تاريخ مصر الحديث هو تاريخ طويل من الاستثناء الدائم. فبالرجوع إلى البحث الأرشيفي الذي أجريته على مدار السنوات العشر الأخيرة، ومنذ تأسيس القانون الوضعي الحديث في عام 1883، لم تحكم مصر بدون الاستناد على قانون الأحكام العرفية/ الطوارئ إلا لفترات متقطعة. وبشكل مفصل، تم فرض قوانين الأحكام العرفية/ الطوارئ من 1914 إلى 1923، ومن 1939 إلى 1945، ثم من 1948 إلى 1950، ومن 1952 إلى 1956، ثم تم تعليق قانون الطوارئ لبضعة أشهر في عام 1956. ثم استؤنف العمل به من 1956 إلى 1964، ومن 1967 إلى 1980، ثم من 1981 إلى 2012، ثم من أغسطس 2013 إلى نوفمبر 2013، ومن 2017 إلى أكتوبر 2021. ومع ذلك، فقد نما النظام القانوني وسيادة القانون في مصر بشكل كبير وأصبح محورياً في تنظيم العلاقات الاجتماعية.
يحاول هذا النص الاشتباك مع تاريخ تشكل الاستثناء في مصر وفهم بعض شروط بروزه واستمراريته من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: متى بدأ الاستثناء في مصر؟ ما هي الشروط التاريخية لميلاده؟ كيف يمكن أن نفهم ونحدد العوامل التي أنتجته؟ وكيف يمكن أن نؤول هذه الاستمرارية الطويلة؟
والمقصود بالاستثناء ليس الاستثناء الشرقي. أي أن للعالم الشرقي خصوصية من حيث أنماط الإنتاج والحكم، وهو محكوم بعوامل ثقافية واجتماعية ودينية تجعله دائما استبداديا وقمعيا وغير حديث وغير ديمقراطي. وهي نظرة استشراقية ترسّخت مع الاستعمار والإمبريالية الغربية. لكن المقصود هو استثناء المصريين من جملة حقوق وحريات وضمانات قانونية ودستورية. الاستثناء المشار إليه ينطبق عليه توصيف أندريو أجامبن (2005)، لجهة كونه علاقة اجتماعية من السيطرة اللامحدودة. كما ينطبق عليه توصيف كارل شميت، لجهة كونه قرارا سياديا بتعليق القانون لفرض الأمن والنظام لاستعادة القانون. وهنا أود الإشارة سريعاً إلى ان مفهوم أجامبين عن “الخليع” (الترجمة لشريف يونس) لا ينطبق على الحالة المصرية. فلم يحدث في تاريخ الاستثناء المصري أن تم نزع الصفة القانونية أو الحماية القانونية بالكامل عن الأفراد إلى الحد الذي يتسنى معه قتلهم دون عقاب أو معاملتهم كما كانت الحالة مع اليهود في ألمانيا النازية. ومن هنا أيضاً لا ينطبق مفهوم حنة ارندت عن علاقة الاستثناء بالنظم الشمولية وجعل الأفراد منزوعي الصفة القانونية. فالاستثناء المصري، تاريخياً وحتّى اليوم لم ينزع مطلقاً الصفة القانونية عن الأفراد في مصر. تأريخ الاستثناء في مصر والإطار النظري للعديد من المدارس
يعود الكثير من الباحثين إلى عام 1914 كبداية لتاريخ الاستثناء في مصر. وهو أمر مشروع تحليلاً. فقد شهد هذا العام تدشين أول قانون محكم ومهيكل ومنظم للاستثناء في مصر. وقد أشار القانون بشكل واضح إلى الإجراءات والسلطات المخول لها العمل على تنفيذ الأحكام العرفية وتنظيم سير المجتمع وعمله في تلك الحالة وحدد المحاكم المنوط بها إدارة الأمر.
تحيل سنة 1914 إلى عدة عوامل مهمة لفهم نظرية الاستثناء وعناصرها المختلفة أيضاً. فهناك الحدث الطارئ المتمثل في الحرب العالمية الأولى أو الحرب العظمى كما كان يطلق عليها. وكذلك الوضع شديد الحساسية لمصر من حيث كونها واقعة تحت “الحماية البريطانية” وتربطها علاقة ملتبسة مع الخلافة العثمانية. واخيرا وجود وضع اجتماعي وسياسي داخلي شديد الاضطراب. إذا، تشكل 1914 حالة صالحة لتطبيق العديد من نظريات ومداخل الاستثناء عليها. وضع مضطرب أفرزه حدث خارج عن سياق المعتاد والطبيعي يتطلب إجراءات استثنائية للحفاظ على الأمن وتعزيز قدرات الدولة على السيطرة. ومن المهم الإشارة إلى أن بريطانيا هي من أعلنت الأحكام العرفية في مصر، لأنها كانت السيد الحقيقي على البلاد. الأمر الذي تطلب تغييرا شكليا في التوصيف بين الانتداب والحماية والاحتلال. لأن مصر لم تكن رسمياً أو طبقاً لتعريفات القانون الدولي تحت الاحتلال المباشر.
الإطار النظري لهذه المقاربات التي تتبنى منهجية شميت وأجامبن تركز على رؤية الاستثناء ودراسته كحدث وتصنيف أنطولوجي. أي أنه إمكانية دائمة الحدوث على تخوم الحالة الطبيعية ونعني هنا بالطبيعي مسار الحياة اليومية بشكل منتظم والاستثناء هو على سبيل المثال إمكانية حدوث فيضان. وعليه فإن ما هو خارج عن “الطبيعي” يتطلب بالضرورة ترتيبات أمنية لإدارته. مدرسة كوبنهاجن بدورها تتبنى نفس المقاربة الأنطولوجية لكنها بالمقابل تتناول الأمننة بوصفها فعلا خطابيا. وبالتالي فالاستثناء طبقاً لها هو الاستغلال الخطابي للطارئ من قبل السلطات من أجل اعتماد جملة ممارسات أمنية تعصف بالسياسة والحقوق والحريات، كما هو الحال في تحليلها للخطابات حول “الإرهاب” بعد 11 سبتمر. فهي ترى أن السلطات استغلّت الإرهاب أو احتمال وقوعه لإنتاج خطاب أمني يقوّض السياسية ويحفّز الإجراءات الأمنية ويشرعنها، ويشيطن أفرادا أو مجموعات بعينها ويجعلهم عرضة للقمع تحت مزاعم الأمن والحماية.
وبشكل مقتضب يمكن تحديد العناصر الرئيسية لنظرية الاستثناء عند شميت وأجامبين في ثلاثة محاور. يعتمد الأول على اعتبار الاستثناء كحالة واقعة خارج ما هو “طبيعي”، كامنة في النظام الليبرالي نفسه تعجز السياسة على التعامل معها. ثانياً، إن الحدث الطارئ هو عادة ما يشكل تهديدا عميقا لوجود الدولة نفسها. وأخيراً، التأكيد على فكرة “الضرورة” التي تؤدي الى تبني الإجراءات الغير اعتيادية والاستثنائية المتبعة لمواجهة هذا الحدث الطارئ.
الدراسات التي تتبنى هذا الفهم الأنطولوجي للاستثناء تعتمد أساسا على تحديد الحدث الخارجي، العرضي الذي يعرض النظام العادي لتحدٍّ شديد، والذي يمكن أن يكون حربًا، أو جائحة، أو وفاة ملك أو اغتيال رئيس (Mahoony 2000)، وربطه بفرض قوانين الطوارئ/الأحكام العرفية. ثم تقوم هذه الدراسات بفحص الآليات وأشكال الأمننة التي اتخذتها السلطة في مواجهة الحدث الطارئ والبحث في الأفعال الخطابية التي شرعنت ذلك، محولة السياسة العادية إلى تهديدات يجب التعامل معها وفقًا لإجراءات أمنية استثنائية.
وهذا يتناغم مع مدرسة كوبنهاجن للدراسات الأمنية والتي تركز على اللغة والخطاب. وهكذا دراسات تحاول الكشف عن الأفعال الخطابية التي تقوم بأمننة المواضيع والقضايا المختلفة سواء السياسية منها او الاقتصادية أو الاجتماعية، ومقاربة السياسة تباعا كتهديدات يجب التعامل معها وفقًا لإجراءات استثنائية. كما تركز هذه الدراسات على تحديد الآليات السببية التي أفرزت أمننة هذه المواضيع. وتشرح هذه الدراسات كيف أن عدة ظواهر مثل الاستبداد والتسلط تكون نتيجة لمسار معين أفرزه حدث استثنائي مثل مقتل رئيس، وتسبب في سلسلة من ردود الأفعال من قبل الدولة. وعليه يمكن فهم الاستثناء كأداة للأمننة تمارسها الدولة ضمن صلوحياتها السيادية.
