياة السياسية للدولة ووظيفة الإدارة المسؤولة عن تسيير الأعمال الجارية العادية لحياة السكان، بات من الصعب التمييز بين سلطة الحكم والسلطة الإدارية كون الحكومة التي تتألف من وزراء يشرفون على عمل الإدارة باتت الجهة التي تتركَّز فيها الحياة السياسية والإدارية للدولة.

فعند زوال مسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب تفقد هذه الأخيرة شرعيَّتَها السياسية لاتخاذ قرارات بموجب سلطة الحكم لكنّها تستمر بالقيام بواجباتها في كل الأمور المتعلقة بالوظيفة الإدارية التي تشمل الأعمال الجارية التي تخص العامة. ومن هنا إشكالية تحديد نطاق تصريف الأعمال كون الجهة نفسها تستمرّ في اتخاذ القرارات لكنْ مع فقدانها وظيفة الحكم واستمرار تمتُّعها بوظيفة الإدارة. فتصريف الأعمال ليس مرحلة استثنائية بل هو، في حقيقة الأمر، الوضع العادي بينما القرارات السياسية هي استثنائية بطبيعتها، كونها أموراً لا تتعلق بحياة الأفراد اليومية ومصالحهم العادية إنّما تحتاج إلى قرارات تتّسم بالشرعية السياسية كي تتمكّن من تحديد الخيارات الكبرى للأمة.

وهكذا يتبيَّن لنا أنّ المؤسسة الدستورية التي يُفترَض أن تتجسَّد فيها وحدة وظيفة الحكم والوظيفة الإدارية (مجلس الوزراء بوصفها السلطة التنفيذية) فقدت دورها كسلطة حكم لمصلحة الزعماء الذين باتت تتجسَّد، واقعياً، في أشخاصهم السلطة السياسية القائمة على الشرعية الطائفية للزعيم، وبذلك حُوِّل مجلس الوزراء إلى مجرَّد سلطة إدارية لا يمكن لها اتخاذ قرارات سياسية إلا بالقدر الذي يتوافق عليه الزعماء.

وتجلى هذا الوضع بشكل ساطع في استمرار ظاهرة الموافقات الاستثنائية حتى بعد تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثالثة، ما يشكّل خرقاً لأبسط قواعد المنطق الدستوري. فرغم وجود حكومة مكتملة الصلاحيات دفع الخلاف بين الزعماء حول تفجير المرفأ ودور المحقق العدلي القاضي طارق البيطار في هذه القضية رئيس الحكومة إلى “تعليق” جلسات مجلس الوزراء ما حوَّل الحكومة عملياً إلى حكومة تصريف أعمال لا يمكنها الانعقاد لاتخاذ قرارات سياسية تتعلق بمصير الدولة ومصالح الوطن العليا. وبالفعل صدرت مجموعة[23] من الموافقات الاستثنائية عن رئيسَيْ الجمهورية والحكومة من دون العودة إلى مجلس الوزراء. وقد عُلِّلَ منح الموافقة الاستثنائية مثلاً لمشروع مرسوم نقل اعتماد من احتياطي الموازنة على أساس القاعدة الاثني عشرية في تاريخ 21/10/2021 وفقاً للصيغة التالية: “في ضوء عدم تحديد جلسة لمجلس الوزراء، ونظراً لضرورة تغطية اعتماد الأعمال الإضافية الليلية للموظفين المناوبين في المديرية العامة للطيران المدني حتى نهاية 2021، وعملاً بمبدأ استمرارية المرفق العام ووجوب تأمين سلامة الملاحة الجوية…”.