و استئناسا بمنهج أجامبن الذي يقارب الاستثناء بوصفه حالة ليست خارجة عن القانون ولا هي داخله، ركزت عديد الدراسات على استكشاف كيف يمحو الاستثناء الخطوط الفاصلة بين العادي والاستثنائي. وهي منهجية يمكن تطبيقها على الحالة المصرية في فهم الاستثناء طويل الأمد واعتبار الحرب العالمية الأولى في 1914 كنقطة البداية. وهي السنة التي شهدت تبني أول قوانين الأحكام العرفية المتطور وانتشارا لخطابات الامننة التي شرعت لمنع العمل السياسي والتجمعات والمعارضة. تستكشف الدراسات المعتمدة على هذه المقاربة خطابات الحكام، وكيف تمت أمننة مواضيع وقضايا مختلفة، وتم الحفاظ على التهديد وإعادة إنتاج الخطر. وهي تعتمد في ذلك على أرشيفات مختلفة من مراسيم وقوانين للأحكام العرفية وخطابات الحكام… في تحليل المحتوى. بعبارة أخرى، يكون تصميم الدراسة موجهًا نحو الأفعال الخطابية، لمطابقة الوقائع مع الافتراضات النظرية للدراسة.وهو مخالف تماما لمنهج هذا المقال كما سأوضح لاحقاً.
عديد الدراسات حول قانون الطوارئ في مصر تتماهى عن وعي أو غير وعي مع المقاربة الأنطولوجية في فهم الاستثناء وأغلبها يعتمد على مقارنة مع الحالة الفرنسية في تنظيم الاستثناء منذ بداية القرن الماضي. وليس من قبيل الصدفة أن معظمها قد كتبه قضاة مصريين يقارنون الإجراءات، وتطورها القانوني وتنظيم قانون الطوارئ في مصر مع الحالة الفرنسية.
وجميع هذه الدراسات تنطلق من حدث خارجي يشكل تهديدًا للدولة، يتطلب تدابير استثنائية. كما أن جميعها يشير إلى ضرورة منح السلطة التنفيذية المزيد من الصلاحيات والحرية لاستعادة النظام وإنهاء حالة الاستثناء في أسرع وقت ممكن، ويؤكد على ضرورة الحفاظ على الإشراف القضائي على الاستثناء. وفي ولائهم للمدرسة الليبرالية، يؤكد هؤلاء القضاة على محورية دور البرلمان وأهميته على المستوى الإجرائي بشكل أساسي في إعلان الاستثناء والموافقة عليه. البرلمان في تصورهم يجمع بين سيادتين مفترضتين، سيادة الحاكم/الدولة وسيادة الشعب الممثل في البرلمان، الذي يفترضون انتخابه ديمقراطيًا. وتتسم مجمل هذه الدراسات بعور كبير من حيث أنها غير تاريخية وغير سياسية. وهؤلاء القضاة يدينون ضمنيا، وأحيانا صراحة، إساءة استخدام الصلاحيات التي منحت للسلطات التنفيذية للخروج من حالة الاستثناء. لكنهم في المقابل لا يتساءلون عما يعنيه وجود هذا التاريخ الطويل من الاستثناء في مصر، ولا عن دور الاستثناء في بناء الدولة المصرية الحديثة مع دخول الاستعمار.
هذا المقال يختلف مع تأريخ الاستثناء في مصر وإحالته الى 1914، كما يختلف مع الإطار النظري لفهم الاستثناء بوصفه نتيجة لحدث أنطولوجي وطارئ مثل الحرب أو الوباء أو الثورة. تاريخياً تم أول إعلان للأحكام العرفية في مصر عام 1882 مع دك الأسطول الإنكليزي لمدنية الإسكندرية وبداية الاحتلال لإخماد الثورة العرابية. وقد أعلن الخديوي توفيق الأحكام العرفية في طول البلاد وعرضها (يمكن مراجعة الصحف في ذلك الوقت). ولكن لم يكن هناك قانون منظم للأحكام العرفية، ولا لوائح منظمة، ولا آثار محددة تترتب عن إعلان الأحكام العرفية. وقد اجتهد الباحث كثيراً لفهم كيف عرفت وأنتجت الدولة المصرية هذا التصنيف ومن أين جاء ولماذا وما هو تأصيله القانوني وإطار عمله المؤسسي. والأرجح أن الأمر لم يتجاوز محاكاة الدول الحديثة في أوروبا في فرض أو إعلان الاحكام العرفية في حالة الحروب. ويبدو أن الأمر كان مرتبطا أكثر بالحالات العسكرية المباشرة وليس الاضطراب بشكل عام، لأن الدولة المصرية لم تعلن الأحكام العرفية عقب أو أثناء اندلاع الثورة العرابية في 1882.
المنهجية
أستخدم في هذا المقال منهجية تتبع المسار (process tracing) لمحاولة فهم ميلاد وتشكل الاستثناء في مصر عبر استكشاف الآليات التي من خلالها ترسخ الاستثناء، ورصد تأثيرات ذلك على بنية وطبيعة الدولة المصرية. والمقصود بتتبع المسار، كما يشرح كل من Beach and Pedersen (2013), هو تحديد الأسباب (causes) والمكينزمات المسببة لنتائج معينة كما الوقوف على هذه العملية. وبهذا تختلف هذه المنهجية عن مقاربات التأريخ الساعية لخلق سرديات أو دحض أخرى. وأعتمد في هذا البحث على الأدوات التالية: مصادر ثانوية وبعض المصادر الأولية مثل القوانين واللوائح والفرمانات.
هذه الدراسة تقارب الاستثناء كناتج لعدة عوامل ومتغيرات وأسباب متداخلة. أي أن الاستثناء هنا ليس سببا بل هو نتيجة. كما أنها تتعامل مع الأحكام العرفية/قانون الطوارئ بوصفها آلية، ليست بالضرورة الوحيدة والأهم، يتم من خلالها تحويل عدة أسباب وعوامل إلى استثناء. في أغلب الدراسات الخاصة بالاستثناء بشكل عام، ينظر إلى الحرب أو الحوادث الطارئة كثورة أو تمرد أو كارثة طبيعية كأسباب لإنتاج الاستثناء من قبل الدولة الحديثة. أما الدراسات ذات المقاربة النقدية، وإن بحثت في نفس هذه الأسباب، إلا أنها تكشف كيف يتم تعمد استخدامها من قبل السلطات لتبرير استعمال القمع وإنتاج خطاب يرتكز على وجود الخطر والتهديد الدائم لقمع أي اختلاف سياسي وقتل السياسة بشكل عام.
في المقابل، يحاول هذا المقال من منظور الاقتصاد السياسي، النظر إلى إدخال القانون الوضعي الحديث في مصر، وأهداف السيطرة والضبط، والترتيبات الخاصة بالمجال والسكان بوصفها أسبابا منتجة للاستثناء. ولا يرتكز المقال على عوامل التسلط والاستبداد بشكل مجرد أو كما ينظر إليها في السياق الليبرالي كأسباب منتجة للاستثناء. ولفهم هذه الأسباب، يعتمد هذا المقال على المادية التاريخية إضافة إلى منهجية تتبع المسار. أي التحليل المادي القائم على تحديد وضع القوى الاجتماعية في لحظة تاريخية ما وشروطها، وظروف ووضع قوى الإنتاج والعمل والشروط الناظمة لوجودها الاجتماعي ونمط إنتاجها، والاختراعات السياسية والتقنية والبيروقراطية المتاحة في لحظة تاريخية ما، وأشكال عمليات الاستخراج والاستغلال. بلغة فوكو. يحاول هذا البحث أيضاً رسم “مصفوفة حرب” (Matrix of War) لواقع القوى الاجتماعية المشتبكة في الصراع الاجتماعي وما هو متاح لديها من إمكانيات واختراعات من شأنها إنتاج أشكالا معينة من السيطرة والإخضاع يكون الاقتصاد السياسي هدفها الأخير.
يقوم المقال بتحديد الميكانزمات التالية، والتي تقوم بتحويل الأسباب والعوامل السابق ذكرها الى استنثاء. 1- عملية التكامل والتفاضل بين الدولة البوليسية ودولة القانون. 2- القانون والمراسيم الاستنثائية. 3- المحاكم المختلفة. 4- الضبط البوليسي الكثيف. 5- العسكرة. 6- الفصل والحجز الاجتماعي وتحجيم حركة السكان. 7- الأمننة. 8- ترسيم الأقاليم والمساحات.
العسكرة كميكانزم تحتاج بعض التوضيح وبالأخص في الحالة المصرية. فالعسكرة قد تكون سببا ينتج وضعا استنثائيا، وهذا مثلاً ما تذهب إليه دراسات يزيد صايغ وزينب أبو المجد. وفي هذه الحالة يكون المقصود بالعسكرة هو سيطرة العسكرين على الدولة وأدوات الإنتاج وهيمنتهم على الاقتصاد. وتكون هذه الحالة مصحوبة بمكون أيديولوجي يقوم على تمجيد الحالة العسكرية وأهمية هيمنة وسيطرة العسكر على مقاليد الأمور المختلفة، والدفع بأنهم الأجدر والأكثر حرصاً علي سلامة ووحدة الأمة، وأنهم الأكفأ والأجدر بالحكم. وبالطبع فإن الدراسات التي تتبنى هذا الطرح، تتناول مصر ما بعد 1952 والانقلاب العسكري وسيطرة الجيش على مقاليد الحكم.
أما العسكرة كميكانزم كما يتبناها هذا المقال، فهي مختلفة جداً عن الطرح السابق للعسكرة. والمقصود منها هنا هو استخدام أدوات وتقنيات وآليات عسكرية في حكم السكان، وترسيم الأقاليم بشكل عسكري يهدف إلى الفصل والعزل والحجز، واستخدام أشكال حربية في فرض السيادة السياسية على السكان في عموم الإقليم. أما كونها ناتجا، فالمقصود به، هو أن استخدام هذه الأشكال من العسكرة في حكم السكان، من شأنه أن يفرز واقعا عسكريا بحكم هذه الممارسات. بمعنى استخدام الحواجز الامنية مثلا كآليات للفصل والحجز، أو استخدام البوليس للحملات الأمنية الشرسة والتي تتم عبر اللجوء الى تشكيلات عسكرية لإخضاع المناطق الشعبية وإرهابها بشكل عام لفرض الضبط والسيطرة. هذه الأدوات مع ترسخ استخدامها تنتج واقعا معسكرا. إذ أن وزارة الداخلية تصبح كيانا عسكريا وليس فقط أمنيا وضبطيا وشرطيا. كما أن علاقاتها مع عموم السكان تصبح مقسمة إلى علاقات عدو وحلفاء، مصحوبة دائما بتوجس وكره لعموم السكان. أما القطر نفسه حيث تمارس سيادة السلطة السياسية عليه، فيصبح مقسما هو الآخر بشكل حربي ويتم عسكرة مساحات كبيرة منه وعزلها بشكل صارم. فمثلاً، الجيش والدولة المصرية تتعامل مع الصحراء (أغلب مساحة مصر) كمجال يجب عسكرته بكافة الأشكال، وليس فقط إدارته وضبطه كما هو الحال المفترض في أي مكان طبيعي.
ميلاد الاستثناء: الاستعمار والقانون الحديث
الاستثناء في مصر بدأ مع 1883، أي مع إدخال القانون الحديث نفسه في البلد. ولم يكن الاستثناء نتاجا لطوارئ أو هدفه المباشر القمع السياسي. فما أحاول طرحه هو أن الاستثناء كان نتاج تفاعل أمرين مع بعضهما البعض: التناقض والتكامل بين الدولة البوليسية والدولة القانونية، وضروريات الحكم طبقاً لإطار محدد من الاقتصاد السياسي وترتيباته الإقليمية داخل القطر المصري.
الاضطراب السياسي الذي خلفته الثورة العرابية تزامناً مع أزمة مالية عميقة في مصر، دفع الإنجليز إلى احتلال مصر والسيطرة على وزارتين مباشرة هما المالية والداخلية. فكان الهدف من السيطرة على المالية إعادة تنظيم سياسات مصر المالية وإطار عملها المؤسسي لجعلها قابلة وقادرة على تسديد ديونها. أما الداخلية فهي عصب الحكم والسيطرة في مصر، وهي ايضاً الإدارة نفسها. الاستعمار الإنجليزي بشكل عام، وليس في مصر فقط، وتحديداً في البلدان التي قام باستعمارها بشكل كثيف وحضور موسع، كان يسعى حثيثاً لإدخال سيادة القانون فيها. ليس حباً أو رغبة في تحديث هذه البلدان، ولكن لتنظيمها بشكل كفء وإدماجها في الاقتصاد العالمي. هذا الأمر كان متداخلا ومركبا في الحالة المصرية التي لم تشهد حضورا استعماريا كثيفا وواسع النطاق من قبل الإنجليز مثلما كان الحال في مناطق أخرى. ولكنها في المقابل شهدت تأثيرا استعماريا واسع النطاق وتغييرا في أبنية الحكم والإدارة ناتجة عن عملية متداخلة بين الاستعمار الإنكليزي والدولة المصرية ونخبها الحاكمة.
فبعض مدارس التاريخية المؤسسية historical institutionalism تشير إلى أن نتائج التنمية في البلدان التي تم استعمارها وسيادة القانون كإطار مؤسسي لعمل السوق والرأسمالية فيها، اعتمدت في أغلبها على هوية المستعمر نفسه وتصوراته وإدارته للموارد (Matthew, Mahoney and Mattias 2006 ). وبعضهم قام بتحليل مقارن شديد الأهمية لاختلاف النتائج بين الدول التي تم استعمارها من قبل إسبانيا وتلك التي تم استعمارها من قبل بريطانيا. ولكن التناقض والتفاوت داخل الدول التي تم استعمارها من قبل الإنجليز مثير للتأمل. ومصر تحديداً حالة هجينة في نتائجها سواء على مستوى التنمية أو فيما يتعلق بمسألة سيادة القانون. وهي النقطة التي أحاول فهم بعض جوانبها في هذا النص. الاستعمار الإنجليزي في مصر لديه تشابه كبير مع حالة “الاحتلال” الأمريكي لكل من اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. في الحالات الثلاث، جاء الاحتلال على بنية دول معقدة وحديثة ولها تقاليد حكم عريقة ولم يكن الهدف منه الحكم المباشر، ولكن التحكم في السلطة والقدرة على السيطرة والتحكم في مخرجات عملها. ولهذا لم يحطم هذا النوع من الاحتلال إمكانيات جهاز الدولة، ولم يقم أبدا بتغييره بشكل جذري. بل على العكس، تضاعفت قوة أجهزة الدولة وقدرتها على السيطرة والضبط وكفاءة عملها المؤسسي. ومن هنا يذهب البعض مثلاً إلى اعتبار، أن سيادة المستعمر وسيادة جهاز الدولة، لم يكونا على طرفي نقيض، حيث ارتبطت قوة الاستعمار بقوة جهاز الدولة وسيادته داخل الحيز المحتل. ولهذا لا عجب أننا نستطيع رصد تطور ملحوظ في كفاءة عمل الوزارات في مصر، وبالأخص جهاز الداخلية الذي شهد تطورا نوعيا ضخما وتحديثا شاملا لبنيته التحتية والبشرية. وبشكل عام يمكن أن نرصد أن الإنجليز كانوا جادين في إدخال سيادة القانون الحديث. ولخص كرومر إنجازاته في جملة إنشائية تقول إن البريطانيين قد نجحوا في القضاء على ال 3Cs، وقصد بذلك Corvee, Corruption and Corbaj، أي الفساد والسخرة والكرباج. ثم جاءت حادثة دنشواي التي تعرض فيها فلاحون مصريون إلى أشكال مختلفة من التنكيل وصلت إلى حد الإعدام من قبل ضباط إنجليز لمجرد صيدهم للحمام من الغية (أماكن تربية خاصة لهذا النوع من الطيور)، لتوضح تهافت مقولات كرومر وادعاءاته عن إنجازات الرجل الأنجلوسكسوني في مصر. ففي أول اختبار حقيقي لسلطة الاحتلال عمد إلى استخدام الكرباج بنفس الشكل الوحشي والاستعراضي الذي كان يلوم الرجل الشرقي عليه.