لم يعد تصريف الأعمال يعني زوال مسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب عبر استقالتها أو حجب الثقة عنها بل بات، في حقيقة الأمر، عبارة عن فقدان الحكومة لثقة الزعماء الذين يقرِّرون حصرها في وظيفتها الإدارية وسحب القرار السياسي منها، في كل مرة تتعرَّض فيها مصالحهم السلطوية للخطر. ففترات تصريف الأعمال الطويلة التي بات يشهدها لبنان بعد 2005 تعكس طبيعة النظام الفعلية القائم على توازن بين زعماء يدَّعون تمثيل طوائفهم، بحيث يُحصَر القرار السياسي فيهم بينما تتحوَّل المؤسسات الدستورية، كمجلس النواب ومجلس الوزراء، إلى مجرَّد هياكل فارغة تقتصر وظيفتها على تكريس سلطة الأمر الواقع للزعماء عبر منح توافق هؤلاء الشكل القانوني المناسب التي تفترضه الدولة الحديثة.

أكثر من ذلك، يتبيَّن أنّ وظيفة الإدارة التي يجب على السلطات العامة تأمينها بشكل دائم باتت أيضاً مُعرَّضة للخطر بسبب الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه لبنان، من خلال تهديد المواطنين في أمنهم الصحي والغذائي وفقدانهم لعملهم وقدرتهم الشرائية جرّاء تدهور سعر صرف الليرة والصعوبة المتزايدة في التنقُّل بسبب غلاء المحروقات الفاحش. فانهيار وظيفة الإدارة للدولة يعني أنّ تصريف الأعمال الجارية بات موضع تهديد جدي، بينما تستمرّ وظيفة الحكم بيد نظام الزعماء، أي أنّ الدولة بمؤسساتها وأجهزتها هي الضحية المباشِرة للزعماء، أي ضحية مصادرة وظيفة الحكم من قِبَل هؤلاء الزعماء، ولا يمكن بالتالي إنقاذ الدولة إلا عبر إعادة وظيفة الحكم إلى المؤسسات الدستورية. حينها فقط يعود تصريف الأعمال إلى فهمه الدستوري السليم كوسيلة مؤسساتية للقيام بوظيفة الإدارة ريثما يُعاد تكوين شرعية سياسية من أجل منح وظيفة الحكم إلى سلطة ديمقراطية تعمل وفقاً لمنطق دولة القانون وليس لتحاصص مصلحي بين زعماء الأمر الواقع.

لقراءة “الموافقات الاستثنائية في ظل حكومة حسان دياب المستقيلة

لقراءة المقال باللغة الانكليزية: إضغط هنا


[1] Bouyssou Fernand. L’introuvable notion d’affaires courantes : l’activité des gouvernements démissionnaires sous la Quatrième République. In: Revue française de science politique, 20ᵉ année, n°4, 1970, p. 646.

[2] « Lorsqu’une autorité administrative est, pour une raison quelconque, désinvestie de ses fonctions, sa compétence se trouve généralement transférée sans délai à celle qui a été nommée ou élue pour la remplacer. Si le remplacement n’est pas immédiat, l’autorité désinvestie reste provisoirement en fonctions, mais avec une compétence diminuée. En vertu d’un principe traditionnel du droit public consacrée par la jurisprudence, elle est en effet limitée à l’expédition des affaires courantes »  (René Chapus, Droit administratif général, Tome 1, Montchrestien, p. 1097).

[3]  Considérant qu’en raison de son objet même, et à défaut d’urgence, cet acte réglementaire (…) ne peut être regardé comme une affaire courante, si extensive que puisse être cette notion dans l’intérêt de la continuité nécessaire des services publics’ (CE, Ass. 4 avril 1952 Syndicat régional des quotidiens d’Algérie).

[4]  راجع الاجتهاد المستقر لمجلس شورى الدولة حول مفهوم تصريف الأعمال في القرارات التالية: م.ش.د. قرار رقم 478 تاريخ 30/11/1977 جوزف جبر/الدولة وبلدية حمانا؛ م.ش.د. قرار رقم 341 تاريخ 19/1/1979 عجاج جرجس ياغي/الدولة؛ م.ش.د. قرار رقم 194/2013-2014 تاريخ 5/12/2013 انطوان الزغبي/الدولة.

[5] إدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 804.