واستنادا إلى الخبرة البريطانية في الهند، أنشأ البريطانيون ما يعرف بمحاكم الأخطاط وهي محاكم تتشكل من الأعيان ورجال الإدارة ولا تتقيد بضوابط المحاكمات التي توجد في القوانين العادية. وركزت هذه المحاكم عموما على المسائل الجنائية والنظر في القضايا الصغيرة وإصدار أحكام غير قابلة للطعن. وفي سنة 1912، تم إنشاء مائتين من محاكم الأخطاط التي تستخدم إجراءات مبسطة وقضاة غير محترفين (منحدرين في غالبيتهم من طبقات الأعيان الريفيين). وكلاهما لم يتم تحديثها بشكل جاد على الرغم من محاولة سن قوانين لتنظيمها. ولكن بالقطع قام الإنجليز بتطوير وتحديث المنظومة القانونية والقضائية في مصر. الأمر الذي كان يلاقي حماسة كبيرة لدى النخب المصرية نفسها على اختلاف مواقعها. فكما يشير نثيان براون (Brown 1995)، كانت النخب المؤيدة للتحديث والمؤمنة بأهمية بناء جهاز دولة كفء، بعيداً عن الديمقراطية بل يمكن القول بشكل استبدادي، متطلعة لجعل سلطة القانون والبنية القضائية شديدة القوة وذلك لترسيخ هيمنة الدولة ورفع كفاءة الحكم والسيطرة. والنخب ذات الميول الليبرالية او التي كانت تريد الحد من توحش الدولة، كانت ايضاً تتطلع لسيادة القانون. ولذلك ارتبط تعريف سيادة القانون في مصر، وبالأخص مع تطور المدارس القانونية بها، بالحد أو كبح توغل الدولة البوليسية وتقليل الطابع الاعتباطي للسلطة. بصيغة أخرى عنت سيادة القانون عدم إطلاق يد السلطة التنفيذية بشكل مطلق في الحكم، ووضع أطر قانونية حاكمة لسلطتها، وخلق جملة من الحقوق لحماية الأفراد والمجتمع من توحش السلطة التنفيذية. وقد تتبع كل من هند زكي محمود والياس جولد برج مفهوم سيادة القانون في مصر، وأكدا على أنها تعتمد على الحد من توحش الدولة البوليسية. وأشارت سامرا إزمير (Esmire 2013)، إلى أن وجود نخبة قانونية متعلمة في أوروبا بسبب البعثات التعليمية، خلقت طبقة اجتماعية لديها مصلحة حقيقة ووظيفية في خلق وإنشاء نظام قضائي حديث في مصر.
ويجادل أحمد عزت بأن “سيادة القانون لم تُقدَّم كوسيلة لتحقيق العدالة وحماية حقوق الأفراد، بل كضرورة لسيطرة الدولة على المجتمع، وتحقيق الكفاءة الإدارية، وتوفير بيئة قانونية عقلانية للمجموعات التي تعتبر مهمة للنمو الاقتصادي” (عزت 2021، 297).
المنطق الاستعماري في مصر في تفاعله مع شروط وتطلعات النخب المصرية حاول العمل على ثلاثة محاور. اعتمد الأول على تعظيم قوة جهاز الدولة وترشيده وجعله أكثر كفاءة. في حين اجتهد الثاني في فرض سيادة القانون ومزيد من إدماج مصر في السوق العالمي. أما الثالث فكان تطوير الدولة البوليسية وتحديثها. النتائج تفاوتت بشدة، وإن كانت الغلبة للأخير. أما سيادة القانون، فالأمر كما سنرى سيتحول إلى حالة مكتملة من الشيزوفرانيا المؤسسية والتي سيكتب لها الديمومة حتى يومنا هذا.
تجدر الإشارة إلى أن 1883 لم تكن أولى محاولات مصر فرض سيادة القانون. كما لا ينبغي تصور أن كل ما سبق 1883 كان محكوما حصريا بقوانين ولوائح طاغوتيه. فكما أوضح خالد فهمي ورودولف بيترز[ (Fahmy and Peters 1999)، شهدت مصر عدة محاولات لتحديث البنية القانونية وخلق قوانين منظمة لعمل السلطة والمجتمع منذ منتصف القرن التاسع عشر. وقد زاحمت المجالس السياسية المجالس الشرعية، وتم تبني الطب الشرعي في البلاد. وقد سبقت اللائحة السعدية في 1862 عدة بلدان أوروبية، في خلق مرجعية قانونية حديثة تؤطر عمل السلطة وحدودها. وقد اعتنت هذه اللائحة بتحديد عمل الشرطة ونظمت العقوبات البدنية، ومنحت بعض الحقوق للفلاحين في التظلم بشأن بعض أشكال التعسف الذي قد يتعرّضون لها. تكمن أهمية 1883 في أنها شكلت أكثر محاولات التحديث نجاحاً في بناء القانون الحديث وتنظيمه في شكل موحّد، وشهدت ميلاد الخطاب الحقوقي حول الضمانات الإجرائية والقيمية في عملية إنفاذ القانون ، كما أسّست لعموميّة القانون وتجريده بشكله الحديث كما نعرفه اليوم.
ماذا حدث إذن بعد 1883؟ ميلاد الاستثناء. لم يمر الكثير من الوقت، حتى دخلت مصر في مسار من عملية طويلة وممتدة من الحكم اللامحدود – أي مسار متناقض تماماً مع سيادة القانون. إذ أنّ تفشّي الجريمة، ووجود قوى عمل غير منظمة، ووضع اجتماعي شديد الاضطراب شكل أزمة للحكم والسيطرة. ولكن هذه المرة كان هناك قانون حديث وجملة من الحقوق والضمانات الإجرائية. فبدأت الدولة المصرية وخلفها الاستعمار في تفخيخ سيادة القانون من الداخل. ففي عام 1885 تم إنشاء ما يعرف بلجان أو كومسيونات الأشقياء. وهي محاكم بوليسية كانت تتبع المديريات المختلفة، ظهرت في مرحلة أولى في مصر السفلى ثم امتدّت إلى مصر العليا. وفي عام 1885 ايضاً، أصدر الخديوي توفيق فرمان موغل في نسف سيادة القانون الحديث تجاه ما يعرف بالعربان. فقد أتاح الفرمان للبوليس والمديريات أخذ أسرى من أهالي العربان حتى يقوم المشتبه فيهم بتسليم أنفسهم للسلطة. فقد تعاملت الدولة مع قطاع معتبر من السكان تعاملا حربيا يقضي باحتجاز أسرى من السكان والتفاوض عليهم. وعليه تم نسف ركنين أصيلين في القاعدة القانونية أي العمومية والتجريد وفردية العقوبة. وبالتوازي، استمرّ العمل بآلية احتجاز الأسرى كإحدى وسائل السيطرة على السكان في الحيّزين الريفي والمديني، منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. إذ أنّ أحد استخدامات قانون الطوارئ في عهد مبارك، على سبيل المثال، كان تطبيقا شبيها لفرمان الخديوي، ولكن بشكل مستتر سمح لوزير الداخلية من القبض على الأفراد بناء على الاشتباه فيهم، واحتجاز أهالي المطلوبين ومساومتهم بأفراد عائلاتهم. ومن أجل فضّ النزاعات بين العائلات، كانت الداخلية تقوم بالقبض على أهالي طرفي الصراع لإجبارهم على التفاوض. بل في أحيان كثيرة، كانت هذه الممارسة تتمّ بطلب من الوجهاء وقيادات المحاكم العرفية للمديريات أو رؤساء المباحث. وبالطبع، توسّعت هذه الممارسة على المستوى السياسيّ فكان أمن الدولة يقبض على أهالي المطلوبين سياسياً.
في عالم ما بعد 1883، تمّت إدارة الصحراء من خلال هذا الفرمان، والوادي من خلال لجان الأشقياء. ولكن كان شيء آخر شديد الأهمية يحدث بالتوازي في الوادي. إذ أنّ تنظيم الإنتاج الزراعي والحيازات الزراعية تحت الإدارة الإنجليزية أتاح لأصحاب الإبعاديات وكبار الملاك تنظيم هذه المساحات كما يحلو لهم. وكان الإنجليز أكثر اهتماماً بالعمليّة الاستخراجية واستغلال فائض قوة العمل، ولهذا لم يكن هناك داعٍ جدّي يحملهم على تخليص وتحرير المصريين من هذا النوع من الاستعباد. بل على العكس، فقد كانت ضرورات الاقتصاد السياسي تدفع لترسيخه. ولذلك، وعلى الرغم من أن الإنجليز أشاروا في أكثر من مرة إلى ضرورة تقليص حجم الملكية واسعة النطاق وإعادة توزيع الأرض، إلا أن هذا لم يترجم ابداً في قرارات جادة، باستثناء بعض حيازات الأسرة المالكة لاسترجاع بعض الديون. ولم يحدث حتى انقلاب 1952 أي إصلاح زراعي جاد أو إعادة توزيع الأرض على الرغم من التفات الاستعمار الإنجليزي لهذا الأمر. ولاحقاً شكلت مسألة إعادة توزيع الأرض إحدى نصائح الولايات المتحدة للملك فاروق حتى لا ينفجر النظام الاجتماعي. وفي الصحراء الشرقية تحديداً، أصدر الإنجليز ما يعرف بقانون الملح، الذي فخخ بالكامل هذا المجال وجرم حق المصريين بشكل عام والسكان المحليين بشكل خاص في أن تمتد يدهم لثرواتهم ومواردهم الطبيعية. الأمر الذي دفع بقطاع عريض من سكان الصعيد إلى السجن في القاهرة طبقاً لراسل باشا حكمدار القاهرة في الأربعينات من القرن العشرين.