[6] من السوابق المهمة التي لا بد من ذكرها رغم أنّها لا تتعلق باجتماع محدَّد لمجلس الوزراء، هو قيام حكومة الرئيس أحمد الداعوق التي تشكَّلت في 14 أيار 1960 بالإشراف على الانتخابات النيابية العامة، رغم عدم مثولها أمام مجلس النواب لنيل الثقة كون المجلس كان قد حُلَّ في 4 أيار 1960 من قِبَل الحكومة السابقة.

[7] الخلاصة نفسها يصل إليها “فرنان بويسو” في مقالته المذكورة آنفاً:

« Aussi le gouvernement pourra-t-il se permettre une activité réduite pendant des crises de courte durée ; mais si la crise se prolonge, le gouvernement exercera son activité d’une manière presque normale » (Bouyssou Fernand, op. cit. p. 659).

[8] استشارة الدكتور إدمون رباط منشورة في: بشارة منسى، الدستور اللبناني، أحكامه وتفسيرها، 1998، ص. 376.

يُشار هنا إلى أنّ Jean-Claude Douence في تعليقه على قرار راشد/الدولة، يذكر أنّ مجلس النواب في لبنان بعد استقالة حكومة الرئيس رشيد كرامي سنة 1969، وعملاً بالتقليد البرلماني، امتنع عن الاجتماع حتى خلال العقد العادي. ما يعني أنّ المجلس لا يمكنه التشريع في ظل حكومة تصريف أعمال. راجع مقالة Jean-Claude Douence في المجموعة الإدارية للتشريع والاجتهاد، السنة الرابعة عشرة، 1970، ص. 9. وبالفعل لن يعقد مجلس النواب جلسة تشريعية إلا في 18 كانون الأوّل 1969 أي بعد تشكيل الحكومة ونيلها الثقة في 4 كانون الأوّل 1969. وهذا ما يذهب إليه أيضا “جوزيف برتيليمي” عندما يكتب انه عند حصول أزمة وزارية يتم تعليق العمل التشريعي للبرلمان:

“(…) il n’y a pas de débat tant qu’il n’y a pas de ministre au banc du Gouvernement, et que pendant les crises ministérielles les Chambres s’abstiennent de siéger. le travail législatif étant suspendu” (Joseph-Barthélemy, Précis de droit constitutionnel, Librairie Dalloz, Paris, 1932,  p. 331).

بينما يعتبر العلامة “أوجين بيار” ان الحكومة تمتنع عن تقديم مشاريع القوانين عندما تكون مستقيلة باستثناء القوانين الطارئة التي تفرضها الضرورة:

« C’est pourquoi il est de tradition qu’après la démission d’un Cabinet aucun projet de loi ne soit déposé sur le bureau des Chambres (…) Les ministres démissionnaires sont chargés de l’expédition des affaires courantes et l’on ne saurait contester que dans cette catégorie rentre une loi urgente sur laquelle il est indispensable que les Chambres se prononcent avant la formation du nouveau Cabinet « (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, 1919, p.43).

[9] على سبيل المثال، القرار رقم 8 تاريخ 24/11/2020 (تعديل قانون المياه) الذي صدر في ظل حكومة حساب دياب المستقيلة.

[10] X. Baeselen, S. Toussaint, J.B. pilet, N. Brack, Quelle activités parlementaires en période d’affaires courantes ? Les cahiers de l’ULB et du PFWB, Fédération Wallonie-Bruxelles le Parlement, 2014, p.15.

[11] « Un consensus s’est dégagé, à savoir que pendant une période d’affaires courantes, la procédure législative parlementaire peut se  dérouler tout à fait normalement : le Parlement peut déposer des propositions de loi, le gouvernement peut déposer des projets de loi, les propositions et les projets peuvent être examinés, le gouvernement peut présenter des amendements, le Parlement peut adopter des textes et le gouvernement peut les sanctionner” (op. cit, p. 21).