وبحلول 1910، تم اصدار قانون النفي الإداري، الذي لم يكن أقلّ حدة أو تفخيخاً لسيادة القانون من لجان الاشقياء. ويمكن أن نلاحظ أنه ابتداء من سنة 1883 حتى 1914، التي شهدت إصدار أول قانون أحكام عرفية، هدف الاستثناء بالخصوص إلى إحكام السيطرة على عموم السكان بشكل يومي أكثر منه بشكل سياسيّ. وحدها محاكمة دنشواي التي كانت أكثر أشكال الاستثناء ترويعاً، استهدفت السياسة بشكل مباشر.
وحتى تتّضح الصورة أكثر، أودّ هنا التعريج على جغرافيا القانون والاستثناء. فقد خضعتْ منطقة القناة للعسكرة وطبّقت عليها قوانين خاصّة لعدة أسباب، كان أهمها تأمين المجرى الملاحي، ولوائح وتنظيم الكرانتنيات ومحاصرة الأوبئة ومنع انتقالها إلى أوروبا عبر قناة السويس، خصوصا بعد تفشي الكوليرا قبل وبعد 1882 (Huber 2013). وبالطبع كانت العسكرة تهدف أيضا إلى مراقبة مسارات الحج والعمرة وكذلك بسبب توتر دائم، يطول شرحه، بين القبائل العربية في سيناء والسلطة المركزية في القاهرة. أما الصحراء الشرقية فقد نظمت بقانون الملح كما أشرت، في حين خضع الوادي لكومنسينات الأشقياء والنفي الإداري. أما الساحل الشرقي والغربي، ولكونهما يشكلان مسارات تهريب للمخدرات ومحل هاجس كبير للاستعمار والدولة المصرية، فقد تمّ ترسيمهما كمناطق حدوديّة لا تنطبق عليها كل الضمانات القانونية والإجرائية التي تنطبق نظرياً في الأماكن الأخرى. أضِف إلى ما سبق، أن الدولة المصرية الحديثة التي دخلت في صراعات عديدة مع عربان الصحراء الغربية وأمازيغ الواحات من أجل فرض سيادتها وانتزاع الضرائب واجهت هناك ما يعرف بثورة العربان وأكثر من تمرد في واحة سيوة، جعل تعاملها مع هذه الأقاليم شديد الغلظة والعنف. وفي خضم هذه المواجهات، كانت الكتلة الأكبر من السكان وهم الفلاحون متروكين لسطوة كبار الملاك وتاليا مستثنين من جملة الحقوق الجديدة التي ضمنها نظرياً القانون الوضعي الجديد في 1883.
لم يتّسم الاستثناء المصري برفع الحالة القانونية عن الأفراد المصريين بل كان يقوم على ثلاثة أمور. الأول هو تفخيخ الجغرافيا وترتيبها كمساحات خاضعة لقوانين خاصة أو لا تنطبق عليها جميع الضمانات والحريات. والأمر الثاني هو استهداف قطاعات معينة من السكان بقوانين خاصة. والأمر الثالث هو سنّ قوانين استثنائية الطابع دون تعليق صريح لسيادة القانون أو إعلان كامل للأحكام العرفيّة أو الطوارئ لاحقاً.
تمثّل هذه الآليات الثلاث ميكانزمات تنظيم وإنفاذ الاستثناء من داخل المنظومة القانونيّة نفسها. فمن خلالها، تمّ ترسيخ الاستثناء يداً بيد مع نمو وتوسّع سيادة القانون. فقد شاهدنا كنتيجة لذلك تطوير بنيتين قانونيتين وقضائيتين: الأولى استثنائية والأخرى طبيعية. وكلاهما له تقاليد عريقة في تنظيم المحاكم (كآلية واختراع وأداة) وأيديولوجيا قوية، وقوانين ولوائح. ما حدث في هذه الفترة التاريخية هو أن احتكاك دولة القانون بضروريات الحكم والسيطرة ودوافع ونتائج اقتصاد سياسي قائم على التراكم البدائي، أنتج حالة من الاستثناء الدائم. وسيأتي قانون الأحكام العرفية في 1914 كمحطة أخيرة لتنظيم العلاقة بين الدولة البوليسية والدولة القانونية. فبنية الاستثناء في مصر عملت كجسر بين الدولتين. والاستثناء نفسه كان نتاج الاقتصاد السياسي والترتيبات الإقليمية والسكانية للجغرافيا، بما يتيح أكبر قدر من العملية الاستخراجية وتهميش عموم السكان منها واستغلال قوة العمل بها.
في عالم 1923 وظهور أول دستور
بين سنوات 1883 و 1923، جرى ماء كثير تحت الجسر. ففي 1919 شهدت مصر ثورة عارمة، حطمت فيها جوانب كبيرة من البنية التحتية لوزارة الداخلية. فقد أحرقت الجماهير أكشاك البوليس، وهاجمت المديريات واشتبكت مع قوات الأمن بشكل موسّع وبالأخصّ في الموجة الأولي التي كانت ريفية الطابع وشديدة العنف. والأهم في سياقنا هذا، أن هذه الفترة شهدت تطورا ملحوظا في القانون والبنية القضائية. وقد صاحب ذلك، وبسببه ايضاً، تمحور جانب كبير من العمل السياسي حول النضال القانوني. كما كان من نتائج ذلك أنّ أغلب النخب السياسية كانت ذات خلفيات قانونية، وهو الأمر الذي سيشكّل ملمحا رئيسيا لطبيعة هذه النخب. كما سيأخذ النضال القانوني في هذه الفترة طابعا معولما، الأمر الذي سيظلّ ساريا إلى اليوم لكنه في شكل مؤسسات حقوق الإنسان.
أنتجت الثورة في 1919 أول دستور مصري حديث أفرزه نضال النخب المصرية الدؤوب. وقد شكل هاجس الدستور كضمانة سياسية لصيانة الحقوق والحريات وتنظيم العلاقة مع الدولة ملمحا شديد المركزية لطبيعة النضال السياسي في مصر وتوجهات النخبة. وهو مرتبط بالأساس بعجز بنيويّ وتاريخيّ متجدّد لهذه النخب في تصعيد الصراع الاجتماعي. فلا يمكن فهم تطوّر الاستثناء وتجذّر الدولة البوليسية الدائم دون ربطهما بكبار ملّاك الأراضي الزراعية واستغلالهم لقيمة وقوّة العمل الفلاحيين تحديداً. فقد كانت هذه الطبقة شديدة الرجعية ويمينية الطابع، رفضت الاستثمار الجاد في التحول الصناعي والتجاري في مصر. وهو ما يشكل أحد أسباب تخلف الاقتصاد المصري، إضافة بالطبع إلى وقع الاستعمار عليه. ولكن الملاحظ أن قوة العمل في مصر بشكل عام لم تشهد تطورا حقيقيا، وبالتالي ظل التحديث دائما مرتبطا بتضخم قوة الدولة البوليسية ونهب فائض القيمة أكثر منه بتطور القوى الاجتماعية نفسها. وظلّت الطبيعة الهائمة لقوة العمل، وتدفّق موجات الهجرة إلى المدن ضاغطة على المراكز المدنية من حيث عمليات السيطرة والضبط خصوصا مع تصاعد موجات الجريمة إبان الحرب العالمية الأولى، وتفشي ظاهرة المطاريد والأشقياء في المجال الريفي، والبلطجة في المجال المديني.
ولد إذا في 1923 أول دستور مصري. وأصرّ الإنجليز على إقحام مادة الأحكام العرفية فيه. ومنذ ذلك التاريخ، دخلت مصر في بندول. فكلما رفعت الأحكام العرفية، كان يتمّ تكثيف إنتاج قوانين ذات طابع استثنائي. وليس مصادفة أنه ومنذ سنة 1923 وإلى حدود الأربعينات، تمّ إصدار عديد القوانين المتعلقة بالاشتباه، والتشرّد والتي تشكل انعكاسا حقيقيا لأزمة الدولة المصرية منذ مطلع القرن التاسع عشر. إذ أنّ حركة عموم السكان لم تكن يوما مرحّبا بها بوصفها مدعاة للتوجّس والاشتباه (Ener 1999 and 2002) . ففي العهد العثماني، كان هناك ما يعرف بتصريح السفر الداخلي الذي كان يهدف إلى الحدّ من موجات الهجرة الريفيّة إلى المراكز المدينية في الإمبراطورية العثمانية وبالأخص إلى الموانئ. ثم طور محمّد علي هذه التقنية أثناء بناء الجيش الحديث (Fahmy 1997) . ومع مرور الوقت، أصبح الحكم من خلال الاستثناء الذي أخذ شكل قانون الأحكام العرفية جزءا متأصّلا في بنية الدولة المصرية. الأمر الذي جعل الحكومات المتعاقبة تسعى إلى تحرير الاستثناء من الرقابة القضائية كما سنرى ذلك لاحقاً.
أجمعت كلّ دساتير مصر على أن من يقرر إعلان حالة الاستثناء هو رأس الحكم في البلاد، ولم تحد كل النصوص الصادرة لاحقا عن هذه القاعدة إلا بتغيير كلمة الملك برئيس الجمهورية. واتفقت كل الدساتير على ضرورة عرض إعلان حالة الطوارئ على مجلس الشعب/الأمة/البرلمان واختلفت فقط على المدة الزمنية المحددة لعرضها على البرلمان وعلى وجوب دعوته للانعقاد على وجه السرعة أم لا إذا كان منحلا أو غير منعقد. إذ أنّ دستور 1923 ينصّ في المادة 45 على أن “الملك يعلن الأحكام العرفية ويجب أن يعرض إعلان الأحكام العرفية فورا على البرلمان ليقرّر استمرارها أو إلغاءها، فإذا وقع هذا الإعلان في غير دورة الانعقاد وجُب دعوة البرلمان للاجتماع على وجه السرعة”. ونصّت المادة 144 من دستور 1956 على أن “يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه المبين بالقانون ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس الأمة خلال الخمسة عشر يوما التالية له ليقرر ما يراه في شأنه فإن كان مجلس الأمة منحلا يعرض الأمر على المجلس الجديد في أول اجتماع له”. ونصت المادة 126 من دستور سنة 1964 على “أن يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه المبين في القانون ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس الأمة خلال الثلاثين يوما التالية له ليقرر ما يراه بشأنه فإن كان مجلس الأمة منحلا عرض الأمر على المجلس الجديد في أول اجتماع له. ونص دستور 1971 في مادته رقم 148 على الآتي: “يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه المبين في القانون ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس الشعب خلال الخمسة عشر يوما التالية ليقرر ما يراه بشأنه وإذا كان مجلس الشعب منحلا يعرض الأمر على المجلس الجديد في أول اجتماع له. وفى جميع الأحوال يكون إعلان حالة الطوارئ لمدة محددة ولا يجوز مدها إلا بموافقة مجلس الشعب”. أما قانون الطوارئ الذي يعمل به حتى الآن فيؤكد على أن “إعلان حالة الطوارئ وانتهاءها” يتمان “بقرار من رئيس الجمهورية”.
وتعاقبت الدساتير المختلفة في تعريف الاستثناء وبناء ترسانة من القوانين الحاكمة والمنظمة له. أي أن الأمر يتعلق بمنظومة كاملة ذات بنية تحتية شديدة التعقيد تضمّ محاكم استثنائية لها تاريخ طويل من العمل مثل المحاكم العسكرية ومحكمة أمن الدولة العليا للطوارئ ونياباتهم، وجرائم خاصة بحالة الطوارئ معرفة تعريفا دقيقا طبقاً لقانون الطوارئ وتطوير وتعقيد تمّ إدخاله على النصوص القانونية على مدار عقود طويلة. هذه الجرائم المعرفة طبقاً لقانون الطوارئ تحكم مجمل حركة السكان ونشاطهم الإنساني من حمل السلاح الأبيض والاجتماع السياسي والاجتماع بشكل عام الذي يشمل أي فعل منظم، والتموين وما يشمله من أنشطة أبسط مثل البقالة والمواد الغذائية، والبناء أيضاً الذي أقحم في نطاق اختصاص القانون، والنشر والمعلومات. وتخضع حالة الطوارئ في مصر لمراقبة قضائية كاملة. ونظريا، لا ينظر المشرع المصري إلى الاستثناء كحالة مطلقة، بل هي مقيدة ومراقبة بالقانون والقضاء. وبالطبع عمليا يمكن الوقوف على العوار الكبير في تطبيق القانون في أماكن الاحتجاز والسجون.
والحقيقة أنّ السّلطة التنفيذية في مصر أبدت على الدوام امتعاضا شديدا من تقييد حركتها بالقانون والقضاء ضمن عملها الدائم تحت حالة الاستثناء التي أحكمت يدها على المجتمع وقيّدت حريّاته وحقوقه بموجب القانون. ولذلك حاولت مرارا إدراج الأحكام العرفية تحت مظلّة “أعمال السيادة” حتى تتحرّر من رقابة القضاء المصري في تطبيق الأحكام العرفية.
فمنذ نهايات العشرينات إلى 1952، عرفت المحاكم المصرية معركة شديدة الأهمية دارت على مستويين. تعلق الأول بمحاولة إدماج ما يعرف بالأعمال البوليسية في نطاق صلاحيات السيادة. أما الثاني فكان محاولة إدماج الأحكام العرفية نفسها وما ينتج عنها من محاكم عسكرية في أعمال السيادة أيضا. هذه المحاولات التي امتدّت على مدار ما يزيد عن ثلاثة عقود، تخلّلها العمل بالأحكام العرفيّة أحيانا ورفعها في أحيان أخرى شهدت تعقيدا في المنظومة القضائية فتعاظم العبء على كاهل الدولة البوليسية إلى الحدّ الذي دفع الأخيرة إلى محاولات عدة لإسقاط الصفة القانونية عن قانون الأحكام العرفية. بلغة أكثر عسكرية انتقلت الدولة البوليسية من محاولة تضمين نفسها داخل التشريعات والمنظومة القضائية، وتوظيف بعض جوانب دولة القانون لصالحها إلى محاولة اجتياح دولة القانون بالكامل. لكن هذه المحاولة ولدتْ مقاومة شديدة من الحقل القانونيِّ، والقضائي، والتشريعيِّ. وانتهت هذه المعركة لصالح الدولة القانونية. فحاولت الحكومات المتعاقبة إدراج أعمال الضبطية الإدارية؛ بناءً على حالة الضرورة في نطاق أعمال السيادة. وكذلك فعلت مع العديد من أمور الضبطية القضائية والمسائل الخاصة بالصحافة، ومصادرة المطبوعات طبقًا لقرارات وزير الداخلية. من جهتها، حاولت وزارة الداخلية توسيع صلوحياتها لتشمل مسائل الجنسيّة وإبعاد الأجانب، والإجراءات البوليسية الخاصة بتنظيم الصحة، وتلك الخاصة بالأمن العام، والنظام العام في أوقات السلم والظروف العادية.
وكما يشير عبد الفتاح ساير داير ، مدرس القانون العام الأسبق بجامعة عين شمس ، تأثرت مصر ببعض التوجهات داخل المدرسة الفرنسية في محاولات إخراج الأعمال البوليسية من نطاق الرقابة القضائية والتي ذكرتها في الفقرة السابقة، وبعض قرارات مجلس الدولة الفرنسيِّ في تبنّي هذه الإجراءات، وبالخصوص في ما يتعلق بأعمال البوليس طبقًا لنظرية “الضرورة”. إلّا أنّ المشرّع المصريِّ والقانونيين المصريين كانوا على بينة من تطور التشريع والأحكام الفرنسية والتي ألغت وأجهزت على هذا التوجه لاحقا. وانعكس هذا على ما كان يعرف برأي “جمهور المحاكم” قبل إنشاء مجلس الدولة. فرفضتْ أغلب المحاكم هذا التوجه ومحاولات الحكومات المختلفة. ولم يحدث هذا التماهي بين نظرية “أعمال السيادة” وأعمال البوليس”. ووصل الأمر ذروته في مناقشة مجلس النواب لمشروع قانون الحكومة عن أعمال السيادة في 1946. فقد دارت سجالات عنيفة حول الفقرة الأولى من نص المادة السادسة من قانون رقم 112. وتمحور الخلاف حول الجزء المتعلق بالتدابير الخاصة بالأمن الداخليِّ. وانتقد الأستاذ أحمد بريري المادة كاشفًا أنها عبارة مطاطة قد تؤدي إلى إخراج كثير من المسائل من اختصاص مجلس الدولة. ثم هاجمها بوضوح أكثر مجاهرًا بتخوّفه من إمكانية أن تشمل مرسوم إعلان الأحكام العرفية نفسه والأوامر التي تصدر بناءً عليه، بحيث تصبح جميع الأوامر التي يصدرها الحاكم العسكريِّ خارجة عن رقابة مجلس الدولة. فأن يتقرّر ذلك يجعل إعلان الأحكام العرفية بمثابة دكتاتورية مجرّدة، “في حين أن كلّ ما نقرّره يجب أن يتّسق مع نظامنا الدستوريِّ الديمقراطيِّ، وما دام هناك مجلس دولة فلا بدّ أن يكون من حقه أن ينظر، هل تجاوز الحاكم العسكري سلطته، أم لم يتجاوزها”.
وحسم مجلس الدولة في حكمه الصادر في القضية رقم 568 لسنة 3 جلسة 30 يونيو سنة 1952 موقفه في اعتبار التدابير التي يتخذها القائم على إجراء النظام العرفي سواء كانت تدابير فردية، أو تنظيمية ليست إلا قرارات إدارية يجب أن تتّخذ في حدود القانون، و يتعيّن تباعا أن تخضع لرقابة القضاء بالشكل المباشر وغير المباشر. واستند المجلس في ذلك إلى “أن نظام الأحكام العرفية في مصر وإن كان نظامًا استثنائيا، إلا أنه ليس بالنظام المطلق، بل هو نظام خاضع للقانون وضع الدستور أساسه، وبيّن القانون أصوله وأحكامه، ورسم حدوده وضوابطه، فوجب أن يكون إجراؤه على مقتضى هذه الأصول والأحكام، وفي نطاق هذه الحدود والضوابط، وإلا كان مَا يتخذ من التدابير والإجراءات -مجاوزًا لهذه الحدود، أو منحرفًا عنها – عملاً مخالفًا للقانون تنبسط عليه رقابة هذه المحكمة”.
وقد التفت الضباط الأحرار لاحقًا لدور مجلس الدولة في فرض الرقابة القضائية على الأحكام العرفية، والإجراءات الاستثنائية. فأصدر محمد نجيب في 18 يناير 1953 مرسوم بقانون رقم 36 لسنة 1953 والذي اعتبر كل تدبير اتخذه، أو يتخذه القائد العام للقوات المسلحة – بوصفه رئيس حركة الجيش التي قامت في 23 يوليو 1952- بقصد حماية هذه الحركة والنظام القائم عليها، من قبيل أعمال السيادة التي لا يجوز الطعن فيها أمام محكمة القضاء الإداريِّ بمجلس الدولة”.
إلا أن هذه المحاولات انتهت بعد استقرار نظام 1952. ولم تقدم السلطة على هذا الأمر مرة أخرى، وذلك لعدة أسباب: طيلة الفترة من 1952 إلى 1967 رفع قانون الطوارئ فقط من 1964 إلى 1967 وشهور قليلة في 1956 قبل حرب السويس. وكانت الدولة بالقوة التي سمحت لها بالبطش بخصومها السياسيين وأتاحت لها التسلح بعدة قوانين إضافية مكنتها من حرية حركة كبيرة. ثم وفي عهد مبارك، وهي الحقبة الأهم في تاريخ الاستثناء، شهد القانون عدة تطويرات داخلية زادت من قوته وعمّقت من تغوله في كافة مساحات المجتمع.
الخلاصات
تاريخ مصر الحديث هو تاريخ من الاستثناء الدائم والذي لم يكنْ في أغلبه موجّها للقمع السياسي لا من حيث أهدافه القانونية أو توجّهات الحكم. الاستثناء كان موجّها لحكم عموم السكان على أساس يوميّ فلم يقم بنزع الحالة القانونية عن الأفراد، ولكنه خلق إطارا قانونيّا سمح بإطلاق يد الدولة البوليسية في حكم المجتمع.
والاستثناء ليس فقط أداة لفرض مزيد من الحكم والسيطرة والقمع والبطش. بل أنه في المحصلة نتاج لأشكال وأنماط محددة من الاقتصاد السياسي التي تدفع لإيجاد ترتيبات إقليمية للجغرافيا والسكان تخلق استثناء دائما في عمليات الإخضاع والسيطرة والاستخراج. وإنه لمن المهم الالتفات منهجياً في دراسة الاستثناء والأمننة إلى أبعاده التقنية والتنفيذية والهيكلية أكثر منه إلى الجانب الخطابي. فالمدخل التقني يسمح بالتقاط أشكال وأنماط التمفصل التي تخلق الاستثناء بعيداً عن التلاعبات الخطابية واللغوية. وهو ما يستدعي منهجياً أيضاً ضرورة مقاربة الاستثناء من زاوية الاقتصاد السياسي المنتج له، أكثر من الاعتماد على المداخل الحقوقية والدستورية التي ستنتج في أفضل الأحوال تتبّعا لمسارات الانتهاك أو التجاوز القانوني أو الدستوري لها.
على مدار العقود، أصبح الاستثناء متاصّلا في بنية الدولة، وأصبحت هذه الأخيرة غير قادرة على إنفاذ الحكم والسيطرة بدونه. وهو ما جعل وزارة الداخلية شديدة الاستسهال في انتهاك المجتمع ولا تستطيع ضبطه من دون خرق واسع لحقوقه وحرماته. الفشل البنيوي الدائم للاقتصاد المصري، أطلق العنان للدولة البوليسية. لأن الفشل المتعاقب في تنظيم قوى العمل، أنتج أشكالا من العنف والغلظة في مواجهتها. كما أن غياب تطور رأسمالي كابح لجماح الدولة البوليسية في تدمير وسحق أجساد قوى الإنتاج، جعل هذه الأخيرة قادرة لا فقط على تحمل تكلفة تعطيل حركة السكان في عموم القطر المصري، بل وكذلك تكلفة عملية الاشتباه الدائم فيهم. وعليه أصبحت الدولة البوليسية صمام أمان لضمان هذه الترتيبات الاقتصادية والاجتماعية.
ولأن عموم السكان غير مندمجين لا في الثروة ولا في السلطة، فهم دائماً ما يتم تصنيفهم كخطر بغضّ النظر عن حقيقة أفعالهم، وهو ما يجعل البطش استباقي الطابع ومسرحيّ التمظهر. ولأن الكتلة السكّانية أيضاً غير منظّمة لا في المكان ولا في الزمان، فإن البطش هو الآخر شديد السّيولة ودائم، وغير محدّد بزمان أو مساحة. فالقمع مثلاً لقطاع من العمال المنتجين والمنظمين داخل المصانع يكون عادة محددا في المكان والزمان ، أي موجها إما لمنع خلق تنظيمات عمالية جذرية أو لوضع حدّ للإضراب أو الاعتصام.
ولكن في الحالة المصرية ولأن أغلب قوى العمل سائلة الطابع، فقمعها يجري على أساس يومي وسائل. وربما لا عجب إذن أن النظام الناصري – الأكثر قمعية واستبدادا على المستوى السياسي والأمني- كان الأقلّ بطشاً على المستوى البوليسي اليومي. ولم تكن ظاهرة الرعب من أقسام الشرطة أو تفشّي التعذيب لعموم السكان ظاهرة أصيلة ويومية في العهد الناصري. فالتعذيب كان منحصرا في النطاق السياسي في السجون المخصصة له.
أخيراً، الاستثناء تشكل مع سيادة القانون ومن خلاله. طبيعة الاستعمار الإنجليزي في مصر، والترتيبات التي عقدها مع كبار الملاك إضافة إلى نمط الزراعة، وأشكال الاستخراج، عززت وفجرت الاستثناء ولكنها أيضاً رسّخت دولة القانون. إذ أنّ ضبط المعاملات التجارية، وإعادة تنظيم السوق وإدماج مصر أكثر في الاقتصاد العالمي، دفع إلى ترسيخ سيادة القانون. وقد ظهرت مع الاستعمار ثلاث عمليات متوازية: تحديث الدولة البوليسية وتعظيمها، وتحديث الدولة القانونية، وأخيرا تشكل الاستثناء الحديث. وقد قام الاستثناء بلعب دور تاريخي مهم من حيث أصبح الجسر الذي ربط وعزّز التكامل بين الدولة البوليسية والدولة القانونية. وقد سمح الاستثناء للدولتين بالنمو والازدهار دون أن يقضي أحدهم على الآخر. فتعاظمت تباعا بنية القانون الطبيعي وقضائه، كما تعاظمت بالتوازي بنية الاستثناء وقضائه وآلياته.
وهو ما انتهى بمصر إلى حالة من الانفصام الشديد بين دولة القانون وسيادة الاستثناء.
*****
تأتي هذه الورقة في سياق تحول عمل الباحث الي التركيز على المساحة الدقيقة بين القانون والامن، وهي تشكل نقلة في طبيعة تطور المنهج وتتنزل ضمن ثلاثة أعمال للباحث وهما مجتمع الاشتباه الدائم والذي تم نشره من خلال المركز المصري ثم عمله الحالي على الدكتوراه والتركيز على تفاعل اليات الامننة وإنتاج الاستثناء على اساس روتيني. وتعد هذه الورقة نقطة وسيطة وتطور منهجي ضمن مشروع كبير مع المركز المصري حول القانون والشيزفرنيا في مصر ومسالة تعثر انفاذ القانون. مجمل هذه الاعمال ليست متطابقة ولكنها متكاملة من حيث انها تمثل محاولة بناء لبناة مشروع أكبر للاشتباك مع مسالة القانون والامن والحداثة في مصر . (علي الرجال)
تشكر المفكرة القانونية الرسام عبده برماوي والمصوّرين أحمد ناجي دراز وحسام حملاوي على إهدائها لوحاتهم وصورهم.
Bibliography
Abd.al-Fattāḥ, Sāyir Dāyir. 1955. Naẓarīyat Aʻmāl Al-Siyādah: Dirāsah Muqāranah Fī Al- Qānūnayn Al-Miṣrī Wa-Al-Faransī (The Theory of Acta Jure Imperii: Compartive Study between the French and Egyptian Laws). Cairo: Maṭbaʻat Jāmiʻat al-Qāhirah.
Agamben, Giorgio. 1998. Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life. Stanford, CA: Stanford University Press.
Agamben, Giorgio. 2015. Stasis: Civil War as a Political Paradigm. Edinburgh: Edinburgh University Press.
Agamben, Giorgio. 2005. State of Exception. Translated by Kevin Attell. Chicago and London: The University of Chicago Press.
Agamben, Giorgio. 2009. What Is an Apparatus? and Other Essays. Translated by David Kishik and Stefan Pedatella. Stanford. California : Stanford University Press.
Arendt, Hannah. 1985. The Origins of Totalitarianism. San Diego, NY, London: Harcourt Brace.
Arendt, Hannah .1993. Between Past and Future. New York: Penguin Books.
Arendt, Hannah. 2005. The Promise of Politics. New York: Schocken Books.
Arendt, Hannah. 2006. Human Condition. Second Edition. Chicago, IL: University of Chicago Press.
Ansari, Salah Al. 2013. Extension of the state of emergency between judicial oversight and acts of
sovereignty: There is no immunization for any administrative action in the face of judicial تمديد-حالة-/oversight. October 22. Accessed October 12, 2021. https://legal-agenda.com .الطوارئ-ما-بين-الرقابة-ال
Belton, Rachel Kleinfield. 2005. ‘Competing Definitions of the Rule of Law, Implications for Practitioners’. Carnegie Papers, Rule of Law Series 55.
Beach, Derek, and Rasmus Brun Pedersen. 2013. Process-Tracing Methods: Foundations and Guidelines. Ann Arbor: University of Michigan Press.
Bigo, Didier, and Anastassia Tsoukala. 2008. Terror, Insecurity and Liberty: Illiberal Practices of Liberal Regimes after 9/11. London: Routledge.
Brown, Nathan. 1995. Retrospective: Law and imperialism: Egypt in comparative perspective, Law & Society Review, 29: 103–126.
Brown, Nathan. 2007. The rule of law in the Arab World: Courts in Egypt and the Gulf. Cambridge: Cambridge University Press.
Elliesie, Hatem. 2010. Rule of Law in Egypt, in Matthias Koetter / Gunnar Folke Schuppert, Understandings of the Rule of Law in various Legal orders of the World, Rule of Law Working Paper Series Nr. 5, Berlin (ISSN 2192‐6905).
Ener, Mine. 1999. “Prohibitions on Begging and Loitering in Nineteenth-Century Egypt.” Die Welt des Islams (Brill) 39 (3): 319-339.
Ener, Mine. 2002. “At the Crossroads of Empires: Policies toward the Poor in Early-to Mid- Nineteenth- Century Egypt.” Social Science History (Cambridge University Press) 26 (2): 393- 426.
Esmeir, Samera. 2012. Juridical Humanity: A Colonial History. Stanford: Stanford University Press.
Elgohari, Mohamed. 2022. “Deconstructing the Relation between Law and Authoritarianism: How Law Consolidated Authoritarianism in Post-2011 Egypt.” Arab Law Quarterly 1–24.
Ezzat, Ahmed. “Law, Exceptional Courts and Revolution in Modern Egypt.” Routledge Handbook on Contemporary Egypt, 2021, 296–308. https://doi.org/10.4324/9780429058370-27.
Fahmy, Khalid. 1997. All the Pasha’s Men: Mehmed Ali, His Army and the Making of Modern Egypt. Cambridge: Cambridge University Press.
Fahmy, Khalid. 2018. In Quest of Justice: Islamic Law and Forensic Medicine in Modern Egypt. Oakland, CA: University of California Press.
Fahmy, Khalid. 1999. “The Police and the People in Nineteenth-Century Egypt.” Die Welt Des Islams 39, no. 3 (1999): 340–77. http://www.jstor.org/stable/1571253.
Fahmy, Khalid, and Rudolph Peters. “The Legal History of Ottoman Egypt: [Introduction].” Islamic Law and Society 6, no. 2 (1999): 129–35. http://www.jstor.org/stable/3399309.
Foucault, Michel. 2003. Society Must Be Defended. New York: Picador.
Foucault, Michel. 2009. Security, Territory, Population. New York: Picador.
Goldberg, Ellis , and Hind Ahmed Zaki. 2011. “After the Revolution: Sovereign Respect and the Rule of Law in Egypt.” Yearbook of Islamic and Middle Eastern Law 16: 17–32.
Mahoney, James. 2000. “Path Dependence in Historical Sociology.” Theory and Society (Springer) 29 (4): 507-548.
Neal, Andrew W. 2011. “Goodbye War on Terror? Foucault and Butler on Discourses of Law, War and Exceptionalism.” In Focuault: On Politics, Security and War, edited by Michael Dillon and Andrew W. Neal, 43-56. London: Palgrave macmillan.
Peters, Rudolph. “The Islamization of Criminal Law: A Comparative Analysis.” Die Welt Des Islams 34, no. 2 (1994): 246–74. https://doi.org/10.2307/1570932.
Peters, Rudolph. “Islamic and Secular Criminal Law in Nineteenth Century Egypt: The Role and Function of the Qadi.” Islamic Law and Society 4, no. 1 (1997): 70–90. http://www.jstor.org/stable/3399241.
Peters, Rudolph. “State, Law and Society in Nineteenth-Century Egypt: Introduction.” Die Welt Des Islams 39, no. 3 (1999): 267–72. http://www.jstor.org/stable/1571249.
Peters, Rudolph. “Divine Law or Man-Made Law? Egypt and the Application of the Shari’a.” Arab Law Quarterly 3, no. 3 (1988): 231–53. https://doi.org/10.2307/3381823.
Peters, Rudolph. “Administrators and Magistrates: The Development of a Secular Judiciary in Egypt, 1842-1871.” Die Welt Des Islams 39, no. 3 (1999): 378–97. http://www.jstor.org/stable/1571254.
Reza, Sadik. 2007. Endless emergency: The case of Egypt’, New Criminal Law Review, 10(4): 532-553.
Schmitt, Carl. 2004. Legality and Legitimacy. Durham: Duke University Press.
Schmitt, Carl. 2008. Political Theology: Four Chapters on the Concept of Sovereignty. Chicago: University of Chicago Press.
Huber, Valeska. 2013. Channelling Mobilities: Migration and Globalisation in the Suez Canal Region and Beyond, 1869–1914. Cambridge: Cambridge University Press.
Lange, Matthew, James Mahoney, and Matthias vom Hau. 2006. “Colonialism and Development: A Comparative Analysis of Spanish and British Colonies.” American Journal of Sociology 111 (5): 1412-1462. https://doi.org/10.1086/499510.
نظرية الظروف الاستثنائية (دراسة مقارنة في فرنسا وفي مصر): سيادة القانون- حالة الضرورة – .١٩٧٨ .علي, احمد مدحت .القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب .القوانين الاستثنائية
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.