[12] اعتبار المعاملات التي بوشِرَ بها قبل استقالة الحكومة من ضمن الأعمال التي يمكن اتخاذها خلال تصريف الأعمال ينسجم مع اجتهاد مجلس شورى الدولة البلجيكي الذي يميّز عادةً بين ثلاث فئات من تصريف الأعمال: الأعمال اليومية العادية التي لا طابع سياسي لها، الأعمال التي تشكّل استكمالا لمعاملات شرع بها قبل استقالة الحكومة على ألّا تؤدي إلى اتخاذ خيارات سياسية مهمة، والأعمال الطارئة:

« Relèvent des affaires courantes, les affaires de gestion journalière, les affaires constituant la poursuite normale d’une procédure régulièrement engagée avant la dissolution ou la démission, et les affaires urgentes.  La deuxième catégorie d’affaires ne peut relever des affaires courantes que si la procédure d’élaboration répond à des conditions bien précises. Notamment, une affaire dont l’importance dépasse celle des affaires de gestion journalière et qui n’est pas urgente peut néanmoins être finalisée par le gouvernement ou l’un de ses membres, malgré la dissolution du parlement ou la démission du gouvernement, si la procédure qui a donné lieu à la décision concernée a été engagée bien avant la période critique, si elle a ensuite été réglée sans précipitation et si les questions politiques, qui ont pu se poser sur le plan administratif, ont été résolues avant cette période critique. Ne relèvent, en revanche, pas de cette deuxième catégorie, les affaires dont le traitement donne lieu à des choix politiques importants, c’est-à-dire des affaires qui impliquent des options dont l’importance sur le plan de la politique générale est par essence telle que ces affaires ne pourraient être décidées que par un gouvernement qui a l’appui du parlement et qui risque de perdre cet appui en raison de la décision qu’il a prise » (CEB, n o 246.459 du 18 décembre 2019).

[13] هذا علماً أنّ تصريف الأعمال لم يمنع رئيس الحكومة من توقيع مرسوم إعادة تعيين رئيس ومدير عام اللجنة المؤقَّتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، كذلك مرسوم تعيين أعضاء في الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً.

[14] تجدر الإشارة إلى أنّ التيار الوطني الحر اعتبر سنة 2013 أنّ آلية الموافقات الاستثنائية هي بدعة مرفوضة إذ إنّ “من المفترض أن يتمّ بتّ الأعمال الإدارية، من خلال اجتماع الحكومة المستقيلة لاتخاذ القرار بدلاً من حصر هذه الصلاحية برئيس لا يتمتّع سوى بصلاحيات شكلية في ممارسة السلطة الإجرائية، ورئيس لا يمتاز عن سائر الوزراء إلا بكونه يتمتّع وحده بصلاحية التنسيق بين الوزراء وبصلاحية الاستقالة”، وقد قام النائب إبراهيم كنعان، انسجاماً مع الموقف الذي أطلقه رئيس تكتل الإصلاح والتغيير العماد ميشال عون، بإبلاغ هذا الموقف إلى رئيس الحكومة المستقيل نجيب ميقاتي (الموافقات الاستثنائية: صلاحيات الحكومة في يد البوجي، جريدة الأخبار، 11 أيلول 2013، العدد 2101).

[15] Aube Wirtgen, REPORT ON BELGIAN CARE TAKER GOVERNMENT, 2021.

[16] Council of State 18 December 2018, n° 243.271, Dewinter.

[17] وقد اعتبرت هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل أنّ “توجيه التعاميم في دوائر الدولة هو مظهر من مظاهر السلطة التسلسلية التي يمارسها الوزير وحده ضمن وزارته بما له من حق الإشراف والرقابة على موظفي الوزارة بوصفه الرئيس التسلسلي” (استشارة رقم 122/ر تاريخ 18/4/1961).

[18] لا بد من التذكير بظاهرة تشبه الموافقات الاستثنائية عرفها لبنان بين 1986 و1988 خلال الحرب الأهلية، ظاهرة المراسيم الجوالة. فقد قرّر رئيس الحكومة رشيد كرامي مقاطعة رئيس الجمهورية أمين الجميّل بسبب الخلاف حول الاتفاق الثلاثي ما أدّى إلى تعطيل عمل مجلس الوزراء، الأمر الذي استمرّ بعد اغتيال الرئيس كرامي وتعيين سليم الحص رئيساً للحكومة بالوكالة، بحيث كان يقوم عنصر درّاج في الأمن الداخلي بالتجوُّل على الوزراء ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية للحصول على تواقيعهم على أن يشير المرسوم في بناءاته على التالي: “وبما أنه يتعذّر على مجلس الوزراء الانعقاد في الوقت الحاضر، وسنداً لنظرية الظروف الاستثنائية”. وقد نُشِر في الجريدة الرسمية ما مجموعه 213 مرسوماً جوّالاً صدرت بين شباط 1986 وأيلول 1988.

[19] فقط المراسيم التي صدرت بناء عى موافقة استثنائية تُنشَر في الجريدة الرسمية، أمّا التدابير أو القرارات التي تُتَّخَذ بناء على موافقة استثنائية فيُعلَن عنها بمذكرة صادرة عن أمين عام مجلس الوزراء لا تُنشَر في الجريدة الرسمية.

[20]  تشير المصادر إلى أنّ الموافقات الاستثنائية هي فكرة اقترحها أمين عام مجلس الوزراء الراحل سهيل بوجي سنة 2013، وتقوم على أخذ موافقة شفهية من رئيسَيْ الجمهورية والحكومة على بعض الطلبات وترجمتها إلى مراسلة منه إلى الوزراء المعنيين مع عبارة «على أن تُعرَض لاحقاً على مجلس الوزراء في أوّل جلسة يعقدها” (جريدة الأخبار، 4 تشرين الثاني 2013، عدد 2144، الحاكم بأمره سهيل بوجي: حكومة في رجل). وتعطي المقالة المذكورة بعض الأمثلة على استنسابية الموافقات الاستثنائية التي تمرّ عبر أمين عام مجلس الوزراء: “كتوقيعه طلبات صرف نفقات سفر مُقدَّمة من بعض الوزراء لتغطية أعمال تتعلق بشؤون وزاراتهم ورفضه طلبات مماثلة لوزراء آخرين، وإعطائه موافقة استثنائية على اتفاقية توأمة بين بلدية بيروت ومدينة ميامي في ولاية فلوريدا الأميركية وتفويضه رئيس البلدية التوقيع عليها، على أن يُطرَح الموضوع لاحقاً في مجلس الوزراء. علماً أنّ الموضوع كان قد عُرِض على وزارة الخارجية والمغتربين وتقرَّر حفظه لحين تشكيل حكومة جديدة، ولا شيء مُلِحّاً في هذه القضية”.

[21]  المجلس الدستوري، قرار رقم 2 تاريخ 9/4/2020.

[22] Maurice Hauriou, Précis de droit administratif et de droit public, Recueil Sirey, Paris, 1919, p. 35 (note 1). « La fonction administrative consiste essentiellement à faire les affaires courantes du public. La fonction gouvernementale consiste essentiellement à solutionner les affaires exceptionnelles et à veiller aux grands intérêts nationaux ».

[23]  تحويل اعتمادات إلى هيئة أوجيرو، تحويل  اعتماد إلى مستشفيات، نقل اعتماد إلى المديرية العامة للطيران المدني بموجب المرسوم رقم 8444 تاريخ 9 تشرين الثاني 2021، نقل خادم منصة “إيمباكت” الذي يجري تسجيل طلبات البطاقة التمويلية عليه إلى مقرّ التفتيش المركزي لزيادة سعته ثـم تحويله إلى أوجيرو.

انشر المقال

متوفر من خلال:

دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، أجهزة أمنية ، البرلمان ، سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، دراسات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني